المقدمة
سورة الممتحنة
مدنية وآياتها ثلاث عشرة
في أجواء السورة
في هذه السورة حديثٌ عن طبيعة العلاقات الواقعية بين المؤمنين والكافرين، في جانبها النفسي والعملي، حيث يوجّه الله النداء للمؤمنين أن لا يتخذوا أعداء الله وأعداء المسلمين أولياء، في ما تعنيه الولاية من المودة القلبية ومن الدعم العملي، لأن ذلك يمثل السذاجة في فهم مسألة الصراع، كما يسيء إلى طبيعة الموقف القوي الذي ينبغي للمؤمنين أن يتخذوه في قضية المواجهة بين الكفر والإيمان.
ومن جهةٍ أخرى، فإنه يسيء إلى عمق الروحية الإيمانية في شخصية المؤمن في علاقته بالله التي تفرض عليه أن يوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، لأن مسألة العقيدة لا تمثل حالةً ذهنيةً منعزلةً عن حركة الموقف، بل تمثل الأساس في تحديد الموقع على مستوى الموقف والعلاقات، ما يجعل من مسألة التمايز في الخطوط والمواقف مسألةً متصلةً بالنتائج العملية الكبيرة على صعيد تأكيد الواقع وتثبيته وتقويته وعلوّ درجته لمصلحة الإيمان. فإذا كان الإيمان بالله يجسد الأساس لدى الإنسان في الفكر والروح، فلا بد من أن يكون منعكساً بطريقةٍ سلبيةٍ على أعداء الله، وبطريقةٍ إيجابيةٍ بالنسبة إلى أوليائه.
وليست المسألة هي مسألة انفصال الإنسان المؤمن كلياً عن غير المؤمنين بالله، لأن ذلك لا ينسجم مع الأسلوب العملي للدعوة في اجتذاب الآخرين للإيمان، من طريق الأخلاق العالية المنفتحة على الآخرين من الكافرين، ليروا في المؤمن أخلاقية الإسلام في رحمته وبرِّه وعدله مع الآخرين الذين لا يرتبطون بالدين الذي يرتبط به، فيكون ذلك هو المدخل الذي يستطيعون من خلاله الدخول إلى الإسلام الحيّ المتحرك في كل مواقع الإنسانية، في ما يؤكده من مراعاة الجانب الإنساني الذي يلتقي كلّ الناس فيه على القضايا الإنسانية المشتركة، في الوقت الذي يؤكد على مراعاة الجانب الديني، في ما يتفق فيه المؤمنون في العقيدة والشريعة والمنهج.
بل المسألة هي مسألة انفصال المسلم عن الكافرين الذين يضمرون ويظهرون ويمارسون العداء النفسي والعملي للإسلام والمسلمين، فيعملون على محاربتهم وإخراجهم من ديارهم، الأمر الذي يجعل المعركة مفتوحةً بكل وسائلها وأوضاعها بين المؤمنين وبينهم، بما يقتضيه الوضع الحاسم المستقبليّ الذي لا يسمح بأي نوعٍ من أنواع التراخي والتسامح والتعاطف الساذج، ولذلك فلا يجوز برّهم والإحسان إليهم والموادة معهم. أما الذين لا يتحركون في دائرة العدوان ويقتصر الأمر لديهم على الاختلاف مع المسلمين في العقيدة، فلا مانع من برهم والعدل فيهم والإحسان إليهم والتعايش معهم في المجتمع الواحد، أو في البلدة الواحدة أو البلدان المتعددة.
وهكذا تتحرك السورة لتؤكد هذا الخط من خلال استعادة تجربة إبراهيم(ع) والمؤمنين معه في انفصالهم عن أهلهم وقومهم، حتى أن إبراهيم تبرأ من أبيه عندما اكتشف أنه عدوّ الله.
ثم تتحدث السورة عن المؤمنات المهاجرات اللاتي يأتين إلى المدينة فراراً بدينهن خوفاً من الضغوط القاسية من أهلهن لإخراجهن من الدين، فتطرح السورة القضية على أساس امتحانهن في صدقهن في ذلك، فإذا عُرف الصدق، فلا يجوز للمؤمنين إرجاعهن إلى الكفار تحت تأثير أيّ وضعٍ أو أيَّة معاهدة تفرض ذلك.
وتختم السورة بالحديث عن قدوم النساء الكافرات إلى النبيّ ليبايعهن على الإسلام، فيأمره الله بمبايعتهن على قضايا معينةٍ بارزةٍ تتّصل بالأمانة التي تحملها المرأة في حياتها العائلية، بالإضافة إلى توحيد الله والالتزام بأوامره ونواهيه، وتنطلق نهاية السورة في التأكيد على المؤمنين أن لا يحبّوا مَنْ غضب الله عليهم ممن يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
* * *
اسم السورة
جاء اسم السورة «الممتحنة» باعتبار أن المسألة البارزة فيها تتمثل في امتحان المؤمنات المهاجرات، في صدقهن في إيمانهن، وهي المسألة الحيوية التي لم يرد لها ذكر في مكان آخر من القرآن، بينما ورد ذكر الامتناع عن موالاة أعداء الله في أكثر من سورة، مما اقتضى توجيه الأنظار إلى هذه المسألة من مواضيع السورة، لا سيما أنها تتصل بالدور الإيماني في قضية المرأة التي تتكامل مع الرجل في هذا الجانب، وتؤكد على عمق الإيمان الذي ينتصر على العاطفة عندها.
تفسير القرآن