تفسير القرآن
الجمعة / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 4

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 4
 

سورة الجمعة
ـ مدنية ـ وآياتها إحدى عشرة

في أجواء السورة

هذه السورة المدنية جاءت لتعبر عن الأثر الذي جاء الرسول من أجل أن يصنعه في المجتمع الأمي الجاهل الذي كان يعيش في مكة، أو في الجزيرة العربية بشكلٍ عام، ليؤكد عملية التغيير، من خلال آيات الله التي يتلوها عليهم ويزكيهم ويثقفهم ثقافةً فكريةً وعمليةً بالكتاب والحكمة بعد أن كانوا ضائعين في متاهات الجهل.

وهكذا كان فضل الله عليهم في رفع مستواهم، ليستمروا في حمل الرسالة كجماعةٍ تلتزم مضامينها في الجانب العملي من حياتها، حتى لا تكون كمثل الحمار الذي يحمل أسفاراً، فإن التكريم الإلهي يشمل العالمين العاملين بما يعلمون، فتلك هي القيمة الحقيقية للإنسان.

وفي ضوء ذلك، كان اليهود في موقع القيمة الهابطة، لأنهم لم يتحملوا مسؤولية الرسالة التي جاء بها موسى، وتحركوا من موقع العنصرية، فاعتبروا أنفسهم أولياء الله، وتحداهم الله أن يتمنوا الموت الذي يطل بهم على ساحة المسؤولية أمامه، ولكنهم لم يتمنوه، لأنهم يعرفون النتيجة الوخيمة سلفاً. وهكذا يؤكد على المؤمنين أن لا يشغلهم اللهو والتجارة عن ذكر الله وعن الصلاة في يوم الجمعة التي تمثل اليوم الأسبوعي الذي يجتمع فيه المسلمون لعبادة الله في صلاةٍ جماعيةٍ عامة خاشعة. وكان اسم السورة الجمعة، للحديث فيها عن صلاة الجمعة.

ـــــــــــــــ

الآيــات

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (1ـ4).

* * *

معاني المفردات

{يُسَبِّحُ}: التسبيح تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص.

{الْمَلِكِ}: هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع.

{الْقُدُّوسِ}: القدوس، مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة.

{الْعَزِيزِ}: هو من لا يغلبه غالب.

{الْحَكِيمِ}: هو المتقن فعله، فلا يفعل عن جهل أو جزاف.

{الأُمِّيِّينَ}: الأميون جمع أمي وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب، واحتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.

{وَيُزَكِّيهِمْ}: التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النموّ الصالح الذي يلازم الخير والبركة.

* * *

تسبيح ما في السموات والأرض للّه

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} كلٌّ بحسب لغته وطريقته في التسبيح {الْمَلِكِ} الذي يملك الملك كله {الْقُدُّوسِ} الذي ارتفع بالقداسة فلا يدانيه أحد {الْعَزِيزِ} في مواقع العزة المطلقة والحكمة الشاملة. وهكذا يعيش الإنسان المؤمن، مع بداية السورة، مواقع عظمة الله، لينصت بخشوع إلى آياته في مواقع حكمته.

وربما استوحى بعض المفسّرين مناسبة هذه الصفات لمضمون السورة، فكلمة «الملك» كانت بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب، وكلمة «القدوس» بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره، وكلمة «العزيز» بمناسبة المباهلة التي يدعو إليها اليهود والموت الذي لا بد من أن يلاقي الناس جميعاً والرجعة إليه والحساب، وكلمة «الحكيم» بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وهو أمر طريف في جانب الاستيحاء لكنه ليس واضحاً في دلالته.

* * *

الله يبعث في الأميين رسولا منهم

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} ربما كان المراد من الأميين مطلق العرب، لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، في الغالب، وربما كان المراد بهم حسب التعبير اليهودي عن غيرهم من الأمم أنهم «جوييم» باللغة العبرية، نسبة إلى الأمم، باعتبار أنهم شعب الله المختار، وغيرهم هم الأمم. وربما كان المراد بهم أهل مكة نسبة إلى أم القرى. وقد يكون الوجه الأول أقرب إلى الاعتبار لوجوه عدة. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ} ليستمعوا إليها ويتفهموها، وينفتحوا من خلالها على الأبعاد الواسعة للمفاهيم العامة التي تفلسف لهم نظرية الإسلام عن الألوهية والتوحيد وعن حركة الكون والحياة، وتقودهم إلى التعرف على المدخل إلى مواقع التغيير في صنع الإنسان الجديد، {وَيُزَكِّيهِمْ} بالنفاذ إلى أعماق مشاعرهم ليطهرها من كل الرواسب العفنة التي عششت فيها من خلال عصور التخلف، ومن كل الوحول الفكرية التي تجمعت في داخلها، من مواقع الجاهلية، ليكون الإنسان هو الإنسان النقي الصافي الذي ينمو في مشاعره، كما ينمو في أفكاره وروحيته بين يدي الله في أرضٍ خالصةٍ من كل الشوائب التي تُعطّل عملية النمو، أو تُحوِّل الزرع إلى عناصر مشوهةٍ لا تنتج إلا النتاج الرديء.

وعلى ضوء ذلك، فإن دور الرسول هو تحريك المفاهيم الإسلامية في عملية تغيير الواقع الداخلي للنفسية العامة للأمة في ما توحي به كلمة «التزكية»، من أجل أن يكون الإنسان المسلم هو الإنسان الفاعل الذي ينمو ويتطور في اتجاه الخير والبركة للحياة، كوسيلةٍ عمليةٍ لتغيير الواقع الخارجي للحركة العامة للأمة، وذلك بالوسائل الواقعية المتحركة بالقدوة الحسنة، والتعويد على الأخلاق الحسنة والسلوك المستقيم.

{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} في ما يمثله الكتاب من المضمون الفكري والشرعي والمنهجي على صعيد النظرية الإسلامية العامة، وفي ما توحي به كلمة الحكمة من تحريك المضمون في خط التطبيق العملي، بحيث يتحول الإنسان إلى شخصٍ يفكر بواقعية وحكمةٍ، فيزن الأمور بموازينها، ويضع الأشياء في مواضعها، في ما هو التوازن بين النظرية والواقع، ما يجعل العلم منفتحاً على حركة الواقع في حياة الإنسان، ويجعل الواقع منفتحاً على الكتاب في مسألة الوعي الحركي على أساس المفاهيم القرآنية الجديدة التي تدخل الروح في المضمون المادي فيتروح، وتدخل الحس في المضمون الروحي فيعيش مع أجواء الحس، في ما يحدثه من تغيير في مفاهيم الإنسان.

{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} فقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون الجهل والتخلف والعصبيات الضيقة، كما عبر عن ذلك جعفر بن أبي طالب ـ في ما روته كتب السيرة ـ في خطابه للنجاشي: «أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهليةٍ نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفته، فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..».

وليس معنى ذلك أن العرب لا يملكون شيئاً من الأخلاق الحسنة والعادات الجيدة، فقد كانت لهم قيمهم العالية، وعاداتهم الحسنة، ولكنهم لم ينطلقوا في ذلك من قاعدةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ واسعةٍ من خلال نظرةٍ شاملةٍ للإنسان في دوره في الحياة وموقعه من الله، ودوره في عبادته، وتوحيده له، ورفضه للتخلف في نوعية العقيدة وحركتها في وجدانه، مما سهل للتفاهات الفكرية أن تنفذ إليه وللضلالات الروحية أن تحكم وعيه، وللأهواء الضالة الفاسدة أن تسيطر على مشاعره، بحيث تحولت شخصيته إلى قطعٍ متناثرة، تأخذ من كل موقعٍ قطعة، من دون أن يكون هناك أي نوعٍ من الترابط فيما بينها، بحيث تمثل كلاً متكاملاً مترابطاً في وحدةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ شاملةٍ. وهذا هو الذي يؤدي بالإنسان إلى الضلال لأنه يفقد الميزان الذي يزن به صحيح الأمور وفاسدها، والقاعدة التي يرتكز عليها خط حياته في ما يحكم البداية والنهاية.

إن قيمة النهج الإسلامي في تربية الإنسان، أنه يؤكد على الوحدة الفكرية التي تتفرع عنها كل القضايا، بحيث تلتقي عندها وحدة الشخصية في نطاقها العملي. وهذا ما استطاع أن يجعل من المسلمين أمةً ذات أبعادٍ ثقافيةٍ وروحيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ في مستوى حركة الإنسان في العالم.

{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} وهم الذين دخلوا الإسلام بعدهم من الأجيال السابقة، وقد تحدثت بعض الروايات أنهم الفرس، في ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي (صلى الله عليه وسلّم) حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على رأس سلمان الفارسي وقال:والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا لناله رجالٌ من هؤلاء[1]. ولكن الظاهر ـ على تقدير صحة الرواية ـ أن المراد بيان النموذج من الأمم الأخرى أو الأجيال الأخرى، لأن الآية تتحدث عن امتداد الرسالة في المستقبل الذي يحتضن الناس الآخرين من بعدهم. ويؤكده ما روي عن سهل بن سعد الساعدي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجالٍ رجالاً من أصحابي ونساءً يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}[2].

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} القادر على فرض إرادته من موقع العزة، الخبير بمواقعها من موقع الحكمة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} الإشارة بذلك ـ على الظاهر ـ إلى بعث الرسول، من خلال نتائجه العملية في حياة الناس، ومن خلال قيمته الروحية في حياة الرسول، في ما يتميز به من ميزةٍ كبيرةٍ في التقييم الإلهي في ما يمنح عباده من الفضل الذي يوزعه على من يشاء، فيمن يستحق الاصطفاء للرسالة والاهتداء للهداية، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} على كل خلقه، في ما خلقهم ورزقهم ودبرهم ورعاهم ودلهم إلى مواقع صلاحهم، ودعاهم إلى العمل بها وحذرهم من مواقع الفساد في حياتهم، ونهاهم عن الاقتراب منها.

ــــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:8، ص:152 ـ 153.

(2) الدر المنثور، ج:8، ص:153.