الآيات7-9
الآيــات
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقوْمَ الظَّالِمِينَ* يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (7ـ9).
* * *
معاني المفردات
{لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ}: إطفاء النور: إبطاله وإذهاب شروقه، وإطفاء النور بالأفواه إنما هو بالنفخ بها.
وقال الراغب في مفرداته بوجود فرق بين قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ} [التوبة:32]، وقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ} [الصف:8]، والفرق بين الموضعين في أن قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله: {لِيُطْفِئُواْ} يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله[1].
ففي الأولى المراد الإطفاء نفسه، بينما المراد في التعبير الثاني السبب الموصل إلى الإطفاء، وهو النفخ بالأفواه، والإطفاء غرض وغاية.
{لِيُظْهِرَهُ}: الإظهار التغليب والنصرة. فإظهار شيء على غيره نصرته وتغليبه عليه.
* * *
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فينسب إلى الله ما لم يقله، أو ينكر ما أوحى به إلى رسوله، من خلال تكذيبه للرسول، أو يشرك به ما لم ينزل به سلطاناً، أو يبتعد عن مواقع رسالته {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ} في ما يتضمنه هذا الدين الذي أنزله الله على نبيه محمد(ص) من إسلام الفكر والروح والواقع لله في جميع الأمور، مما يحقق للحياة سلاماً في جميع المجالات العامة والخاصة، من خلال عبودية الإنسان لله وحريته أمام الكون كله والناس كلهم، وفي خط العدالة التي لا يختلف فيها إنسان عن إنسانٍ.
إنّ موقف مثل هذا الإنسان في افترائه على الله الكذب يمثّل أبشع أنواع الظلم، لأنه يمثل التحدي لله في تجاوزه لحقه على عباده في الخضوع له والانسجام مع إرادته في دينه، كما يمثل ظلم الإنسان لنفسه في ابتعاده عن مصلحتها في ما يتصل بسلامتها في الدنيا والآخرة، وهكذا في ظلم الحياة والناس كافةً، في ما يضعه من حواجز وعقبات أمام الدعوة إلى الله.
{وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} لأن الطريق الذي اختاروه لأنفسهم للسير فيه لا يؤدي بهم إلى الخير، بل يجعلهم في تخبطٍ وحيرةٍ وضياعٍ في متاهات الضلال الفكريّ والعمليّ.
* * *
الله متمّ نوره ولو كره الكافرون
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} في ما يثيرونه حول دينه من كلماتٍ غير مسؤولةٍ، أو في ما يلصقون بالرسول من صفاتٍ لا تتناسب مع قدسية صفته الرسالية، أو في ما يحملونه من أفكارٍ مضادةٍ يضعونها في مواجهة الإسلام بوسائلهم الإعلامية المتحركة في أكثر من موقع، أو في ما يحرّكونه في المجال الفكري من شبهاتٍ تتحدى الإسلام في عقيدته ومنهجه وشريعته وحركته من أجل قيادة الحياة باسمه، ليخفّفوا من وهج الإسلام في حياة الناس، وليشوِّهوا صورته في أفكارهم، وليسقطوا تأثيره في مشاعرهم، فلا يسمحوا له أن يرفع صوته، في محاولةٍ دائمةٍ لإثارة الضجيج من حوله، حتى لا يسمعه الآخرون.
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} لأن الإسلام ليس كلمة الإنسان التي يمكن أن يحتويها الظلام ويلفها الضباب، بل هي كلمة الله المستمدّة من إشراقة وحيه الذي يتوهج في وجدان الحياة ووعي الإنسان، كما يتوهج الفجر في إشراقة النور الأولى، ثم يتسع حتى يشمل الأفق كله عندما تظهر الشمس بكل شعل النور المتدفقة منها، فلا يطفئها الضباب ولا تحجبها الغيوم. وهكذا يتكامل النور الإلهي المتمثل بدين الله في حركة الواقع ليصل إلى المواقع التي أراد الله له أن يصل إليها من دون أن تستطيع أية جماعة أن تقف ضد انتشاره، أو تتمكن أية ظروف من أن تمنع امتداده {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، لأنّ المسألة ليست في ما يحبّون أو يكرهون، بل المسألة في ما يستطيعونه من محاولاتٍ لا تصل إلى حدّ النجاح.
* * *
هو الذي أرسل رسوله ليظهره على الدين كله
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقَِّ} فهو دين الهدى الذي يقود الناس إلى الغايات الكبيرة التي تؤكد إنسانية الإنسان في الآفاق المشرقة من الحياة، وهو دين الحق «الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، فتكون له القوة والسيطرة والامتداد، بجهاد المجاهدين ودعوة الدعاة، في ما يريد الله له أن يتحرك فيه من الوسائل العملية الطبيعية المؤيدة بألطاف الله وفيوضاته، بما يكفل له الحضور الكبير المميز المنفتح على كل مواقع الدين والفكر في الحياة، بالرغم من الظروف الصعبة القاسية التي يمكن أن تحيط به وتحاصره، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} الذين وقفوا ضد دعوة التوحيد بأضاليلهم وأباطيلهم، ثم انكفأوا وسقطوا، وامتد الإسلام إلى كل الجزيرة العربية، وانطلق فاتحاً داعياً إلى كثيرٍ من بقاع العالم، وما زال يفرض نفسه على الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي والأمني في أكثر من موقعٍ وموقعٍ.
وإذا كان الله يريد أن يتم نوره بإظهار دينه على الدين كله، وإذا كنا نعرف أن الله لا يريد لهذا الهدف أن يتحقق بطريقة المعجزة، بل بالوسائل القرآنية التي أكدها في كتابه، كالدعوة والجهاد والعمل السياسي المتحرك في خط تثبيت قواعد الإسلام في الحياة، في ساحات الصراع، فلا بد للمسلمين من أن يتحملوا مسؤولية السعي من أجل تحقيق هذا الهدف، بعيداً عن كل القوى المحيطة بهم في ما يمكن أن ترضى أو لا ترضى به، لتكون المداراة والمجاملة أو الخوف أساساً للامتناع عن طرح الإسلام في مجالات الدعوة أو الحركة أو الثورة أو الدولة كعنوان للفكر وللعمل، كما يفعله الكثيرون من محاولات الاختباء وراء بعض الأقنعة التي تحمل مدلولاً فكرياً يختلف عن المضمون الإسلامي، كالديمقراطية والاشتراكية ونحوهما مما حفلت به الأوضاع السياسية في المرحلة المعاصرة، حتى عادت واجهةً للسياسة الحركية، بحيث يمكن للناس أن يتقبلوها أكثر مما يتقبلون الإسلام الذي تحول بفعل الدعاية المضادة إلى عنوانٍ قديمٍ من عناوين التاريخ التي لا تصلح لمعالجة شؤون الحاضر.
إنّ المسألة عند هؤلاء هي أنهم يرفضون السير في الاتجاه الإسلامي الصريح، لأنّ الكافرين يكرهون ذلك، فلا يمنحونهم رضاهم، ولا يؤكدون لهم مواقعهم في ذلك كله.
ــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:314.
تفسير القرآن