تفسير القرآن
المجادلة / من الآية 12 إلى الآية 13

من الآية 12 الى الآية 13

 

الآيتـان

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* أَأشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (12ـ13).

* * *

معاني المفردات

{أأَشْفَقْتُمْ}: الإشفاق، الخشية.

* * *

التصدق عند لقاء الرسول

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وهذا نداء للمؤمنين في مجتمع الرسول، أن يتصدقوا في كل لقاءٍ لهم بالرسول، ليكون ذلك دافعاً لهم إلى أن تكون مناجاتهم له منطلقةً من الروح الإيمانية التي تلتقي بالله في مواقع القرب إليه، وهي الصدقات التي تمثل العطاء الذي يتقرب به الإنسان إلى ربه، فلا يكون لقاؤهم به في المناجاة، التي تأخذ كثيراً من وقته وتشغله عما هو فيه، مجرد لقاءٍ للحديث العادي الذي لا غنى له ولا فائدة، بل يكون لقاءً خاضعاً للروح الإيمانية التي تستهدف رضا الله في كل أفعالها وأقوالها. وليقلل ذلك من اللقاءات التي كانت تشغل وقت الرسول بمناسبةٍ أو غير مناسبة، ليتحسسوا مسؤوليتهم عنه وعن وقته الذي هو وقت الرسالة في حركتها في حياة الأمة، في الدعوة وفي الجهاد.

{ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} لأنكم تخرجون بذلك من الأجواء العادية التي تلتقون فيها ببعضكم البعض، لتجدوا في لقاء الرسول معنىً روحياً يرتبط بالعطاء الذي يقدمه إليكم في ما تحتاجون إليه من شؤون دينكم، من خلال العطاء الذي تقدمونه للفقراء في ما يحتاجونه من أموالكم.

وقد علل صاحب الميزان ذلك بقوله: «ولعل الوجه في ذلك، أن الأغنياء منهم كانوا يكثرون من مناجاة النبي(ص)، يظهرون بذلك نوعاً من التقرب إليه والاختصاص به، وكان الفقراء منهم يحزنون بذلك وتنكسر قلوبهم، فأمروا أن يتصدقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم بما فيها من ارتباط النفوس وإثارة الرحمة والشفقة والمودة وصلة القلوب بزوال الغيظ والحنق»[1].

ونلاحظ على ذلك أن المسألة لا ترتبط بالجانب الاجتماعي في علاج عقدة الفقراء من الأغنياء في لقاءاتهم المتكررة مع الرسول(ص)، لأن من الممكن علاج ذلك بإتاحة الفرصة للفقراء في اللقاء بالرسول1 بالمستوى نفسه، كما أنّ العطاء الذي يقدمه الفقراء لا يغني عن الحاجة إلى ذلك اللقاء، لأن الجانب الروحي والفكري الذي يتطلعون إليه، في ما يحتاجون إليه من الحصول على زادٍ فكريِّ أو روحيِّ منه، لا يعوّضه المال الذي يتصدق به الأغنياء. وبذلك كانت المسألة، في دائرة الاحتمال، ترتبط بالجانب الداخلي في مضمون الصدقة الروحي، تماماً كما هي العبادة في مقدماتها العملية، والله العالم.

* * *

الصلاة عند ٌعدم التمكّن من الصدقة

{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} مالاً تقدمونه بين يدي نجواكم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في ما يعرفه من ظروفكم وأوضاعكم التي تمنعكم من ذلك، فيغفر لكم ما قد تكونون قصرتم فيه، ويرحمكم بالعفو عما عجزتم عنه.

وربما كان هذا التكليف موجباً لبعض الحرج الذي قد يعانونه في هذا الالتزام المتكرر في اليوم الواحد، في ما قد يطرأ من الحاجات اليومية في مناجاتهم للنبي(ص)، الأمر الذي أوجب انشقاقهم منه، في ما يفرضه عليهم من صدقاتٍ متتابعة، فقصَّر بعضهم، أو تحدث البعض الآخر في ضرورة رفعها، أو عن السبب الموجب لها، في ما لا يفهمونه من أسبابها. وهكذا جاءت الآية التي تناقش ردّ فعلهم عليه لترفع ذلك عنهم، على أساس أن التشريع الموقت قد أدى مهمته في إثارة الاهتمام بمسألة مناجاة المسلمين للنبي(ص) وتقديرهم لمسؤولية وقته، وضرورة التأكيد على المسائل المهمة في ما يطلبونه من موعدٍ للمناجاة، فلا تكون القضية لديهم قضية وقتٍ ضائعٍ يريدون أن يقطعوه معه، أو مسألةً تافهةً يريدون أن يثيروها أمامه، بل تكون القضية قضية المهمات المعقّدة التي تفرض الحاجة الملحة للّقاء به، بحيث لا يستغنى عنها بالحديث مع غيره. فجاءت الآية الثانية لترفع ذلك عنهم، ولتؤكد الالتزام بالخط العام في التقرب إلى الله، وهو الصلاة التي هي معراج روح المؤمن إلى الله، والزكاة التي تمثل العبادة التي يمتزج فيها العطاء الروحي بالعطاء المادي في ما تمثله الزكاة من حالةٍ عباديةٍ رائعة.

{أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ} فكان رد الفعل امتناعكم عن مناجاته خوفاً من دفع الصدقة، أو امتناعكم من دفعها في إلحاحكم على طلب مناجاته، ما يوحي بضعف الالتزام الديني في حياتكم، {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} تهاوناً أو استخفافاً أو تمرداً {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} فغفر لكم ذلك بعد أن تحقق للتشريع بعض غاياته، في ما أثاره من جدالٍ ومناقشة ووعي للمسألة المتصلة بالنبي في وقته الثمين لحساب الرسالة {فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في التشريعات العامة التي تمثل خط الحياة الذي تتحرك الرسالة من أجل أن تقود الناس إلى الالتزام به، لتبقى حياتهم مشدودةً إلى ما يصلح أمرهم عند الله في حسابات الدنيا والآخرة، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} مما يرضيه أو مما يسخطه في السر والعلانية.

وجاء في الدر المنثور عن علي(ع) قال: «إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها بعدي، آية النجوى {يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت النبي (صلى الله عليه وسلّم) قدمت بين يدي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}»[2].

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:19، ص:196.

(2) السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993م ـ 1414هـ، م:8، ص:84.