من الآية 1 الى الآية 3
الآيــات
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيل* إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ* لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1ـ3).
* * *
تنبيه المؤمنين إلى معاداة أعداء الله
{يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا هو النداء الأول الذي يخاطب المؤمنين من خلال عنوان الإيمان، ليوجههم إلى التفكير بما يفرضه عليهم ـ في مضمونه الإيحائي ـ من مواقف ومشاعر على مستوى الممارسة الخاصة في الجانب الذاتي من حياتهم، وعلى مستوى العلاقات في الجانب الاجتماعي العملي من سلوكهم، لأن الإيمان يمثل المنهج الكامل في حركته في طبيعة الشخصية المؤمنة في الداخل والخارج، ما يفرض على المؤمن أن يستثيره في نفسه في كل مجالات حياته.
* * *
لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء
{لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} لأن مسألة العداوة تختزن في داخلها الحقد في الشعور والرغبة في التدبير، والتخطيط للهلاك والعمل على إرباك الوضع كله من حولكم، فليس من الطبيعي أن توالي عدوك وتمحضه المودة، فالموالاة تعبّر عن الانفتاح عليه في الموقف، والابتعاد عن الحذر منه، والاستسلام العفويّ لمخططاته، والاسترخاء أمامه، كما أن المودة له توحي بالعاطفة التي تأكل كلَّ معاني الرفض الداخلي، وتسقط الحواجز النفسية ضده، وتؤدي بالتالي إلى الاستخفاف بالعناصر المهمة المتصلة بمضمون الفواصل العقيدية والفكرية والعملية، ما يبتعد المؤمن معه عن الصلابة في حراسة الخط الذي يميزه عن خطوط الآخرين، عندما يهدم السدود الفاصلة بينه وبينهم. وفي ضوء ذلك، لا تكون العداوة حالةً نفسيةً ذاتيةً رافضةً، بل تكون حالةً فكريةً تمتزج بالشعور الرافض الذي يتحول إلى رفضٍ للفكرة التي ترفض فكرةً أخرى، في عملية رفض العلاقة بالذات التي تمثل التجسيد الحيّ للفكرة، ما يجعل من الموقف العدائي عملية رفضٍ لحركية الفكرة من خلال الذات.
وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ} فليس هناك أيَّة قاعدةٍ فكريةٍ وروحيةٍ وعمليةٍ تربطهم بكم، فمن أين جاء أساس المودة التي لا بد من أن ترتكز على التوافق في الفكر والموقف {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} في ما يمثّله ذلك من موقفٍ عدواني عنيفٍ، يتميّز بالقهر الوحشي الذي لا ينسجم مع أيَّة حالةٍ شعوريةٍ إيجابيةٍ، بل يجتذب المعنى السلبي من خلال ثأر الإنسان لكرامته ولعلاقته بأرضه، ولالتزامه بإيمانه. ولم يكن هذا الإخراج القهري المتعسف ناتجاً من حالةٍ ذاتيةٍ تؤدي إلى أن يختلف الناس مع بعضهم البعض، فيكون ردُّ الفعل قتالاً أو تهجيراً أو نحو ذلك، بل كان ناتجاً عن الخط الإيماني التوحيدي الذي يضادّ الخط الكافر الإشراكي {أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} فذلك هو سر المشكلة المعقدة فيما بينكم وبينهم، فكيف تغفلون عن ذلك وتستهينون به، في الوقت الذي لا يتناسب فيه موقفكم الموالي لهم مع خطّ الجهاد الذي ينطلق على أساس مواجهة كل القوى المعادية بالرفض القويّ الذي يعمل على كسر شوكة العدو، وتدمير مواقعه ومواقفه، فلا تسيروا في هذا الاتجاه المنحرف، {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً في سَبِيلِي} من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله {وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي} بالعمل على ما يرضاه الله في مواقع طاعته فإن الذي يتحرك في مسيرة الجهاد ويطلب رضا الله، لا يوالي أعداءه، ولا يتحرك في مواقع سخطه.. {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} حتى لا يظهر موقفكم للمؤمنين، وتقعوا في الحرج من ذلك، ولهذا فإنكم تتجنبون الموقف العلني، وتلجأون للموقف السري، {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} فإذا كنتم تستخفون من الناس فكيف تستخفون من الله الذي يعلم السر والعلانية، {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} لأن السبيل السويّ يفرض على الإنسان أن تكون حركته في خط إيمانه، وأن يكون موقفه في مصلحة قضيته، وأن يكون سره وعلانيته في الحق سواء، وبذلك يكون الموقف الذي اتخذتموه منحرفاً عن خط الاستقامة.
{إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً} أي إن يظفروا بكم في أيِّ موقعٍ من مواقع الغلبة، فإنهم يعاملونكم معاملة الأعداء بالأسر والقتل أو التشريد، من دون أن تؤثر فيهم كل مظاهر المودة التي تقدمونها لهم، لأن عداوتهم تنطلق من عمق الشعور المعادي لما تمثلونه من خط الإيمان بالله، {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} كمظهرٍ من مظاهر العداوة الحاقدة {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} لأن كلّ الضغوط التي يوجهونها للمؤمنين تتحرك في خط الفتنة عن دين الله، لتكون الساحة كلها ساحة الشرك في عقيدته ومفاهيمه وممارساته، {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ} الذين قد تحسبون حسابهم في علاقاتكم الودية مع الكفار لتحفظوهم، ولتأمنوا عليهم منهم، إذا كانوا يعيشون في ديارهم، فما هي قيمة أن يرضى عنكم هؤلاء في ما تقدمون لهم من مواقف لحساب الكفار، إذا كان الله يغضب عليكم... لذلك عندما تقفون غداً بين يديه، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} ليكون الحكم الفاصل الذي يحسم الموقف في ما يختلف فيه الناس من كل القضايا المتصلة بمسألة الحق والباطل، فهو وحده الحاكم، وليس لأحدٍ أي تأثيرٍ في مسألة المصير، فالله يقضي على بعض الناس بدخول النار، ويقضي لبعضهم بدخول الجنة. وقيل: إن المراد بالفصل بين الناس هو تقطيع الأسباب التي تربط بينهم رابطة نسبٍ، أو رابطة صداقةٍ، أو زواجٍ أو نحو ذلك. والظاهر أن صاحب هذا القول ـ وهو العلامة الطباطبائي في الميزان ـ قد استوحى هذا التفسير من الفقرة الأولى التي تؤكد عدم انتفاع الإنسان بأرحامه وأولاده[1].
ولكنّ الظاهر أنها واردةٌ في سياق الحديث عن مواجهة حساب المسؤولية من دون أي ناصر حتى من أقرب الناس إلى الإنسان. وهذا ما تعبر عنه عبارة {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ} فلا حاجة لتأكيد مسألة انقطاع العلاقات بينهم يوم القيامة، لأن ذلك هو ما توحي به الكلمة، أما مسألة الفصل التي تعني قرار الحسم في مقام الجزاء، فإنها تنسجم مع عدل الله، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم التي تخضعون فيها للحساب، والله العالم.
* * *
مع حديث مناسبة النزول؛ عرض ومناقشة
وقد جاء في مناسبة نزول هذه الآيات في الدر المنثور في ما أخرجه أحمد والحميدي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم معاً في الدلائل عن علي قال: بعثني رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موضع في طريق مكة) فإن بها ظعينة (المسافرة) معها كتاب فخذوه منها فائتوني به.
فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب، أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي(صلى الله عليه وسلّم) فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناسٍ من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي(صلى الله عليه وسلّم)، فقال النبي (صلى الله عليه وسلّم): ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله إني كنت أمرءاً ملصقاً من قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني. فقال النبي (صلى الله عليه وسلّم): صدق.
فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال: إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزلت فيه {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}[2].
وقد لوحظ على هذه الرواية، أولاً: إن ما فعله حاطب لا ينطبق على جو الآية، لأن ما صدر منه لم يكن لوناً من ألوان الولاية للمشركين، بل كان حالةً طارئةً للتوصل إلى حماية أهله هناك، من خلال اليد التي يصطنعها عندهم، ولهذا لم يجد النبي في فعله شيئاً كبيراً، بل صدقه في اعتذاره وسكت عن أي إجراءٍ ضده.
وثانياً: إن ما جاء في الرواية ـ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ـ لا يمكن أن يؤخذ بظاهره ـ إذا كان النص صحيحاً ـ بل لا بد من توجيهه بما يتناسب مع القواعد الإسلامية في مسألة الجزاء وفي مسألة الرخصة، لأن ظاهره هو الرخصة لأهل بدر أن يرتكبوا ما شاؤوا من المحرمات، وأن يتركوا ما يشاؤون من الواجبات، وأن يبتعدوا عن أي خطٍ إسلاميٍ في كل مواقف الإنسان المسلم في الحياة، ما يعني إلغاء الحدود الإسلامية بالنسبة إليهم. وهذا مما لا يتقبله أيّ ذهنٍ إسلاميٍّ، لا سيما إذا عرفنا أن عظمة أهل بدر كانت من أجل حماية الإسلام من الضغوط القاسية التي يضغط بها أهل الشرك عليه، ليستقيم الخط الإسلامي في الحياة كما أراده الله أن يتحرك في حياة الناس، مع ما يمثله ذلك من قوة الإيمان، وروعة الالتزام في شخصياتهم. فكيف يكون ذلك أساساً للرخصة في الانحراف عن خط الالتزام؟!
هذا مع ملاحظة أن النبي حدَّ مسطح بن أثاثة، بعد ما نزلت براءة عائشة، وكان من الآفكين، في الوقت الذي كان فيه من السابقين الأولين من المهاجرين، وممن شهد بدراً كما في صحيحي البخاري ومسلم. ولا يبعد أن يكون هذا الكلام من النبي(ص) على تقدير صحة الرواية، وارداً على سبيل المبالغة في اعتبار الجهاد في بدر في قيمته بالمستوى الذي لا يدانيه عمل، بحيث كان مؤهلاً لأن يغفر الله للمجاهد كل ذنوبه، لأن النتائج العملية في معركة بدر تمثل الانطلاقة القوية للانتصار الذي ركز قاعدة المستقبل للإسلام.
ولكن هذا لا يمنع أن يؤاخذ المجاهد بذنوبه المستقبلية التي تمثل انحرافه عن المضمون العميق لبدر في محتواه الإيماني، فإن معنى ذلك أنه لم يحتفظ ببدريته في خط الاستقامة مع الإسلام، والله العالم.
ـــــــــــــــــ
(1) يراجع الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي، م:19، ص:238.
(2) الدرّ المنثور،ج:8، ص:125.
تفسير القرآن