تفسير القرآن
المجادلة / من الآية 14 إلى الآية 21

 من الآية 14 الى الآية 21
 

الآيــات

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * لَّن تُغْنيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ* اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (14ـ21).

* * *

معاني المفردات

{أَيْمَانَهُمْ}: الأيمان جمع يمين وهو الحلف.

{جُنَّةً}: الجنة السترة التي يُتَّقى بها الشر كالترس.

{مُّهِينٌ}: المهين اسم فاعل من الإهانة بمعنى الإذلال والإخزاء.

{اسْتَحْوَذَ}: الاستحواذ الاستيلاء والغلبة.

{كَتَبَ}: الكتابة هي القضاء منه تعالى.

* * *

حديث المنافقين في المدينة

وهذه لفتةٌ قرآنيةٌ إلى المنافقين في المدينة الذين كانوا يتحركون بين المؤمنين وبين اليهود في حركةٍ ازدواجيةٍ، تنفتح على المؤمنين تحت عنوان الإيمان من دون عمقٍ في الفكر وفي الشعور، وتلتقي مع اليهود تحت عنوان آخر من دون شموليةٍ في الموقف، وبذلك كانوا يعيشون الاهتزاز الروحي والعملي على أكثر من صعيد. وما زال القرآن يقود المسلمين إلى وعي الفكرة والموقف، في موقفهم من هؤلاء، من خلال تعريفهم بملامحهم التي تعرفهم بحقيقتهم في صعيد الواقع.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} وهم اليهود الذين تولاهم هؤلاء المسلمون، فاندمجوا في مخططاتهم، والتزموا بمواقفهم، واعتبروا أنفسهم فريقاً لهم في كل قضايا السلم والحرب، {مَّا هُم مِّنكُمْ} لأنهم لم يعلنوا الإيمان ويمارسوه في الموقف ليندمجوا بالمجتمع المؤمن اندماجاً روحياً وعملياً ليكونوا جزءاً منه، {وَلاَ مِنْهُمْ} لأنهم إذا كانوا يلتقون معهم بالموقف والمصلحة، فإنهم لا يستطيعون أن يدخلوا في المجتمع اليهودي كجزءٍ منه، لأنه مجتمعٌ مغلقٌ لا يسمح للآخرين من غير اليهود أن يدخلوا فيه وينفذوا إليه بطريقةٍ عضويةٍ، انطلاقاً من العنصرية التي يختزنها أفراده في تفوق العنصر اليهودي على سائر البشر، بل كل ما هناك أنهم يستغلون الثغرات الموجودة في كل مجتمعٍ، لينفذوا إليه من خلالها، وليعبثوا فيه ما أمكنهم العبث، وليفسدوا فيه ما أمكنهم الإفساد.

وهكذا كان هؤلاء المنافقون مذبذبين في الموقف بين اليهود وبين المؤمنين، ما يجعلهم يفقدون شخصيتهم الأصيلة، في ما هو الانتماء الروحي والفكري على مستوى الاستقرار والثبات.

{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وتلك هي سيرتهم عندما يشعرون بأن المؤمنين لا يمنحونهم الثقة، أو يخيل إليهم ذلك من خلال القلق النفسي الذي يعيشون فيه على أساس الواقع النفاقي الذي يتمثل في داخلهم، فيلجأون إلى الحلف الكاذب الذي يحاولون فيه تغطية أوضاعهم السرية المشبوهة، وإخفاء مواقفهم السيئة، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} لأنهم يمثلون في نفاقهم الخطورة الكبيرة على المجتمع المسلم في ما يكيدون له، وفي ما يكيد له الأعداء من خلالهم بإثارة المشاكل في داخله، وتحريك عناصر الخوف في مواقعه {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لأنهم ينطلقون فيه من العقدة الخبيثة الكامنة في مواقع الحقد والعداوة من شخصياتهم، ما يجعلهم في حركةٍ دائمةٍ للإضرار بالإسلام والمسلمين.

{اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي درعاً يتقون به من الأفكار الاتهامية التي يحملها المسلمون تجاههم، فيعملون على تأكيد إخلاصهم وصدقهم ومزاعمهم بالأيمان الكاذبة، للإيحاء بالموقف القوي الثابت الذي يقفونه، وبالعمق الإيماني الذي يتمثلونه. وهكذا كان البسطاء من الناس يصدقونهم، ويثقون بأيمانهم، فينجذبون إليهم، وينقادون لهم، وينفِّذون مخططاتهم.

{فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وأبعدوا هؤلاء البسطاء الطيبين من المسلمين عن خط الاستقامة، وقادوهم إلى مواقع الانحراف في متاهات الضلال التي يتحرك فيها الشيطان بكل حريةٍ في إضلال الناس وإبعادهم عن الله، {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يسحق أوضاعهم الاستعراضية وزهوهم الاستكباري وتعاظم شخصياتهم، ليواجهوا المهانة في العذاب يوم القيامة في مقابل الامتيازات الطارئة المنتفخة التي كانوا عليها في مواقف النفاق.

{لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً} لأن القوة التي تقدمها إليهم الأموال أو يتحرك بها الأولاد، قد تغني عنهم أمام قوة الناس، ولكنها لا تغني شيئاً أمام قوة الله التي لا يثبت أمامها شيء، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأنهم عملوا لها من خلال الروحية الخبيثة السوداء التي تختفي وراء مواقفهم، فتتحرك أعمالهم العدوانية في هذا الجو، لتقهر القوة الإسلامية بكل قوة، لمصلحة الكفر والكافرين، والاستكبار والمستكبرين.

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} لأن هذه العادة قد تأصّلت في نفوسهم بحيث أصبحت جزءاً منن شخصياتهم، فيمارسونها بشكلٍ عفوي من دون شعورٍ، فلا يفكرون أن الحلف الكاذب أمام الناس قد يمر عليهم، فلا ينكشف أمره لوجود بعض الحواجز التي تحجب الحقيقة عنهم، ولكن الحلف أمام الله لا يمكن أن يمر من دون انكشاف الكذب فيه، فهو الذي يعلم سرهم كما يعلم علانيتهم، فلا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء. فكيف يمكن لهم أن يواجهوا المسألة بهذه الطريقة؟ إنها الغفلة المطبقة على العقول والأفكار التي تمنع الإنسان من التفكير السليم.

{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} من الثبات على القاعدة التي تحمي مواقعهم ومواقفهم ومصائرهم، ولكنها القاعدة المهتزة اهتزاز النفاق في مواقعه وحركته، فلا استقرار لهم على شيءٍ، تماماً كما هو الذي يتحرك في الفراغ، فلا شيء إلا الهواء، ولا مجال إلا للسقوط، {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} في دفاعهم عن أنفسهم في الآخرة، تماماً كما هو الحال في الدنيا.

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فأحاط بكل أفكارهم، فلم ينفتحوا على فكر الحق، ونفذ إلى قلوبهم، وتمكن منها، وتحرك في كل نبضاتها وخفقاتها، وامتد إلى كل آفاقها، فلم يطلّوا على آفاق الله ورحاب الخير ومواقع الإيمان، وانطلق إلى مواقع خطواتهم فبعثرها، وانحرف بها عن الصراط المستقيم، وأثار فيها الكثير من أجواء الشر والفساد، {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} في الكلمة، فلا تنطلق به ألسنتهم، وفي الموقف فلا تعي حضوره ذهنياتهم، فاستغرقوا في الباطل كله، يقدسون رموزه، ويتحركون في مخططاته.

* * *

أولئك حزب الشيطان

{أُوْلئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} لأنهم التزموا منهجه، واتبعوا خطواته، وصاروا من جماعته، وعاشوا في أجواء إغراءاته وتهاويله، وابتعدوا عن الله، وكذبوا رسله، ورفضوا شريعته.

{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ففقدوا النعيم في الجنة، وعاشوا في عذاب النار وبئس المصير.

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بالعناد والاستكبار والتمرد عليه وعلى رسله ورسالاته {أُوْلَئِكَ فِي الأذَلِّينَ} لأنّ العزة لله جميعاً، فهو الذي يملكها في ذاته المقدسة، وهو الذي يمنحها لغيره في ما يهيئه من أسبابها وفي ما يعطيه من مواقع القوة فيها، فلا عزة لغير الله إلا منه، فكيف ينطلق هؤلاء المنافقون ليأخذوا العزة من المشركين واليهود، وماذا يملك أولئك منها ليستمدوا قوتها من قوتهم؟ وإذا كان الأمر في الدنيا بهذه المثابة؟ فكيف يواجه هؤلاء الموقف يوم القيامة حيث يكون الأمر كله لله؟

{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} كيف نتصوّر هذه الغلبة، هل هي الغلبة في الحجة، في ما تمثله حجة الإيمان من قوةٍ، وفي ما تختزنه حجة الكفر من ضعفٍ، أو هي الغلبة في الإسناد الغيبـي، في ما يؤيد الله به رسله من إنزال الآيات المعجزة، أو إنزال العذاب على المكذبين من الكافرين والمشركين، أو هي الغلبة في ساحة الصراع في حركة القوة، لتكون الغلبة للمؤمنين على الكافرين في تأكيد الوجود الإيماني في عقائد الناس، وفي حركتهم العملية في خطوطه التشريعية؟

قد يكون الظاهر من الآية إرادة الغلبة بكل هذه المعاني، في ما يريد أن يؤكده من غلبة المؤمنين على الكافرين في كل مواقع الصراع.

* * *

كيف نفهم غلبة الله ورسله؟

وقد يثير البعض بعض علامات الاستفهام حول مسألة الغلبة في الواقع، لما نلاحظه من سيطرة الكفر على الإيمان في قوّته العملية، لما يملكه من وسائل القوة المدمرة الساحقة في كل مجالات الحياة العامة والخاصة، مما لا يملك الإيمان إلا القليل القليل منه. فكيف نفسر ذلك؟

والجواب عن ذلك أنّ من الممكن أن يكون المقصود بالغلبة هنا هو انتصار الإسلام على الكفر، على صعيد النتائج العملية، عندما يفشل الكفر في محاولاته الكثيرة في إبعاد الإسلام عن الواقع الفكري والعملي، فيندفع الناس إلى الإيمان به، واعتناق أفكاره، والتزام مناهجه وشرائعه، ليسقط الكفر في ساحة الصراع، فلا يستطيع القضاء على الإيمان والمؤمنين. وهكذا رأينا القضية تتجسد في الموقف القوي للإيمان، ثم يعود الصراع من جديد، وهكذا يستمر التحدي، وينطلق الإيمان، وينزل الله غضبه على الكافرين ويدخل الناس في دين الله أفواجاً.

وهكذا تكون الغلبة باستمرار الإيمان قوةً تفرض نفسها على الفكر وعلى الواقع، من دون أن يستطيع الآخرون إبعادها عنه، ما يجعل من الغلبة غلبةً على إرادة الكفر في إسقاط الرسالات، ليبقى للإسلام دوره وقوته. ثم تمتد الحياة ليكون الدين كله لله في نهاية المطاف.

{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فهو الذي يحرك قوته على أساس الحكمة، ويؤكد عزته في هيمنته على الأمر كله، في نطاق القوانين التي وضعها للحياة وللإنسان بحكمته، مما لا يجعل من إفساح المجال لبعض قوى الكفر مظهر ضعف أو انتقاصٍ من عزة الله وقوته، بل يكون ذلك من تقدير الله وتدبيره، في ما أراده من حركة الاختلاف بين الناس، من خلال حكمته.