تفسير القرآن
الممتحنة / من الآية 4 إلى الآية 7

 من الآية 4 الى الآية 7

الآيــات

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لاََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (4ـ7).

* * *

الله يحدِّد القدوة الحسنة للمسلمين

هل هذا الموقف الثابت على قاعدة الإيمان المتمرد على كل العواطف والعلاقات، الملتزم، أبداً، بالإيمان بكل قواعده وأوضاعه، المنفصل بكل قوةٍ ووضوح عن الفئات التي تلتزم بالكفر والشرك بكل مواقعه ومواقفه، هل هذا كله نهجٌ جديدٌ لا مثيل له في التاريخ ليكون حدثاً مثالياً لا يقترب من الواقع، أو هو صورةٌ حيةٌ لحدثٍ تاريخيٍّ عاش الفكرة في حجم القدوة، وعاشت القدوة فيه من أجل أن تصنع للمستقبل صورةً مماثلةً للماضي؟

* * *

إبراهيم ومن معه، هم القدوة الحسنة للمسلمين

هذه هي صورة الماضي كما جسّدها النبيّ ابراهيم(ع)، والمؤمنون معه، فماذا حدث لهم؟ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ} لأنّ مسألة الانتماء من وجهة نظر الدين تتجاوز الأطر المادية كالأرض، أو الصلات الترابية كالصلات العائلية، أو ما عداها من أطر تضيق وتتَّسع بحسب مكوّناتها وطبيعة عناصرها الجامعة، كالروابط العشائرية أو الوطنية أو القومية، تتجاوزها إلى الإطار العقائدي والروابط الدينية. فبالنظر الإسلامي، فإن الارتباط العقائدي هو الأساس الذي يمنح الهداية الحقيقية للإنسان، ويوفّر له الاستقرار والسعادة في الدارين، وذلك على النقيض تماماً من الكفر والشرك اللذين يجعلان الإنسان يتخبط في الضلالة خبط عشواء، ولا يستقر على حال من القلق والخوف، فلا يشعر بالأمن أو السعادة. من هنا، فإن خط التوحيد وخط الكفر والشرك والوثنية، لا يلتقيان، وبالتالي لا يمكن للمؤمنين أن يرتبطوا بالمشركين، لأنه لا يجتمع إيمان وكفر في موقعٍ واحدٍ، أو في قلبٍ واحدٍ. ولما كان الإيمان بالله شعارنا، وكان الشرك شعاركم، فلا بد من إعلان البراءة منكم باعتبار انفصالكم عن الله، {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، لأن هذه الأصنام تمثل الزيف والباطل والانحطاط المعنوي عن مستوى العقل الذي يحترم نفسه في اختيار مواقع إيمانه ورموز عبادته، بينما يمثل الله الحق كله، والعلوّ كله، والملك كله، والعزة كلها.

وإذا كانت البراءة هي الموقف، فإنّ من الطبيعي أن يكون الكفر بهم هو النتيجة {كَفَرْنَا بِكُمْ} لأنكم لا تمثلون أساساً للإيمان، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ} لأننا نعادي أعداء الله، ونبغض المتمردين عليه والمنحرفين عن خط رسالاته، وسيستمر ذلك {أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، ولا تشركوا به شيئاً، فذلك هو خطنا في الحياة في مسألة الموالاة سلباً أو إيجاباً، ولن ننحرف عنه في أي موقع من المواقع العامة والخاصة، ولم يحدث هناك في ماضينا إلا في حالةٍ واحدةٍ {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ} الذي كان مشركاً مع المشركين: {لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} لا من موقع الولاية التي ينتفي فيها الحاجز النفسي بينه وبينه، بل من موقع الرغبة في هدايته بهذا الوعد الذي يمثل أسلوباً من الأساليب العملية في منحه الفرصة الأخيرة للتراجع والانفتاح على الله، فقد أعلن له أنه سيطلب من الله له الغفران بأن يوفقه للسير في طريق الهداية، ولكنه لم يمنحه الأمل الكبير المطلق، بل ترك الأمر خاضعاً لله {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} لأنه وحده الذي يملك الهداية ويمنح المغفرة، وليس للعباد من ذلك أي شيء، إلا أن يرفعوا الأمر إليه، ويخضعوا بين يديه في ابتهال الإخلاص، وفي خشوع التوسل والعبادة الخالصة {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} فها نحن عبادك السائرون في طريق الجهاد والطاعة والمعاناة، وسنواجه التحديات ولن نتراجع، وسنتابع السير ولن نسقط، مهما واجهتنا الصعوبات ووقفت أمامنا العقبات، ما دمنا نتوكل عليك، فأنت وحدك موضع الثقة المطلقة في أن تخلصنا من ذلك كله، {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي رجعنا إليك، وتركنا كل الناس خلفنا إلا الذين كانت وجوههم متجهةً إلى عرش ربوبيتك، فنحن معهم لأنهم معك {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فأنت غاية الغايات، وستجتمع كل الموجودات إليك كما انطلقت منك منذ بداية الوجود. وإذا كنَّا نؤمن بأننا نصير إليك، فإننا نبقى في الطريق التي تصلنا بك، وتقودنا إليك، ليكون مصيرنا في رحاب رضوانك، وفي آفاق رحمتك، وفي نعيم جنتك، {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} في ما تمتحنهم به من تسليطهم علينا ليطغوا وليبغوا ويمارسوا الفساد في البلاد والعباد، في ما يظهره ذلك الامتحان من حقدهم على الإيمان كله وعلى الخير كله، لأننا لا نريد الحياة فرصةً للكفار الأشرار في ما يمكن أن يأخذوا به من الفرص الواسعة في حالات الاختيار، {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ} كل ما سلف من ذنوبنا {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} الذي نستمد القوة منه، {الْحَكِيمُ} الذي نستمد الحكمة من حكمته.

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فهم القدوة الطيبة الصالحة التي تجسد الإيمان بكل وداعته وروحيته وصلابته وقوته وتعاليه عن كل المغريات، وثباته أمام كل المخاوف، فكانوا المثل الأعلى للناس كلهم في محبة الله وطاعته والإخلاص له، {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر} ليقتدوا بهم في إخلاص الرجاء لله، وفي الانفتاح على المسؤولية في اليوم الآخر. {وَمَن يَتَوَلَّ} ويعرض عن السير في خط الإيمان الذي سار عليه إبراهيم ومن معه، فليس بضار الله في شيء، {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنيّ الْحَمِيدُ} الذي لا ينفعه أحد في إيمانه أو طاعته، ولا يضره مخلوق في كفره أو معصيته، وهو المحمود في كل أفعاله، كما هو المحمود في ما يتحمد به خلقه من أعمالٍ وأوضاع.

{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} في ما يمكن أن يوفقهم للإسلام بهدايته، ويفتح قلوبهم على الله بتسديده {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على كل شيء. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} للتائبين المنيبين إليه من عباده، فلا تيأسوا من هؤلاء المنحرفين، والتزموا خط الحق في معاملتكم لهم، وتابعوا السير في البحث عن أفضل السبل لإعادتهم إلى الفطرة السليمة والخطة المستقيمة، واسألوا الله لهم الهداية، فقد يرجعون إلى الحق، ويهتدون إلى الله، ويلتقون بكم في رحاب الإيمان به والالتزام بشريعته.