المقدمة
سـورة الأعـراف
مكية إلا من آية [162 إلى 170] فمدنيّة
وآياتها 206 ست ومائتان
من وحي القرآن ج 10
في أجواء السورة
لعل الميزة الغالبة لهذه السورة ولأمثالها من السور المكية، أنها تتناول شؤون العقيدة وأصولها، من توحيد الله في الفكر والتشريع والعبادة، وشؤون الرسالة والرسول، في حركة الحياة معهما في ساحة الصراع الفكري والعملي... وفي منطلقات الجهاد، وحديث القيامة في أجواء الوقوف بين يدي الله في عالم الثواب والعقاب؛ لأن هذه القضايا هي التي تمثّل الأسس الفكرية العقيدية التي يرتكز عليها الإسلام في عقيدته من حيث ذاته، وتنطلق منها الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم في بنيانه الفكري والروحي... وكل ما عداها فهو فروع وهوامش.
ولا بد لنا ـ في هذا المجال ـ من الإشارة إلى أن هذه السورة وأمثالها لا تتحدث عن هذه الأصول العقيدية بالطريقة التقليديّة التي تطرح الفكرة ثم تواجهها بشكلٍ مباشرٍ من خلال الأدلة والبراهين العلميّة، ولكنها تطرح الفكرة وتثير حولها جواً متحركاً، من خلال الأجواء المحيطة بالإنسان في حياته الذاتية والعامة، بحيث يشعر ـ معها ـ بأن الفكرة مطروحة في ساحة حياته، قبل أن تطرح في ساحة فكره. فإذا تحدث القرآن عن الله وعن توحيده، فإنه يبدأ الحديث عن الإنسان، وعن خلقه، وعن النعم التي يحيطه الله بها، وعن كل ما حوله من مفردات حياته وحياة الآخرين، حتى ليحسّ الإنسان بأن الله موجود في كل ما يحيط به، وفي كل ما يعيش معه، وذلك هو الأسلوب القرآني الذي يريد للإنسان أن يحس فيه بالله من خلال وجدانه وإحساسه بحركة الفطرة في داخله، قبل أن يحس به من خلال تفكيره ضمن نطاق المعادلات الفكرية. وليس معنى ذلك أن يغفل دور الفكر في هذا المجال، بل كل ما هناك أنه يثير حركة الفكر بطريقةٍ وجدانيةٍ مميّزةٍ.
وهكذا نجده في حديثه عن الرسالات والرسل، فإنه يُدخل الإنسان في أجواء التاريخ المتحرك، فيعيش تاريخ الرسالات، وحديث التحديات والأفكار المضادّة المطروحة في الساحة التي انطلق بها جنود الرسالات، مما يوحي بالفكرة من خلال التجربة الحية، لا من خلال الفكر التأمّلي التجريديِّ الغارق في الخيال. فأنت عندما تواجه الرسالات في القرآن، فإنك تلتقي بنوحٍ ويونس وموسى وعيسى وإبراهيم ولوطٍ وشعيب... وهم يدعون إلى الله، ويحملون أثقال المسؤولية، وأعباء الصراع، وقوة التحدي، وعمق التجربة، وامتداد الصبر، وحركة الإنسان في الرسالة، وضراوة الألم في خط المواجهة، وقساوة الظلم وشراسته، وغباء الكفر وسذاجته في شخصية الكافرين، ووعي الإيمان، وروحية الرسالة، وروعة الصدق، وطهارة الروح في شخصية الرسول... وتتمثل أمامك الساحة، بكل أوضاعها السلبية والإيجابية، حتى كأنك تنظر إليها على الطبيعة، فتلتقي بالحياة المتحركة التي تقدم لك الفكرة بكل وضوح.
أما حديث الآخرة والقيامة والجنة والنار... فإنه ينقلك إلى المشاهد الحيّة التي تضجّ بالحركة، وتنطلق بالإيحاء، وتنفتح على المسؤولية في الحياة، من خلال انفتاحها على موقف الإنسان من الله وأمامه... وبذلك تجد الحياة أمامك في قبضة العبث واللامعنى إذا ابتعدت عن المسؤولية في نتائجها الحاسمة في يوم القيامة، بينما تتمثل فيها كل معاني الجدّ والحركة والإيجابية عندما تقترب من خط المسؤولية في وعي الإنسان لدوره الطبيعي في الحياة؛ وبذلك لا يعود الإحساس بالآخرة غيباً فكرياً يتحرك في أجواء الضباب، بل يتحول في وعي المؤمن مشهداً متحركاً يحمل في داخله كل خصائص الإنسان الحي على صعيد الواقع، تماماً كما لو كان يراه أو يسمعه أو يلمسه بيده.
وفي ضوء ذلك، فإننا نتحرك مع هذه الأصول العقيدية في السورة، من خلال الجوّ المميز للأسلوب القرآني الذي يربي لنا عقلنا ووجداننا ونظرتنا إلى الحياة، ليجعل منها نظرةً واقعيةً عمليةً بعيداً عن النظرة الخيالية التجريدية.
وفيما بين ذلك كله، تتوالى اللمحات الفكرية، واللمعات الروحية، التي توحي للإنسان بالحركة في مسيرة حياته الخاصة والعامة عندما يدعو إلى الله، وعندما يجاهد في سبيله، وعندما يواجه حالة الصراع الداخلي ضد نوازعه الشريرة، كما تشير إليه بالمستوى الرفيع الذي ينبغي له أن يتطلع إليه في علاقته بالله، وفي الحصول على رضوانه في الدنيا والآخرة، وذلك من خلال ما يتحمّله من آلام المعاناة، وما يواجهه من تحدّيات وعقبات في كل مراحل الصراع العنيف مع قوى الشر والكفر والطغيان... وبذلك نقف مع خط العقيدة الذي لا يعيش في أبراج الفكر العاجية المترفة، بل في تفاصيل الحياة اليومية للإنسان، وفي خطوات الصراع المتحرك في جهاده، وفي نبضات المشاعر الحارّة في عروقه... وذلك هو سرّ التوحيد في إيحاءات الروح، ومعنى الرسالة في انطلاقات الفكر، وحركة القيامة في خط الالتزام، ووحي الشريعة في خطوات الإنسان في الحياة، حيث تلتقي القصة بالفكرة، وتمتد الفكرة في وعي الشعور، ويتحرك الشعور في رحلة الحياة، لتتكوّن من ذلك كله، القاعدة الفكرية والشعورية والعملية في بناء الشخصية الإسلامية، على هدى الله في وحيه وفي قرآنه، فيتحول القرآن ـ الكلمة إلى قرآن متحركٍ نابضٍ بالحياة في التجسيد الحيّ للإنسان القرآني المسلم في فكره وعاطفته والتزامه.
تفسير القرآن