تفسير القرآن
الممتحنة / من الآية 8 إلى الآية 9

 من الآية 8 الى الآية 9

الآيتـان

{لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلئكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(8ـ9).

* * *

من هم الذين لا ينهى الله عن معاداتهم؟

لقد كانت القضية المطروحة في الحديث عن الموالاة للكافرين مشروطةً بالعداوة في الشعور والممارسة، لأن الله لا يريد من المؤمن أن يكون ساذجاً في نظرته إلى علاقاته بالآخرين، بحيث تتحوّل طيبته الذاتية إلى نوعٍ من أنواع السذاجة العقلية والعملية التي تثير في أعدائه غريزة العدوان عليه من مواقع غفلته، ولأن الله يريد للمؤمن أن ينظر إلى الخلاف العقيدي نظرةً جديةً عندما يتحول في مواقف الفئات المضادة إلى وضعٍ عدواني، فيتعامل مع هذا الوضع بواقعيةٍ. أما في هاتين الآيتين، فينطلق التأكيد من القاعدة الإيمانية الإنسانية التي تفتح المجال واسعاً للعلاقات الإيجابية مع الذين نختلف معهم في الرأي إذا لم يتحركوا ضدنا بطريقةٍ عدوانيةٍ، لتبقى الحالات العدوانية هي الملحوظة في المنع من الموالاة.

* * *

لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين

{لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، بل كانوا مسالمين في مسألة الخلاف في العقيدة، فهم لا يتفقون مع المسلمين في الرأي، ولكنهم لا يدخلون معهم في حرب، إمّا لدخولهم مع المسلمين في ميثاقٍ أو عهد أو أمان، وإمّا لوجود وضع سلميٍّ واقعيٍّ رافضٍ للدخول معهم في قتالٍ أو صدام، {وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} لأنهم يؤمنون بالتعايش مع الإسلام والمسلمين في محيطٍ واحدٍ، فلا تغريهم قوتهم بأن يشردوهم ويهددوا أمنهم في ذلك، {أَن تَبَرُّوهُمْ} بأن تقدموا إليهم الخير بكل مجالاته العملية على مستوى القضايا المادية والمعنوية، {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} بأن تتعاملوا معهم في خط العدل في ما يثور في حركة الواقع من خلافاتٍ ونزاعاتٍ فيما بينهم وبين المسلمين، حتى يكون الخير العملي والعدل الإسلامي، وسيلتين من وسائل الدعوة إلى الإسلام، لما يجسدان من صورةٍ مشرقةٍ للإسلام لدى غير المسلمين، فتتحول الحالة السلمية في حياتهم إلى حالةٍ روحيةٍ منفتحةٍ على الإسلام من خلال انفتاح المسلمين عليهم بالأخلاق الكريمة، ليقودهم ذلك إلى الإيمان بالإسلام، في نهاية المطاف، على أساس أنهم لا يعيشون العُقدة العدوانية ضده. وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يواجهوه في سلوكهم العملي في ساحة الشعوب الكافرة المسالمة التي لا تعيش العقدة المستحكمة في نظرتها إلى الإسلام والمسلمين، من أجل أن يكون المسلمون حركةً منفتحةً على الواقع بشكلٍ إيجابي فاعلٍ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الذين يعيشون العدل كحالةٍ روحية، مع كل الناس من مؤمنين وكافرين، لأن العدل هو الأساس الذي يرتكز عليه بناء الحياة على أساس التوازن في حركة الإنسان والحياة.

* * *

إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ووقفوا ضد حريتكم في الدعوة، وضد حرية الناس في الإيمان، وقاتلوكم على أساس موقفكم الديني في العقيدة والعمل {وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} وعاونوا المشركين على إخراجكم من دياركم إما بطريق التحالف، أو نحوه، {أَن تَوَلَّوْهُمْ} في المودة القلبية، والانفتاح العملي، لأنهم يرفضون ذلك بعدوانيتهم، وينفذون إلى مجتمعكم من موقع الثغرات العاطفية التي تفتحونها عليهم، ليدمروا قواعد الأمان في حركتكم الإسلامية، {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} وينحرف عن هذا الخط المتوازن في حركة الوعي الإسلامي، ويبتعد عن أوامر الله ونواهيه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام والمسلمين في ذلك كله.

* * *

كيف نستوحي الآيتين؟

وقد نستطيع استيحاء هاتين الآيتين في الانفتاح على غير المسلمين بطريقةٍ إيجابيةٍ على مستوى العلاقات الدولية، أو على صعيد العلاقات الحركية السياسية، أو في دائرة الأوضاع الاقتصادية، فإن الله لا ينهى عن البر بهم، والعدل معهم، وليست المسألة في إيحاءاتها الفكرية، مجرد حالةٍ إنسانيةٍ خيريةٍ، بل هي إلى جانب ذلك حركة عملية في هذا الاتجاه، لأن أجواء الآيتين، مع ملاحظة الآيات السابقة، تؤكد في مسألة المقاطعة ورفض الموالاة على الحالة العدوانية لا على الخلاف الديني، ما يفسح المجال لعلاقاتٍ إنسانيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ إيجابيةٍ، فإن كلمة «البر» قد تتسع للكثير من النشاطات العامة، كما أن كلمة «العدل» قد تتحدث عن التوازن في المواقف والعلاقات.

وإننا نؤكد دائماً على ضرورة التركيز على الاستيحاءات القرآنية في مسألة المفاهيم، من خلال طبيعة الآفاق التي تطلّ عليها الآية، والأفكار العامة التي تثيرها، والإشارات الروحية التي تلتقي بها في حركة المفاهيم، وندعو إلى إثارة البحوث الإسلامية حول ذلك كله.

وقد أثار الفقهاء أحاديث متنوعة في ما يتصل بالآية الأولى، حيث تحدثوا عن أن الصدقة تجوز من المسلم على الذمي من أهل الكتاب، بل قال أبو حنيفة إنه تجوز عليه زكاة الفطرة والكفارات، واتفقوا على جواز الوصية له بالمال، والوقف عليه، لأن الله تعالى لم ينهنا عن البر به، وهذه الأمور هي من بعض مفردات البر. وقد نستطيع أن نضيف إلى ذلك الكافر المسالم، حتى لو لم يكن من أهل الكتاب، لا سيما إذا لاحظنا أن من الممكن أن تكون الآية شاملةً، إنْ لم تكن مختصةً بحسب مورد النزول، لأهل مكة المشركين الذين لم يشاركوا الطغاة في القتال أو في المساعدة على إخراج المسلمين، ولا بد من التأمل في ذلك.

وإذا كنا قد تحدثنا عن مسألة الانفتاح على غير المسلمين المسالمين في العلاقات الدولية أو الحركية السياسية، فإننا قد نستطيع الإشارة إلى دراسة العلاقات مع الدول الكبرى أو الصغرى التي تتحرك ضد المسلمين بطريقةٍ عدوانيةٍ ضد مصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، لأن القضية ليست قضية القتال في الدين والمساعدة على التشريد، كخصوصيتين ذاتيتين، بل كنموذجين للعداوة التي تمثل المبدأ الذي يدور مداره الموقف الودي أو الموقف المضاد.

* * *

المسألة الفقهية بين العناوين الأولية والثانوية

وقد يفرض علينا البحث أن نشير إلى أن هذه المسألة في المقاطعة للفئات العدوانية، تتحرك في نطاق العناوين الأولية في الحالة الطبيعية للعلاقات العامة، ولكن قد تطرأ بعض الظروف الضاغطة التي قد يضطر فيها المسلمون إلى إيجاد علاقاتٍ معينة مع الدول المعادية، من أجل المصلحة الإسلامية العليا التي قد تنعكس عليها المقاطعة انعكاساً سلبياً أكثر مما تنعكس على تلك الدول، الأمر الذي قد يفرض على أولي الأمر أن يواجهوا المسألة بالطريقة الإيجابية مع بعض التحفظات التي تقتضيها السلامة العامة للإسلام والمسلمين.