من الآية 6 الى الآية 8
الآيــات
{قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(6ـ8).
* * *
القران يتحدى شعب الله المختار
لقد عاش بنو إسرائيل حياةً ذاتيةً معقَّدةً، بعد الاضطهاد الذي عاشوه في كثيرٍ من المواقع، فلما جاءتهم النبوّات التي بدأت منذ موسى في صيغتها العامة البارزة، تحوّلت العقدة إلى حالةٍ عنصرية، تفاعلت فيها الكثير من العوامل والظروف المحيطة بهم، حتى خُيِّل إليهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أولياء الله وأحباؤه، وأن الله جعل الدار الآخرة خالصةً لهم، وقالوا لن يدخل الجنة إلا مَنْ كان هوداً. وتطور الوضع إلى أن بدأت هذه الفكرة تتحول إلى اتجاهاتٍ عدوانيةٍ ضد الأمم، فكانوا المتآمرين والدساسين والمخربين. وقد عرض القرآن لهذه الفكرة في أكثر من آية، وناقشها، وتحدث إليهم بكل وضوح بأنهم بشر ممن خلق، وليست لهم أية ميزةٍ ذاتيةٍ أو إلهية في أي جانبٍ من الجوانب. وهذه من بعض الآيات التي جاءت على سبيل التحدي الوارد من قبيل المباهلة، التي تريد أن تتحدى كل المشاعر الداخلية التي تلتقي فيها مسألة الحياة والموت، لتكشف زيف الإيمان الذي يدعونه، وبطلان الموقع الذي يضعون أنفسهم فيه.
{قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ} وانتموا إلى اليهودية التي تمثل الرسالة الإلهية التي أنزلت على موسى: {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ} في ما تزعمونه لأنفسكم من المنزلة الكبيرة عند الله، لأن الله اختاركم من بين عباده لتكونوا شعبه الذي يحبه ويختاره ويقربه إليه، فتكون لكم الدرجة العليا التي تميزكم عن الآخرين، {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأن الإنسان المؤمن لا يكره لقاء الموت إلا من جهة خوفه من حساب الله، في ما أخطأ فيه من ذنوبه وفي ما مارسه من المواقف التي تبعده عنه، أما إذا كان واثقاً من قربه إلى الله وسلامته من العقاب، وحصوله على الثواب، فإنه يتمنى الموت ليحصل على نعيم الله ورضوانه في رحاب جنته، وبذلك تكون الآخرة خيراً له من الأولى.
وعلى ضوء هذا، فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه المنزلة الرفيعة عند الله، فتمنّوا الموت، واقتحموه في ساحات الجهاد، وانطلقوا إلى كل مواقع الخطر في سبيل الله، {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} فقد عرفوا من خلال الواقع الذي يعيشونه أنهم غير صادقين في ما يدّعونه، بل كل ما هناك أنهم أرادوا أن يفرضوا الاستعلاء العنصري اليهودي على الناس من موقع القداسة، من دون أن يكون هناك أية حقيقةٍ في ذلك، مستغلّين جهل الناس بالتوراة، وبعدهم عن المعرفة الدينية، كما نراه لدى الكثيرين الذين يعملون على تغذية أوهام الناس بكثيرٍ من المفاهيم الساذجة التي تثير التهاويل في ذهنية العوام، لتأكيد موقعٍ شخصيٍّ مميّزٍ أو قوميٍّ بارزٍ أو عنصريٍّ معقَّدٍ، ليقدس الناس الخرافة باسم الحقيقة، والوهم باسم اليقين، والانحطاط باسم التقدم.
وهكذا كان اليهود بين تيارين، أحدهما لا يؤمن بالآخرة، ولهذا فإنه ليس مستعداً لأن يقترب من الموت الذي لا يمثل عنده أي موقعٍ للانفتاح عما بعده، وثانيهما يؤمن بالآخرة، ولكنه يعرف النتائج الوخيمة التي يواجهها في مصيره، على أساس الأعمال السيئة التي قام بها في حياته. وهذا ما تريد الآية أن تؤكده لتختم ذلك بقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس من حولهم، وانحرفوا بالحياة عن سبيل الله، فهو يعلم سرهم وعلانيتهم. وتتابع الآيات كشف المصير الذي ينتظر هؤلاء وأمثالهم في الآخرة عندما يقفون غداً في ساحة الحساب المحتوم، أمام الله.
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} في عملية الاستغراق بالهروب بالابتعاد عن مواقع الخطر، أو بالمواقف الاستعراضية {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} في ساعة الحقيقة الحاسمة، لأنه لا خلود لأحدٍ في هذه الدنيا، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لتواجهوا العذاب في المصير الأسود الذي ينتظر المجرمين.
تفسير القرآن