تفسير القرآن
الجمعة / الآية 5

 الآية 5
 

الآيــة

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(5).

* * *

معاني المفردات

{أَسْفَاراً} قال الراغب: السفر ـ بالفتح فالسكون ـ كشف الغطاء، ويختص ذلك بالأعيان، نحو سفر العمامة عن الرأس والخمار عن الوجه ـ إلى أن قال ـ والسفر ـ بالكسر فالسكون الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار، قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}[1] انتهى.

* * *

التوراة... ومثل الحمار

وإذا كانت القضية في بعث الرسل هي أن يتعلم الناس الكتاب والحكمة، ويطهروا أنفسهم ويزكّوها، ليحصلوا على الطاقة الروحية التي تمنحهم امتداداً في جانب العمل، فقد جاءت هذه الآية لتثير أمام المسلمين مسألة اليهود الذين أرسل الله إليهم التوراة التي بلّغهم إيّاها موسى وعلمهم مضامينها ومفاهيمها، ولكنهم وضعوها في حياتهم كواجهةٍ قوميةٍ في ما أرادوا أن يتحركوا فيه من ذهنيةٍ عنصريةٍ لا ترتبط بالجانب الفكري والروحي للتوراة في مضمونها العملي، بل ترتبط بها من الجانب التاريخي الذي يقدمها كتراثٍ قومي لا مكان للإنسانية الأخرى فيه.

وهكذا أطلق الله هذا المثل ليقدمه للمسلمين الذين قد يتحولون إلى ما يشبه الوضع اليهودي في الأخذ بالقرآن شكلاً لا مضموناً، كما قد يأخذون به في صفته القومية باعتبار أنه جاء باللسان العربي على يد رسولٍ عربي ليقول لهم إن مثلهم سيكون كمثل اليهود، لأن العمق في القضيتين واحد، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، فإن الآية قد تلاحظ كمقدمةٍ للخطاب التالي لليهود، في ما يدعونه لأنفسهم من ميزة التفوق على بقية الناس في قربهم من الله، {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ} وتعلموها وفهموا مضامينها، {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} فلم يحولوها إلى مشروعٍ عملي للتغيير الداخلي، وخطةٍ متحركةٍ لتحويل الواقع من واقع خاضع للفساد والانحراف إلى واقع منطلقٍ مع الصلاح والاستقامة، ليكونوا قريبين إلى الله من خلال العمل بأوامره ونواهيه، في ما تأمرهم به التوراة أو تنهاهم عنه.

وهكذا كان مثلهم في عدم الانتفاع بها {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} وهي الكتب التي تتضمن العلوم والمعارف، فتثقل ظهره كما تثقل التوراة أذهانهم، ولكنه لا يعقل منها شيئاً، فلا تتغير حماريته بذلك مهما بلغت من الكثرة، وهكذا لا تنتفع إنسانيتهم ولا حياتهم في مجراها العملي بما يملكون من ثقافة التوراة، لأنها لا تزيد عن أن تكون مجرد كتاب وضع في مكتبة الإدراك الذهني من دون أن يتحول إلى حالةٍ وجدانيةٍ شعوريةٍ تتصل بالإحساس العملي الحي.

{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِ اللَّهِ} وهم اليهود الذين كذبوا النبي في رسالته، فأنكروا الوحي القرآني بعد أن أقام النبي عليهم الحجة البالغة في ذلك، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان، وظلموا الحياة من حولهم بالوقوف ضد امتداد الحقيقة من خلال امتداد الرسالة في حياة الناس، لأن مسألة الهداية مرتبطةٌ بالإرادة الإنسانية للأخذ بأسبابها، فإذا رفضها الناس فلا بد من أن تكون النتائج سلبيةً في هذا الاتجاه، ولم يتكفل الله للظالمين من عباده أن يهديهم إلى الحق بطريق المعجزة، بل وكلهم إلى أنفسهم ليلاقوا مصيرهم من خلال سوء اختيارهم، في الوقت الذي وعد فيه المهتدين الذين يأخذون بأسباب الهدى أن يزيدهم هدىً ويهديهم إلى المواقع العالية من رضاه.

ــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:239.