من الآية 8 الى الآية 9
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتــان
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}(8ـ9).
* * *
معاني المفردات
{وَالْوَزْنُ}: مقابلة أحد الشيئين بالآخر حتى يظهر مقداره، وقد استعمل في غير ذلك تشبيهاً به، فمنها وزن الشعر بالعروض، ومنه قولهم: يزن كلامه وزناً.
{الْحَقُّ}: وضع الشي موضعه على وجهٍ تقتضيه الحكمة، وقد استعمل مصدراً على هذا المعنى وصفة كما جرى ذلك في العدل، قال الله سبحانه: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:62] فجرى على طريق الوصف.
{ثَقُلَتْ}: الثقل عبارة عن الاعتماد اللازم سفلاً، ونقيضه الخفّة، وهي الاعتماد اللازم علوّاً.
* * *
والوزن يومئذٍ الحق
لكل شيء وزن، يحدد حجمه ومقداره بحسب الوحدة التي تعيّن المقادير. وللوزن مقياسان؛ مادي ومعنوي. فأما المادّي، فهو الذي يعيّن مستوى الثقل في الأشياء في ما تعارف عليه الناس من الغرام، والكيلو، والطن، ونحو ذلك مما يختلف اسمه ونوعه حسب اختلاف البلدان واللغات… وأمّا المعنويُّ، فهو الذي يحدّد مستوى الثقل الفكريّ والعمليّ والاجتماعي والروحي للأشخاص وللمؤسسات، ليحدّد من خلال ذلك القيمة الفكرية والروحية والاجتماعية والعملية لها، ولتوضع ـ على أساس ذلك ـ القضايا السلبية أو الإيجابية المتصلة بحركة هذه الأشياء بما تحمل من علم أو تجيد من أمور، كما توحي به الكلمة المأثورة عن الإمام علي(ع): «قيمة كل امرىءٍ ما يحسنه»[1] وكما نستلهم من الآية الكريمة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. وقد يتحدثون عن الوزن الروحي بما تمثله الملكات النفسية، وعن الوزن الاجتماعي والسياسي بما يمثّله من حجم اجتماعي أو سياسي في حياة الآخرين. وهكذا يحس الناس بِخفّة الأشياء وثقلها، في ميزان تفكيرهم ومشاعرهم، وفي تقييمهم لما حولهم من أشخاص أو مؤسسات...
أما في يوم القيامة، فهناك الوزن الحقّ للأشخاص، في ما يملك الناس من خصائص وأعمال في الدنيا وما خلّفه الإنسان وراءه من مواقف، مما يمثل تاريخ الإنسان في علاقته بالحياة من خلال علاقته بالله، فإذا كان تأريخه مثقلاً بالأعمال الكبيرة المنسجمة مع حجم مسؤولياته في إيجابية الممارسة، كان وزنه ثقيلاً في ميزان القيمة عند الله، ممّا يمنحه، في قضية المصير، شهادة فلاح ونجاح بما قدّمه للناس من حوله من فرص الخير والعلم والحرية والهدى والإيمان، وبما أجهد فيه نفسه، وأتعب فيه بدنه. أما إذا كان تأريخه فارغاً من ذلك كله، لأن كل همه في الحياة كان أن يأكل ويشرب ويلبس ويستمتع بمختلف شهواته ولذّاته، وأن يعيش الحياة في كسل واسترخاء من غير هموم ومشاريع كبيرةٍ تتجاوز نفسه إلى أمته، فإن أعماله لا تمثل وزناً في حجم المسؤولية. وإنسانٌ في هذا المستوى من البعد عن الله وعن حركة الحياة، لا بد أن يكون ميزانه خفيفاً يطير في الهواء، لأنه لا يجد في مقابله شيئاً يقترب به من خطّ التوازن. وهذا ما أشارت إليه الايتان: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، لأنهم استطاعوا أن يحوّلوا طاقاتهم إلى أفكارٍ وأعمالٍ ومواقف امتدت في رحاب الزمن، وتعمقت في وعي الإنسان، وانطلقت في آفاق المعرفة، فوجدوها أمامهم بعد أن تركوا هذه الدنيا، في ما أثاروه وفعلوه، وعاشوه، مما يقربهم إلى الله ويقودهم إلى رحمته؛ فكأنّ هذه الطاقات قد بقيت لهم بثقلها وحجمها، ممّا جعلها تثقل الميزان في حساب الأعمال؛ وذلك هو سرّ الفلاح في الدنيا والآخرة، عندما يقف الإنسان على الشاطىء الأمين، بعد مسيرة طويلةٍ في قبضة الأمواج.
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم}، لأن قيمة النفس بمقدار ما تساوي من عملٍ.. فيما كان الإنسان يستطيع أن يفعله في حياته، ليربح امتدادها في قضية المصير. فإذا لم ينتهز الفرصة السانحة، فسيجد نفسه في خسارةٍ فادحةٍ لا يملك معها شيئاً، أيّ شيء، حيث لا يبقى له إلا النار وبئس القرار… {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} وذلك هو السبب الذي يجلب الخسارة للإنسان، أن يظلم الإنسان ربّه بانحرافه عن آياته، وتمرده عليها، فيبتعد عن الانسجام مع حقوق الله عليه في ما أفاض عليه من نعمة الوجود، وأغدق عليه من أَلطافه في امتداد حياته، وما فتح له من نوافذ المعرفة التي تفتح قلبه على الحقيقة... وأي ظلمٍ أفظع من هذا الظلم، أن تستعمل ما منحك الله من نعمه في التمرد عليه ومعصيته، فتفقد بذلك كل دنياك وآخرتك.
* * *
آراء المفسرين في قوله تعالى:
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} .
اختلف المفسرون حول فقرة {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } ما هو المراد بالوزن؟ ذكر ـ كما في مجمع البيان ـ فيه أقوال: «(أحدها) أن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة، وأنه لا ظلم فيها على أحد، عن مجاهد والضحاك، وهو قول البلخي.
وثانيها: أن الله ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة، فتوزن به أعمال العباد الحسنات والسيّئات، عن ابن عباس والحسن، وبه قال الجبائي.
ثم اختلفوا في كيفية الوزن، لأن الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة ولا يكون لها وزن ولا تقوم بأنفسها، فقيل: توزن صحائف الأعمال، عن عبد الله بن عمر وجماعة، وقيل: يظهر علامات للحسنات وعلامات للسيّئات في الكفتين، فيراها الناس، عن الجبائي، وقيل: يظهر للحسنات صورة حسنة وللسيئات صورة سيئة، عن ابن عباس، وقيل: توزن نفس المؤمن والكافر، عن عبيد بن عمير، قال: يؤتى بالرجل العظيم الجثّة فلا يزن جناح بعوضة.
وثالثها: أن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم، ومقدار الكافر في الذلة كما قال سبحانه: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105]. فمن أتى بالعمل الصالح الذي يثقل وزنه أي يعظم قدره فقد أفلح، ومن أتى بالعمل السيّىء الذي لا وزن له ولا قيمة فقد خسر، عن أبي مسلم. وأحسن الأقوال القول الأول وبعده الثاني، وإنما قلنا ذلك لأنه اشتهر من العرب قولهم: كلام فلان موزون وأفعاله موزونة، يريدون بذلك أنها واقعة بحسب الحاجة لا تكون ناقصة عنها ولا زائدة عليها زيادة مضرة أو داخلة في باب العبث، قال مالك بن أسماء الفزاري:
وحـديـثٌ ألذّهُ هو ممـا ينـعت الناعتون يُوزنُ وزْنا
منطقٌ صائبٌ ويلحن أحيا ناً وخير الحديث ما كان لحنا
... وعلى هذا فيكون معنى الوزن أنه قام في النفس مساوياً لغيره كما يقوم الوزن في مرآة العين كذلك، وأما حسن القول الثاني فلمراعاة الخبر الوارد فيه والجري على ظاهره»[2].
وقد ذكر السيد الطباطبائي في الميزان، أن الوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحق فيها، وبقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب، وإن لم تشتمل فهو الهلاك، وهذا التوزين هو العدل، والكلام في الآيات جارٍ على ظاهره من غير تأويل»[3]. ولعل هذا هو الأقرب إلى سياق الفقرة، لأن الظاهر اعتبار الحق هو الميزان، بحيث يكون الحق هو الأساس في النتائج الإيجابية والسلبية في مصير الإنسان، وهذا هو الذي تؤكده الآية في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، حيث وصف الموازين بأنها القسط، وهذا هو الذي جاء في حديث الإمام الصادق(ع) في حديث هشام بن الحكم عن الصادق(ع) أنه سأله الزنديق فقال: «أوليس توزن الأعمال؟ قال: لا، إن الأعمال ليست بأجسام وإنما هي صفة ما عملوا، وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء، ولا يعرف ثقلها وخفتها، وإن الله لا يخفى عليه شيء، قال: فما معنى الميزان؟ قال: العدل. قال فما معناه في كتابه: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ}؟ قال: فمن رجح عمله... الخبر»[4].
ولعل مشكلة الكثيرين من المفسرين في تفسيراتهم لكلمات القرآن أنهم يحملونها على معناها الحرفي غير ملتفتين إلى أساليب البلاغة من الاستعارة والمجاز من خلال القرائن المتنوعة التي يحددها السياق العام للكلمة الذي قد يتحدث عن العمق المعنوي لا عن السطح المادي بطريقة الإيحاء.
وهذا هو الظاهر من كلمات الوزن والميزان والموازين التي تكررت في القرآن في مورد الحديث عن الأعمال بلحاظ النتائج المترتبة عليها في حساب ثواب الله وعقابه مما لا علاقة له بالحجم المادي للاشياء، الذي لا مجال له في عالم الأعمال التي هي حركة الإنسان في الواقع مما لا وزن له في الحسابات العينية المادية.
ويشكل العدل المقياس الإلهي لتقدير أعمال الناس ونتائجها. وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بأكثر من أسلوب، ومنه أسلوب الميزان الذي يمثل المقياس المادي في مقابلة الشيء بالشيء من دون زيادة أو نقصان.
ومن اللافت إصرار العلامة الطباطبائي على نظرية تجسّم الاعمال، فيقول في ذيل الحديث عن الوزن والموازين قد تقدم البحث عن معنى تجسّم الأعمال، وليس من الممتنع أن يتمثل الاعمال عند الحساب والعدل الإلهي القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الاعمال وسلعها لكن الرواية الواردة عن الإمام الصادق في حديثه مع الزنديق لا تنفي ذلك، وإنما تنفي كون الأعمال أجساماً دنيوية محكومة بالجاذبية الأرضية التي تظهر فيها في صورة الثقل والحفة، أولاً. والإشكال مبنيّ على كون كيفية الوزن بوضع الحسنات في كفة من الميزان، والسيئات في كفة أخرى ثم الوزن والمقياس، وقد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة ذلك اصلاً، ثانيا[5].
ونلاحظ على ذلك، أنّ المسألة ليست مسألة الإمكان والاستحالة لنبحث عن توجيهٍ للتجسيم في صورة ميزان توزن به امتعة الأعمال وسعيها، بل المسألة هي في ظهور النص القرآني في ذلك المعنى، باعتبار أن النكتة البلاغية المبنية على الاستعارة ظاهرة في غير ذلك وأن، الفهم الحرفي للكلمة يبتعد عن البلاغة اللفظية في آيات القرآن.
وقد ورد بالإسناد عن المنقري عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} ، قال: هم الأنبياء والأوصياء.
والظاهر أن هذا التفسير واردٌ مورد الاستيحاء بلحاظ أن هؤلاء يمثّلون الصورة المشرقة للقيم الروحية والأخلاقية التي أراد الله للناس ان يجسدوها في الحياة، في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم، فهم التجسيد الواقعي لهذه القيم مما يجعلهم ميزاناً لتقويم أعمال العباد بمقدار قربهم منهم وبعده عنهم، فهم الميزان الواقعي للأعمال بالطريقة الايحائية في المقارنة بين أعمالهم وأعمال الناس؛ والله العالم.
ــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة، ضبط نصه د. صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، بيروت ـ لبنان، ط:2، 1982م، ص:482، حكمة:81.
(2) مجمع البيان، ج:4، ص:616.
(3) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، 1411هـ ، 1991م، ج :8، ص:14.
(4) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1412 هـ ـ 1992م، م:3، ج:7، ص:370، باب:10، رواية:3.
(5) تفسير الميزان، ج:8، ص:7.
تفسير القرآن