تفسير القرآن
الممتحنة / الآية 12

 الآية 12

الآيــة

{يا أَيُّهَا النَّبِيُ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(12).

* * *

كيف نفهم معنى بيعة الناس للرسول؟

للبيعة في المفهوم الإسلامي معنى الالتزام الشخصي العقيدي بالطاعة للقيادة في كل المضمون الذي تفرضه الرسالة المتحركة في خط القيادة، ولهذا فإنّ هناك إيماناً بالرسول، في معنى رسالته، في ما يلتزمه المسلم في فكره وشعوره وحياته، وهناك خضوعٌ حركيٌّ في الانفتاح على حاكميته وقيادته في خط الطاعة. ولعل هذا هو الجواب على ما قد يثار من أسئلةٍ حول معنى البيعة للرسول، لأن البيعة قد تعني العنوان الذي يحرك الالتزام الشخصي ليمنح الموقف شرعيةً في علاقة الشخص المبايع بصاحب البيعة، بحيث يستمد القائد أو الأمير شرعيته من خلال ذلك. وهذا ما لا معنى له في قضية الرسالة والرسول، لأن الإيمان بهما ينطلق من مسألة الشرعية الإلهية التي حددت شخصية الرسول في حركة الرسالة.

وخلاصة الفكرة، أنّ هناك بيعةً تمنح الشرعية لصاحبها في ما يلتزم به الكثيرون من المسلمين بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يملكون شرعيةً في ولايتهم على الناس إلا بذلك، وهذا مما لا مضمون له في بيعة الرسول، أو الإمام، في نظرية الإمامة، ولكن هناك بيعةً تعبر عن الالتزام الذاتي بالولاية بعد الالتزام العقيدي بها أو لتأكيده بالإعلان بهذا الالتزام بها، وهذا هو معنى البيعة في الرسول، أو الإمام.

* * *

بيعة النساء

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} اللاتي دخلن في الإسلام وأعلنَّ إيمانهن بالله وبالرسول {يُبَايِعْنَكَ} {فبايعهنّ} ليعبِّرن لك عن التزامهن بهذا الخط في خط الرسالة، وبقيادتك في حركة النبوة من مواقع استقلالهن في إرادة الانتماء للعقيدة التي يؤمنّ بها، إذ ان المرأة ليست تابعةً للرجل ليكون إيمانها على هامش إيمانه، وبيعتها تابعة لبيعته، لأنها إنسان مستقل في مسألة الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وفي دائرة المسؤولية، فلا يغني الأب عن ابنته، ولا الزوج عن زوجته، ولا الولد عن والدته شيئاً، و{عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} لأنّ التوحيد هو القاعدة الثابتة للعقيدة الإسلامية، وهو العنوان الشامل لكل تطلعات الإنسان في فكره وعمله، باعتبار أنه يؤكد الالتزام بوحدانية الله في الألوهية والعبادة والطاعة، بحيث تختصر مفردات الإسلام كلها، فهو النافذة التي تطل على الدين كله، ولعل التعبير عن التوحيد، الذي هو عقيدة إيجابية، بالامتناع عن الإشراك الذي هو حالة سلبية، من جهة أن الواقع الذي يعيش فيه المجتمع آنذاك هو واقع الشرك العبادي الذي كان يلتقي بالعقيدة بالله، في ما كانوا يعتقدونه في الأصنام بأنها تقربهم إلى الله زلفى، حيث كانوا يقدمون لها فروض العبادة، الأمر الذي كان يفرض التأكيد على رفض الشرك فكراً وعملاً لتتخلص العقيدة بالله من شوائب الشرك، وليكون التوحيد هو الخط الذي يلتزمونه في الإيمان بالله، ورفض الشرك في العقيدة والعبادة.

{وَلاَ يَسْرِقْنَ} لتكون المرأة أمينةً على مال زوجها وأهلها وكل الناس من حولها، فإن الأمانة من الأخلاق الأصيلة في التخطيط الأخلاقي للشخصية المسلمة. {وَلاَ يَزْنِينَ} لأن الزنا يؤدي إلى اختلال الأوضاع الأخلاقية الاجتماعية في المسألة الجنسية التي أراد الله لها أن لا تتحرك بعيداً عن البيت الزوجي، لئلا تتحول العلاقات، في هذا الإطار، إلى ما يشبه الفوضى التي تسيء إلى الكثير من قضايا المجتمع في نظامه العام. {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ}، سواء كان ذلك بالإجهاض أو بالقتل المتعمد بالطريقة المألوفة. {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} وذلك بأن ينسبن أولادهن إلى غير آبائهن من خلال علاقات الزنا التي تؤدي إلى حمل الزوجة من أجنبيٍ ثم تكذب على زوجها وتفتري عليه، بنسبة الولد إليه. ولعل التعبير بالبهتان الذي{يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}، باعتبار أن الولد إذا سقط في حال الوضع فإنه يسقط بين يدي الأم ورجليها.

{وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} في كل ما تأمرهن به من الطاعة في فعل الخير والامتناع عن الشر، لتكون البيعة التزاماً بالمعروف كله في ما يأمر به النبي من موقع رسالته وقيادته، وبذلك يشمل رفض المعصية، الواجبات والمحرمات.

{فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في ما أخطأوا فيه، وفي ما انحرفوا عنه ثم تابوا منه إلى الله.

ولعل التأكيد على هذه الأمور في مضمون البيعة من جهة أنها تعبِّر عن بعض القضايا الملحة في الأوضاع التي تعيشها المرأة أمام قضايا الانحراف، وبذلك تكون نموذجاً لكل مواقع الانحراف في المحرمات التي يمكن للمرأة أن ترتكبها، لأن البيعة تتحرك في الالتزام بالإسلام كله، لا ببعض أحكامه وقضاياه.

وقد جاء في الكافي بإسناده عن أبان عن أبي عبد الله «جعفر الصادق(ع)» قال: لما فتح رسول الله(ص) مكة بايع الرجال ثم جاءت النساء يبايعنه، فأنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى آخر الآية.

قالت هند: أما الولد فقد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وقالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله ما ذاك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ قال: لا تلطمنّ خداً، ولا تخمشنّ وجهاً، ولا تنتفن شعراً، ولا تشققن جيباً، ولا تسودن ثوباً، ولا تدعين بويل. فبايعهن رسول الله(ص) على هذا.

فقالت: يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال: إنني لا أصافح النساء، فدعا بقدح من ماء، فأدخل يده فيه ثم أخرجها، فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء[1].

وجاء في تفسير القمي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله «جعفر الصادق(ع)» عن قول الله: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: هو ما فرض الله عليهن من الصلاة والزكاة وما أمرهن به من خير[2].

وهذا يؤكد شمولية المعروف، ويشير إلى أن التركيز على عدم لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما كان بمثابة النموذج، لا بمثابة التفسير.

وقد استفاد الفقهاء من الرواية السابقة ومن أمثالها، حرمة مصافحة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي، فإن النبي لم يمتنع عن مصافحتهن في مقام البيعة، انطلاقاً من حالةٍ ذاتيةٍ، بل من حالةٍ شرعيةٍ، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى الفقه.

ـــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:19، ص:255.

(2) تفسير الميزان، 19، ص:256.