تفسير القرآن
الصف / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 4

 المقدمة + من الآية 1 الى الأية 4
 

سورة الصف
مدنية وآياتها أربع عشرة

في أجواء السورة

في هذه السورة المدنية حديثٌ متنوعٌ عن عدة قضايا ترتبط فيما بينها بحركة الرسالة في بعض مواقعها، وفي الخط التاريخي الذي يطل على أجواء النبوات، ليعود بعد ذلك فيثير مسألة الالتزام الحركي في حياة المسلمين الذي يجعل الترابط بين الإيمان والجهاد كجزءٍ من الترابط العام بين القول والفعل، ليصل بعد ذلك إلى الدعوة إلى الانضمام إلى الرسالة بالمستوى الذي يكون المؤمنون أنصار الله كما كان الحواريون المؤمنون بعيسى(ع) أنصار الله، ليكونوا الجماعة المميزة الملتزمة بالخط الرسالي، في مقابل الجماعات الكافرة التي تعيش الضلال على مستوى العقيدة والعمل.

* * *

اسم السورة

أمّا كلمة «الصف»، فقد جاءت عنواناً للسورة من خلال الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} باعتبار أن العمق الفكري للآية هو الجهاد القتالي الذي يتحرك فيه المسلمون في وحدة الصف التي لا تترك فيه مجالاً لأية ثغرةٍ ينفذ منها الأعداء إلى المجتمع الإسلامي.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}  (1ـ4).

* * *

معاني المفردات

{مَقْتاً}: المقت: البغض الشديد.

{صَفّاً}: جعل الأشياء على خط مستوٍ كالناس والأشجار.

{بُنْيَانٌ}: البناء.

{مَّرْصُوصٌ}: من الرصاص، والمراد به ما أحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.

* * *

وجوب اقتران القول بالفعل

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ} هذه هي الفاتحة التسبيحية للسورة التي يتحسس فيها المؤمن الوجود كله، وهو يسبح الله في الإعلان عن انفعاله التكويني والإرادي بعظمته تعالى، ليعيش المؤمن عظمة الله في وعيه الفكري والروحي، فينفتح على المسؤولية من خلال ذلك، وينطلق إلى الجهاد في سبيل الله من هذا الموقع.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الذي يمنح القوة لأوليائه من خلال أن العزة له جميعاً، ويخطط لهم منهج الحياة على أساس المصلحة الحقيقية من خلال أنه الحكيم المطلق.

* * *

لِمَ تقولون ما لا تفعلون

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} هذا هو الخط الإيماني الذي يريد الله من المؤمنين أن يتحركوا فيه، على أساس أنّ الإيمان ليس مجرد كلمةٍ تقال، ولا تمنياتٍ تعيش في دائرة الشعور، بل هو عقيدةٌ تجتذب الفعل، وشعور يتحرك في الموقف. فالمضمون الإيماني في الإسلام يعني العقيدة والشريعة والمنهج في ما تلتقي عليه من التخطيط لحركة الإنسان في الحياة، وبنائها على أساس رضا الله، ولا بدّ للوصول إلى ذلك من الالتزام الجدي الفاعل الذي يجسد التطابق بين القول والفعل، لأن الهدف الإسلامي هو تغيير الحياة والإنسان، ولأن الانحراف عن ذلك يعني إرباك حركة القيادة في مواجهة التحديات، ما يؤدي إلى اهتزاز الوضع الإسلامي كله، وإفساح المجال للفئات المضادة أن تسيطر على المسلمين، من خلال اختلال مواقع القوة في الميزان الإسلامي، لا سيما إذا كانت المسألة تتصل بالجانب العسكري الذي يواجه فيه الواقع الإسلامي هجوم الأعداء وحصارهم للمسلمين، من أجل القضاء على الإسلام أو إخضاع المسلمين للسيطرة الكافرة. وربما كانت هذه الآيات نداءً جهادياً في ما جاءت به أحاديث أسباب النزول، فقد روي عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: وددنا أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبرهم الله أن أفضل الأعمال إيمانٌ لا شك فيه، والجهاد، فكره ذلك أناس وشق عليهم وتباطأوا عنه، فنزلت الآية[1].

وهذا هو الخط الذي ينبغي أن تتحرك التربية الإسلامية على أساسه من أجل صياغة الإنسان المسلم صياغةً إسلاميةً على أساس أن يكون تجسيداً عملياً للإسلام في مفهومه وشريعته.

* * *

{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وذلك هو غاية الفظاعة في ما يمكن أن يوجه إلى المؤمن عندما يتطلع إلى نفسه وإلى موقعه من ربه، فيرى نفسه ممقوتاً منه أشدّ المقت، ومبغوضاً أشدّ البغض، بينما يفرض عليه إيمانه أن ينال المحبة من الله، للحصول على رحمته التي هي أساس خلاصه وسعادته في الدنيا والآخرة. وهذا مما يوحي إليه بخطورة المسألة التي لم يعهد التعبير عن غيرها بهذا الأسلوب العنيف الذي يضع المسألة في أعلى درجةٍ من الأهمية، لأنه يمثل في النطاق الذاتي لوناً من ألوان الخداع والغش في إعلان الموقف الإيماني الذي يعني الميثاق مع الله على تحويل ذلك إلى موقفٍ عملي. وأية جريمةٍ أعظم من جريمة خداع الإنسان لربه. أما في النطاق الاجتماعي، فإنه يمنع قيام أية ثقةٍ اجتماعيةٍ بين الناس في ما يتحركون به على مستوى العلاقات والمعاملات على أساس ما يعلنونه من التزامات الإيمان، عندما تكون الأخلاق العامة في هذا المستوى السلبي من الوفاء بالالتزامات الخاصة والعامة، أو ما يثيرونه من الالتزامات الخاصة فيما بينهم. وأما في نطاق الدولة، فإنه يمنع القيادة من الشعور بالقوة أمام المشاكل الصعبة والتحديات الكبيرة التي تواجهها في مسألة الأمن والنظام، ما يؤدي إلى اختلال النظام العام للأمة بالمستوى الذي يعرِّضها للضعف ويدفعها في نهاية المطاف إلى السقوط والانهيار.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ هذه القيمة الأخلاقية ـ وهي التطابق بين القول والفعل ـ تمثل العمق الإيماني الذاتي على مستوى الفرد، والقيمة الاجتماعية على مستوى تماسك المجتمع في علاقاته العامة والخاصة، والأساس القوي لقوة الدولة في التزام الأمة بالقيادة في مسؤولياتها العامة.

وإذا كانت الرواية السابقة قد ذكرت نزول الآيتين في حديث النبي(ص) عن الجهاد، فإن ذلك يمثل النموذج الحي الذي يعطي الخط العريض لكل النماذج الأخرى في كل أحكام الإسلام وشرائعه.

* * *

إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} إنه الحب الإلهي الذي يفيض على عباده بالرحمة عندما يتحركون للقتال في سبيله، لا في سبيل عصبيةٍ ذاتيةٍ أو فئويةٍ، ولا في سبيل طمع شخصيٍ، بل من أجل الأهداف الكبيرة التي جعلها الله للجهاد في الحياة، من أجل إقامة الحق وإزهاق الباطل وإعلاء كلمة الله وإسقاط كلمة الشيطان، ليكون الدين كله لله، من أجل مصلحة الحياة والإنسان.

وإذا كان القتال في سبيل الله، فلا مجال لأية عقدةٍ نفسيةٍ ذاتيةٍ تفسح المجال للاهتزاز في الموقف، أو لأية ثغرةٍ من ضعفٍ تفتح الطريق، فلا بد من أن يتضافر الجميع على نجاح المعركة وسدّ كل الثغرات فيها، وتنظيم الوضع القتالي بالطريقة التي يأخذ فيها كل شخصٍ موقعه بحيث يتكامل الجميع في أدوارهم ومواقعهم ومواقفهم، فلا يتخلى أحد عن مكانه في داخل الخطة، ولا يبتعد عن التعليمات التي تحدد له حركته في طبيعتها وشروطها، تماماً كما هو البنيان المرصوص الذي تتعاون لبناته على إقامته وتماسكه وقوته، بحيث تؤدي كل لبنةٍ دورها من خلال موقعها في هندسة البناء، بحيث إذا تخلت عن موقعها انهار البناء كله.

إنّها الصورة الحية للبناء الاجتماعي الذي يريد الإسلام إقامته في مجتمع الحرب، كما يريد إقامته في مجتمع السلم، انطلاقاً من أن تحديات السلم في تركيز الوضع الإسلامي في الداخل في التخطيط الدقيق الشامل للبناء الاجتماعي والاقتصادي والروحي والثقافي، قد تفوق تحديات الحرب، ما يفرض بناء القوة الذاتية بشكلٍ قوي.

ــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، م:5، ص:417.