من الآية 1 الى الآية 7
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات
{المص* كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِر بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ* فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}(1ـ7).
* * *
معاني المفردات
{المص}: تقدم الحديث عن الوجوه المذكورة في تفسير هذه الحروف المقطعة، في تفسير سورة البقرة عند الحديث عن {الم}.
{حَرَجٌ}: ضيق، شكّ. أصل الحرج والحراج مجتمع الشيء، وتُصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللإثم حرج[1].
{وَذِكْرَى}: تذكر نافع. وهو كثرة الذكر، وهو أبلغ من الذكر، قال في المجمع: الذكرى مصدر ذكّر يذكّر تذكيراً، فهي اسم للتذكير وفيه مبالغة[2].
{تَذَكَّرُونَ}: تتعظون.
{بَأْسُنَا}: قال الراغب: البؤس والبأس والبأساء: الشدّة والمكروه، إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية[3]، وقال غيره: يطلق البأس على الشجاعة والقوة وعلى الضرر والحرج؛ والمراد به هنا العذاب.
{بَيَاتاً}: أصل البيت مأوى الإنسان في الليل، والبيات والتبييت قصد العدو ليلاً.
{قَآئِلُونَ}: نائمون في النهار، من القيلولة.
{فَلَنَقُصَّنَّ} نتلونّ، والقصص ما يتلو بعضه بعضاً، ومنه المقص لأن قطعه يتلو بعضه بعضاً، ومنه القصة من الشعر والقصة من الكتاب، ومنه القصاص لأنه يتلو الجناية في الاستحقاق، ومنه المقاصّة في الحق لأنه يسقط ما له قصاصاً بما عليه.
* * *
انفتاح الداعية على مشاكل الساحة
{المص*كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي هذا الكتاب، أنزله الله إليك وحياً منه، في ما يريد للناس أن يسيروا على هديه من فكرٍ وخط عمل، وفي ما يريد للحياة أن ترتكز عليه أو تنطلق منه، من قاعدةٍ أو هدف، حتى يتحرك الكون في نظامه البشري على خط الإرادة الإنسانية المؤمنة الواعية المنسجمة مع إرادة الله، في ما يحب للإنسان أن يمارسه من عملية الاختيار، ليتطابق مع التوازن والحكمة في نظامه الكوني. ولا بد للإنسان، الذي يحمل مسؤولية قيادة الناس على خط الرسالة إلى الصراط المستقيم، من أن يعاني الصدمات والتحدّيات، ويواجه العقبات من القوى المضادّة التي لا تريد للحياة أن تنضبط وتتوازن، ولا ترضى للإنسان أن يستقيم. وربما كان من الطبيعيّ لهذا الإنسان ـ نبيّاً كان أو غيره ـ أن يتأثَّر نفسياً بالمشاعر السلبية في ما تتمثل به من ضيق الصدر، واختناق الروح، وفي ما تؤدي إليه من خطواتٍ تراجعيةٍ للتخلّص من ذلك كله.
ولهذا أراد الله لرسوله ـ كما أراد للدعاة من بعده، أن يعيش في نفسه إيجابية الانفتاح الروحي والشعوري على مشاكل ساحة الصراع، باعتبارها حالةً طبيعيةً تتحرك في نطاق السنن الكونية التي حدّدها الله لعملية التغيير في ما تفرضه من المراحل المتدرجة التي تبدأ من مرحلة الدعوة والتوعية، وتنطلق في حركة الحوار على خط الصراع، وتمتدّ في عملية المواجهة الحادّة التي تتقابل فيها الإيجابيات والسلبيّات، وتتصارع فيها الانفعالات والمشاعر والأفكار... وهكذا لن يكون الضيق النفسيّ والتشنُّج الفكري والروحي في مصلحة النتائج الإيجابية المرتقبة في حركة الدعوة والداعية في نهاية المطاف. وبتعبير آخر، إن هناك مزاجاً للإنسان ـ البشر في الرسول أو في الداعية، وهو المزاج الذي يتحرّك من خلال النوازع الذاتية في ما يعيشه من عوامل إثارة الانفعال الداخلي، وإنَّ هناك مزاجاً للإنسان ـ الرسول في شخصيته، وهو المزاج الذي تتحرّك فيه الرسالة، في وعيها للامتداد الرسالي في خط الزمن في ما تنفتح عليه من رحابة صدر لا يضيق بشيء، وسماحة روح لا تتعقّد من شيء، وانفتاح فكرٍ لا يتهرّب من شيء، لأن قصة الرسالة هي أن تصل إلى هدفها ولو بعد حين، بينما هدف الذات هو أن ترتاح مشاعرها في نطاق اللحظة الحاضرة.
وهكذا أراد الله لرسوله أن يعيش روحية الرسالة، لا عقدة الذات، {فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ} أي يا محمد {حَرَجٌ} أي من الكتاب، لما سيثيره حولك من مشاكل وقضايا في حياة الناس، ولما سوف تواجهه من الانحرافات التي تحوّلت إلى مناهج في الفكر وفي الحياة، ولما ستواجهه من الأوضاع التي تحوّلت إلى عاداتٍ وتقاليد، ومن الأساليب التي درج عليها الناس في طريقة إدارتهم للعلاقات والانتماءات، بما سيحوّله إلى عنصر إتعاب وإجهاد لك، كما أن الواقع الذي تريد تغييره يجعلك تقف في مواجهة كل القوى المتضررة من عملية التغيير، فتفقد ـ من خلال ذلك ـ كثيراً من الأصدقاء والأقرباء الذين يسيرون في الإتجاه الآخر، فعليك أن لا تشعر بالضيق والحرج من ذلك كله، بل يجب أن تستمر في حمل مسؤوليتك في إبلاغ الكتاب إلى الناس، {لِتُنذِرَ بِهِ} ليعرف الناس من خلال النتائج السلبية التي تحصل من أعمالهم، كيف يكون مصيرهم في الدنيا، في ما يقاسونه من البلاء، وكيف يكون مصيرهم في الآخرة، في ما يحلّ بهم من العذاب، ليرتدعوا بذلك عن الامتداد في خط الكفر والضلال، فإن الكثير من الناس لا يفهمون القضايا بلغة الفكر التحليلي القائم على الحجة والبرهان، لأنهم لا يعيشون الحقيقة في نطاق المسؤولية، بل يفهمونها بلغة الوعيد والتهديد، مما يجعل من أسلوب الإنذار سبيلاً يدعوهم إلى التفكير بجدّية في ذلك كله على أساس ما يتمخض عنه من نتائج قاسية، لا يملكون القوة على مواجهتها وتحمل آثارها.
{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الذين قد ينطلقون في خط الضلال، من جهة الغفلة التي تنسيهم الله، فتبعدهم عن وعي المسؤولية في عذابه وعقابه، فإذا جاءتهم آيات الله في كتابه، أصغوا إليها بمسامع قلوبهم، وفتحوا لها أرواحهم، وتذكّروا ـ من خلالها ـ كل ما يتعلق بمواقع هذه القضايا من دنياهم وآخرتهم، فيؤمنون بالدين كله، ويستزيدون من الإيمان في تفاصيله الفكرية والروحية والعملية... وربما كان اختصاص الذكرى بالمؤمنين، منطلقاً من أنّ هؤلاء هم الذين ينفتحون على الحقيقة، ويعيشونها هاجساً دائماً في أفكارهم ومشاعرهم، ويواجهونها في حالةٍ عميقةٍ من الإصغاء الواعي، والصفاء الروحي الهادىء... فتختزن قلوبهم وأحاسيسهم كل المعاني الحيّة والكلمات الصادقة، أمّا الآخرون الذين لا يعيشون هذا الهاجس، بل يمتدون في غفلتهم ولهوهم ولعبهم، ويتحركون من خلال شهواتهم، فإنهم يعيشون الظلمة المطبقة والغفلة الساذجة، والشعور الغبي الذي يعكس بلاهة الشخصية وسذاجة الروح.
* * *
اتباع ما أنزله الله على الرسول
{اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} ويتحوّل الخطاب، من خلال ما اختزنته الآية الأولى في مدلولها من خطاب الله للمؤمنين من خلال الرسول، لينتقل إلى مخاطبة المؤمنين مباشرة، بعد أن خاطبهم من خلال الرسول... فهم مدعوّون إلى اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، لأن فيه الحقيقة والوضوح والنجاح... وكيف لا يكون كذلك، وقد أنزله ربّهم الذي عاشت حياتهم برحمته، وامتدّت بلطفه، وتنوّعت بنعمه، وأراد لهم أن يتحركوا من خلال وحيه وشريعته، لينعموا بالسعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، فإنه لا يريد لهم إلا خيراً؛ وكيف لا يريد لهم ذلك، وهو الغنيّ عنهم في ملكه وسلطانه، الرحيم بهم في لطفه وإحسانه، اللطيف بهم بعفوه ورضوانه... وهل يريد الخالق بمخلوقاته إلا الخير في جميع ما يأمرهم به وينهاهم عنه؟! وهل يمكن أن يريد لهم الشر، وهو الذي أراد أن يخلصهم منه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} بحيث تطيعونهم في ما يأمرونكم به، وفي ما ينهونكم عنه، مما لا يتفق مع أمر الله ونهيه، لأن الله هو الذي يجب أن يتبع، فهو الذي يعرف ما يصلحكم وما يفسدكم، وهو الوليّ الذي يرعى عباده وينصرهم ويرحمهم، لا وليّ غيره، لأن الأمر كله إليه، فكيف تتخذون من دونه أولياء، وهم لا يملكون لأنفسهم ولا لكم ضراً ولا نفعاً، إلا بإذن الله؛ فلا تتبعوهم في ما يخططون ويستهدفون، وفي ما يدعون إليه من وسائل وأساليب، فذلك هو خط التوحيد الخالص، وهو خط الدعوة إلى الله في طريق الله، لأن التوحيد ليس فقط معادلة عقلية عن الوحدانية في العقيدة في ما يتحرك فيه الفكر، بل هو بالإضافة إلى ذلك وحدانية في العبادة والاتّباع، والشرك على العكس من ذلك. فإذا أخذتم من خطط هؤلاء وشريعتهم في الحياة، واعتنقتم فكرهم، واتبعتم عاداتهم وتقاليدهم الكافرة، وجعلتم كل ذلك جزءاً من حياتكم... فإنكم بذلك تعيشون الابتعاد عن خط التوحيد والاقتراب من خط الشرك، ولو بطريقةٍ غير مباشرةٍ، لأنكم تستلهمون غير الله في خط حياتكم. وتلك قصة تحتاج إلى مزيدٍ من الفكر والجهد والمعاناة والصبر من أجل تحويل خطّ الفكر إلى خطٍّ للعمل وللحياة.
{قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}... ولكن الناس يستسلمون لواقعهم، ويستصعبون أن يخرجوا منه أو يتغيروا عن أفكاره وعاداته، لأنهم يشعرون بالغربة والضياع بدونه، ويثيرون التفكير بالاهتزاز في مستقبل حياتهم إذا ابتعدوا عنه، تماماً كما هو الحائر الضائع الذي لا يعرف كيف يدبر أمره بعيداً عن طريقة تربيته وأسلوب حياته المألوف. وتلك هي مشكلة الأكثرية من الناس الذين لا يتذكرون إلاّ قليلاً، لسيطرة الأمر الواقع عليهم، واعتبارهم أن عملية التغيير سوف تلاحق فيهم هدوء حياتهم وتتحدى حبهم للكسل والاسترخاء والراحة والأمن، ولهذا فإنهم يخلقون لأنفسهم الكثير من المبررات والأعذار في هروبهم من حركة الصراع في الساحة، فيمتد ذلك إلى داخل شخصيتهم، فيحجب عنها الرؤية بضباب كثيف يوحي بالغفلة تارةً، وبالاستغفال أخرى... وربما كان هذا واقع الكثيرين الذين يسترخون للحياة وما تقدمه من جاهٍ وأمن وراحة وشهوة وطمع، فيستريحون لذلك ويأبون على أنفسهم أن يتذكروا بعض الأشياء التي تبعدهم عن ذلك، بل ربما يهربون من التفكير عندما تلاحقهم الحقيقة في بعض السبل التي تمر بهم في الحياة، فيستغفلون أنفسهم ليوحوا للاخرين بأن يجدوا لهم العذر الذي لا يجدونه لأنفسهم.
* * *
الظلم والسقوط الحضاري
{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} وهذه صورة من صور الإنذار في ما ينزله الله من العقاب على الناس الذين يتمردون على رسالاته، ويكذبون رسله، ويفسدون في الأرض. إنها الصورة التاريخية الحيّة التي تتلاحق فيها المواقع التي كانت مسرحاً للظلم والطغيان والكفر والعصيان. من قريةٍ إلى قرية، ومن مدينةٍ إلى مدينة... كيف دمرها الله بعذابه، وكيف أهلكها بقوته، من خلال الوسائل غير الطبيعية التي كانت تتحرك بطريقةٍ غيبيّة، في ما حدثنا الله عن قوم نوحٍ وعن قوم لوطٍ وشعيب وغيرهم... أو من خلال الوسائل الطبيعية، التي كانت تتحرك بطريقةٍ عاديةٍ في ما تتمخض عنه الانحرافات في داخل الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الأخلاقية.. أو في ما تتحرك به الأوضاع الطبيعية من الزلازل والفيضانات والبراكين وما إلى ذلك، مما يتمثل فيه بأس الله الذي كان يحدث في حالة البيات في الليل عندما يعيش هؤلاء الاسترخاء في منامهم، أو في حالة القيلولة عند الظهر عندما يستسلمون للراحة والنوم، للتّخفّف من عناء اليوم وتعبه... وربما كان التأكيد على هذين الوقتين باعتبار أن الإنسان يحس بالصدمة العنيفة في مثل هذه الحال، بمقدار ما تمثل من مفاجأة مذهلة، لأنه لا يكون على استعدادٍ نفسي لمواجهة ذلك، بينما لا تكون القضية بهذه المثابة في حالة الحركة التي يبدو فيها مستعداً لكل شيء.
فكيف يواجهون هذا الواقع؟ لا شيء إلا الاعتراف بأنهم ظلموا أنفسهم حين كفروا بالله وعصوه، وظلموا الناس حين تمردوا وتجبّروا عليهم. ولعل التعبير بقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} يوحي بأن سقوط الحضارات وهلاك الأمم الظالمة هو من السنن الإلهية التاريخية المطردة، باعتبار أن الظلم الفكري والعملي ينحرف بالحياة عن مسارها الطبيعي وهو العدل، وينحرف بالإنسان عن خط التوازن في الحركة والعلاقات، مما يؤدّي إلى الانحلال والتمزق الداخلي والخارجي على صعيد الفرد والمجتمع، فلا يبقى هناك أي موقع للتماسك الإنساني، فينتهي به إلى السقوط والانهيار الحضاري.
ولكن ما فائدة ذلك؟! إن الله لا يقبل الاعتراف القادم في لحظات الموت، ومعاينة العذاب، لأنه لا يمثل الإرادة الحرة المتحركة في خط القناعة الوجدانية في ضوء الدليل والبرهان... إنها حالة هروب من الواقع، وليست حالة اعتراف وندم.
{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} كأي إنسان ينكر في حالة الاسترخاء، بما يوحي به إلى نفسه من شعور بالقوة على التمرد والجحود، ولكنه يحس بالضعف والانسحاق أمام الواقع المرِّ الذي يصطدم به، فيتحداه بكل النتائج القاسية التي كان يهرب منها، فيقف وقفة الخائف المذعور الذي يبحث عن كلمة اعتراف، أو موقف ندم يوحي إليه بالأمن من العذاب، ولكن دون جدوى. {فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} من الأمم والشعوب عن ذلك كله، فإنّهم سيتحدثون بكل ذلك، وإذا كانوا غير حاضرين أمامنا الان لأنهم ذهبوا في ظلمات التاريخ، فإن تاريخهم حاضر بين أيدينا، بكل نتائجه وآثاره وبقاياه، يعرفنا كيف بادت تلك الحضارات ولماذا، وكيف هلكت تلك الأمم ولماذا، فنعرف أن انحرافهم عن طريق الله هو الذي أدّى إلى ذلك كله.
{وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ} كيف واجهتهم أممهم بالجحود والنكران، وسيقدّمون تقريرهم إلى الله يوم القيامة، كما قدموا تقريرهم في ما كانوا يعيشونه من مشاكل وآلام في وقت الرسالة. {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} لا على أساس تخمينٍ وحدسٍ كما يحدث في أقاصيصكم التي قد ترتكز على كثيرٍ من أفانين الظن والخيال {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } فإن الله حاضر في الزمن كله، كما أن الزمن كله حاضرٌ أمام الله. إن الزمن يرافقنا أوّلاً ثم يتركنا ثم يستقبلنا ونستقبله، ولكن الله هو الذي خلق الزمان، وخلق الحياة التي يتحرك فيها الزمن؛ فحضوره هو الحضور، وكل ما عداه هو ظلٌّ زائل.
* * *
هل يأتي العذاب بعد الإهلاك؟
لقد توقف المفسرون أمام فقرة {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً} لأن الظاهر أن الفاء للتعقيب، مما يعني أن ما بعدها يأتي متأخراً عما قبلها، فكيف يكون مجيء العذاب بعد الاهلاك مع أن القضية بالعكس؟
وقد ذكر في الجواب عن هذه الملاحظة عدة وجوه :أحدها: ما ذكره الزمخشري في أن المقصود بأهلكناها «أردنا إهلاكها»[4] لا الإهلاك الفعلي. ثانيها: أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا ولعله قريب من الأول. والثالث: انه مثل: زرتني فأكرمتني، فإن نفس الإكرام هي الزيارة، قال علي بن عيسى: وليس هذا مثل ذلك، لأن هذا إنما جاز لأنه قصد الزيارة ثم الإكرام بها[5].
وربما كان الأقرب أن المسألة واردة على نحو الاجمال والتفصيل، بأن يكون المقصود هو الحديث عن الإهلاك أولاً على نحو الإجمال ثم الحديث عن تفعيل ذلك بمجيء العذاب في الليل أو في وقت القيلولة كتفصيل للإهلاك؛ والله العالم.
* * *
من وحي هذه الآيات
وقد نستوحي من هذه الآيات إثارة الخوف من عذاب الله في وجدان الناس الذين يتمردون على الله ويستهينون بإنذاره، وذلك من خلال الحديث عن التاريخ الذي عاش فيه المتمردون السابقون، حيث لم ينفعهم ما كانوا يملكونه من وسائل القوة، مما يمتد إلى الإنسان المعاصر الذي قد يملك الكثير من قوّة الحماية بالمكتشفات الحديثة، ولكنه لا يملك الوسائل التي تحميه من الزلازل والعواصف والبراكين والفيضانات ونحوها، وهي ـ في نتائجها التدميرية ـ قد تكون ـ في بعض الحالات ـ مظهراً من مظاهر عذاب الله، الأمر الذي يجعل البأس الإلهي شاملاً لكل العصور ولكل مواقع القوة عند الإنسان.
* * *
كيف نفهم سؤال الله الرسل والناس؟
وربما يثار أمامنا سؤال: كيف نفهم سؤال الرسل والناس الذين أرسلوا إليهم، لأن السؤال يتحرك في نطاق إرادة السائل معرفة ما عمله المسؤول، والله العالم بكل تفاصيل اعمال عباده لأنه المحيط بهم من كل الجهات؟
والجواب: إن الظاهر هو ورود الآية مورد إثارة الإحساس بالمسؤولية في وعي الناس بأنهم سيواجهون غداً الموقف الحاسم في ساحة المحكمة الإلهية التي يقيم فيها الله الحجة على الناس من خلال اعترافاتهم بما قدّموه من أعمال الخير والشرّ، فيعلم الجميع بأن الله لا يظلم الناس شيئاً من أعمالهم في جانب السلب والإيجاب، ثم من خلال تقرير المرسلين عن مهمتهم الرسالية، كيف بلّغوا الأمم التي أرسلوا إليها بوحي الله بما أنذروا وبشروا، وماذا أجابهم أولئك بالايمان أو الكفر، فيكون الرسل شهوداً عليهم، فلا يبقى لديهم ما يعتذرون به.
وربما كانت القضية ـ في الآية ـ واردة في سياق الحديث عن المسؤولية الإلهية التي يواجهها الناس من أمم أو رسل، لأن الحساب شامل للجميع، بقطع النظر عن موقعهم من الله، فإن السؤال يفصح عن الإخلاص والصدق في أجوبة المخلصين الصادقين، كما يُظهر زيف المزيفين وكذب الكاذبين، ليعرف الجميع أن الخلق متساوون أمام الله يوم القيامة، لا فرق بين الناس والرسل في ذلك كله.
ولذلك، فليس هناك استعلام من الله لعباده، بل هو توجيه لما يقبلون عليه في وقوفهم بين يديه، لإثارة وعي المسؤولية في وجدانهم الفكري، وتجربتهم العملية، وإقامة الحجة عليهم في كل أمورهم.
وقد يطرح سؤال آخر: كيف يمكن التوفيق بين التأكيد على شمولية السؤال للناس والمرسلين وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْـَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ*فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالاَْقْدَامِ} [الرحمن:39ـ41]، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون؟!
وقد أجيب عن هذا السؤال بعدة أجوبة، (منها): ما ذكره صاحب مجمع البيان: «أنه ـ سبحانه ـ نفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام، وإنما يسألهم سؤال تبكيت وتقريع، ولذلك قال ـ عقيبه ـ {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهم}، وسؤال الاستعلام مثل قولك: أين زيد؟ ومن عندك؟ وهذا لا يجوز على الله سبحانه. وسؤال التوبيخ والتقريع كمن يقول: ألم أحسن إليك فكفرت نعمتي؟ ومنه قوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} [يس:60]، {أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:105]، وكقول الشاعر: «أطرباً وأنت قنسري» أي كبير السن، وهذا توبيخ منه لنفسه، أي كيف أطرب مع الكبر والشيب، وقد يكون السؤال للتقرير كقول الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايـا وأندى العالميـن بطـون راح
أي أنتم كذلك، وفي ضده قوله: «وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر» أي لا يصلح. وأما سؤال المرسلين فليس بتقريع ولا توبيخ لهم ولكنه توبيخ للكفار وتقريع لهم.
(وثانيها) أنهم إنما يُسألون يوم القيامة كما قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [الصافات: 24] ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة وعند دخولهم النار، فلا تنافي بين الخبرين، بل هو إثبات للسؤال في وقت ونفي له في وقت آخر.
(وثالثها) أن في القيامة مواقف، ففي بعضها يسأل وفي بعضها لا يُسأل، فلا تضاد بين الآيات...»[6].
(ومنها) أن الآيات النافية للسؤال إشارة إلى المساءلة الشفاهية، والآيات المثبتة إشارة إلى المساءلة التي تقع على الجوارح وهي تتكلم بلسان الحال، مثل حمرة وجه الإنسان خجلاً من انكشاف الحال في إجرامه البارز عند ظهور الحقائق.
وربما كان الأقرب للسياق في آيات نفي السؤال أنها واردة في مورد التأكيد على أن الله يعلم ذنوب المذنبين وإجرام المجرمين، فلا حاجة به إلى سؤالهم للتعرف على ذلك، مع وضوحها عندهم من خلال ما يعرفونه من أنفسهم وما يقرأونه في كتاب الأعمال الذي يراد للإنسان قراءته ليكون الحسيب على نفسه بنفسه، ويتطلع المجرمون إلى ما فيه فيجدونه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ولذلك فإن هناك وضوحاً في قيام الحجة عليهم المبررة لعذابهم. أما آيات السؤال فهي واردة لإقامة الحجة عليهم بإظهار أعمالهم من خلال اعترافاتهم، فلكل آية سياق يختلف عن سياق الآية الأخرى؛ والله العالم بحقائق آياته.
* * *
من هم الذين يشعرون بالحرج تجاه القرآن؟
إننا نقف أمام هذه الآيات التي أرادت للنبي ومن معه أن لا يضيقوا بالقرآن الذي يحملهم مسؤولية المواجهة والانفتاح على ساحة الصراع، لنستوحي من ذلك حركة الإنسان الرسالي في الواقع الذي يعيش هموم القرآن في آياته ومفاهيمه وحركيته، ويحمل في وجدانه هموم التغيير من أجل تحويل خط الانحراف إلى خط الاستقامة، ليعيش الإنسان مع الله في كل حياته المادية والمعنوية من خلال الالتزام بوحيه في كل خطوطه العقيدية والتشريعية والمنهجية والحركية. بكلام آخر، على الإنسان الحركي أن يعرف جيداً كل ما يمكن أن تنتجه له الرسالة في حركة الواقع والمواجهة، من آلام وتضحيات وجراحات جسدية أو روحية، وأن يعي في وعيه الإسلامي للحياة أن هناك أكثر من مرحلة لا بد أن يقطعها العاملون، في سبيل الوصول إلى النتائج الإيجابية الحاسمة بعد جهد طويل، ولذلك يجب أن لا يعيشوا الضيق النفسي والسقوط الروحي أمام الصعوبات والتحديات الكبرى، بل عليهم أن يواجهوها بعقل منفتح وصدر رحب وحركة واعية.
أمّا الذين يعيشون الحياة حركة في داخل الذات، ويحملون الرسالة في معنى المهنة، ويرون في التضحيات خسارة، وفي التعب مشكلة، وفي العقبات يأساً، ويعملون على البحث عن المبررات أو التبريرات لكل تراجع وتخاذل وهزيمةٍ، ليتخففوا من مسؤولياتهم في الدعوة وفي العمل، أمّا هؤلاء فهم الذين يختنقون بالضيق النفسي، والحرج الشعوري، ويضيقون ذرعاً بكل مشكلة في الطريق، ويبتعدون عن هموم الساحة ليقتربوا من هموم الذات من أجل الاسترخاء في لذّات الحياة وشهواتها بعيداً عن الرسالة والرساليين.
ـــــــــــــــــ
(1) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص:111.
(2) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار المعرفة، ط:1، 1406هـ ـ 1986م، ج:4، ص:609.
(3) مفردات الراغب، ص:32.
(4) الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، الكشاف في عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:2، ص:67.
(5) يراجع: مجمع البيان، ج:4، ص:612.
(6) مجمع البيان، ج:4، ص:615.
تفسير القرآن