تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 19 إلى الآية 25

 من الآية 19 الى الآية 25

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ* قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ* قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ* قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}(19ـ25).

* * *

معاني المفردات

{فَوَسْوَسَ}: الوسوسة: الصوت الخفي المكروه، وقد يراد بها هنا ما يجده الإنسان في نفسه من الخواطر الضارّة.

{لِيُبْدِيَ}: الإبداء: الإظهار وهو جعل الشيء على صفة ما يصحّ أن يدرك، وضده: الإخفاء، وكل شيء أزيل عنه الساتر فقد أبدي.

{وُورِيَ} الشيء: غُطّي وستر. والمواراة: جعل الشيء وراء ما يستره، ومثله المساترة وضده المكاشفة.

{سَوْءَاتِهِمَا}: السوأة: ما يسوء الإنسان؛ والمراد بها هنا العورة، حيث يسوؤه ظهورها.

{وَقَاسَمَهُمَآ}: المقاسمة لا تكون إلاّ بين اثنين، والقسم كان من إبليس لا من آدم. وإنما قال: وقاسمهما، كما يقال: عاقبت اللص وطارقت النعل وعافاه الله، وكذلك قاسمته، وقيل إن في جميع ذلك معنى المقابلة، كأنه قابله في المنازعة باليمين، والمعاقبة مقابلة بالجزاء، وكذلك المعافاة مقابلة المرض بالسلامة.

{فَدَلاهُمَا}: استنزلهما وجرأهما على الخطيئة، والتدلّي: الدنو والاسترسال، من دلوت الدلو أرسلتها، وأدليتها: أخرجتها، ومنه قولهم: فلان يتدلى إلى الشرّ لأن الشرّ سافلٌ والخير عالٍ.

{بِغُرُورٍ}: بباطل وخداع.

{وَطَفِقَا}: أخذا، شرعا.

{يَخْصِفَانِ}: يلصقان ورقةً على ورقةٍ.

{اهْبِطُواْ}: انزلوا بسرعة، والهبوط: النزول بسرعة.

{عَدُوٌّ}: العدوّ ضد الولي، وقيل: العدوّ هو النائي بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته، والولي هو الداني بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته.

{مُسْتَقَرٌّ}: هو موضع الاستقرار، وقيل: هو الاستقرار بعينه، لأن المصدر يجيء على وزن المفعول.

{وَمَتَاعٌ}: المتاع: الانتفاع بما فيه عاجل استلذاذ، لأن المناظر الحسنة يستمتع بها لما فيها من عاجل اللذة.

{حِينٍ}: الحين: الوقت، قصيراً كان أو طويلاً، إلا أنه قد استعمل هنا على طول الوقت، وليس بأصل فيه، كقول القائل: ما لقيته منذ حين.

* * *

آدم وحواء يخضعان لخداع إبليس

... وأراد الله الإيحاء إلى آدم بكرامته عليه، في ما يمهد له من سبل رضوانه ونعمه، فقال له: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وخذا حريتكما في التمتع بأثمارها في ما تختاران منها ممّا تستلذّانه أو تشتهيانه... {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} لا يمنعكما منه مانع، {وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ} فهي محرمةٌ عليكما. هذه هي إرادة الله التي انطلقت من موقع حكمته في توجيهكما إلى أن تواجها المسؤولية من موقع الالتزام والإرادة، في الامتناع عن بعض ما تشتهيانه من أجل إطاعته في ما يأمر به أو ينهى عنه؛ فلا بد من تجربةٍ أولى لحركة الإنسان في عملية الإرادة، فلتبدأ تجربتكما الأولى في هذه الأجواء الفسيحة التي منحكما الله فيها كل شيء، مما يجعل من النهي الصادر منه إليكما، تكليفاً ميسّراً لا صعوبة فيه ولا حرج، فبإمكانكما السير في نقطة البداية من أيسر طريق، فلا تقربا هذه الشجرة {فَتَكُونَا مِنَ الظَّـلِمِينَ }، الذين يظلمون أنفسهم، ويسيئون اَليها بالانحراف عن خط المسؤولية في طاعة الله. ولم يكن لديهما أيُّ حافزٍ ذاتيّ يدفعهما إلى المعصية، لأنهما لا يشعران بالحاجة إلى هذه الشجرة بالذات، ما دامت الشجرة لا تمثل شيئاً مميزاً في شكلها وثمرها.

* * *

التوهّم علَّة الانحراف

ولكنّ إبليس، الذي أخرجه الله من الجنة، ومنعه أن يسكنها، كان يملك الاقتراب منها، أو التردّد عليها، فعمل على أن يثير في داخلهما الأفكار التي تجعل من هذه الشجرة قضيّةً مهمةً ذات أبعادٍ كبيرةٍ في حياتهما، وأن يحوّل هذا السلام الداخلي والصفاء الروحي ـ اللذين يعيشانهما في علاقتهما بالله ـ إلى حالةٍ عنيفةٍ من الهمّ والقلق والتطلُّع إلى آفاق موهومةٍ يفتحها الخيال الذي يريد إثارته في أحلامهما. وتلك هي قصّة الأحلام السعيدة في أكثر مظاهرها، فهي تتحرك من مواقع الخيال الذي يتحرك في النفس كما يتحرك الضباب، فيحسّ معه الإنسان بسحر الغموض الذي لا يطيق معه أن يخرج إلى مطالع النور، وكلّما زادت خيالات الإنسان، كلما ابتعدت الصورة الحقيقية عن وجدانه، لأنه يعطيها ضخامة لا تملكها، وسحراً لا تحتويه. وهذا ما يزيّن المعصية لدى الإنسان، عندما يتحرك للاعتداء على ما يملكه غيره، مما يملك مثله، على أساس الخيالات التي تصوّر له أنه يتميز عمّا لديه. وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) عندما كان جالساً بين أصحابه ذات يوم، فمرّت امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال لهم: «إن أبصار هذه الفحول طوامح وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته»[1].

هذا ما يريد أن يثيره في أنفسهم.. ليس هناك فرقٌ بين الشهوة التي يحصل عليها من الاتصال بامرأته أو من الاتصال بامرأة أخرى، إلا في ما يثيره الخيال في نفس الإنسان من أوهام، بما تحدثه من أحاسيس ومشاعر حميمة لا أساس لها. وهذا ما بدأه إبليس في تجربته الأولى لإغواء آدم وحوّاء؛ فقد عاشا في الجنّة، ولا فكرة لهما عن المستقبل، ولا عن الحياة والموت، أو عن الخلود والفناء، ولا طموح لهما في مسألة الملك والرفعة؛ فهما هنا في الجنة في رضوان الله ونعيمه، يعيشان السعادة والطمأنينة والسلام الروحي دون مشكلة {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} بطريقته الخاصة، وأثار في داخلهما الإحساس بفكرةٍ جديدةٍ لم تخطر لهما على بال؛ فهما هنا ــ في الجنة ــ يستمتعان بكل شيءٍ فيها، ما عدا هذه الشجرة، فلماذا المنع عن هذه الشجرة بالذات؟ لا بد أن هناك سراً خفياً وراء ذلك، فما هو هذا السر؟! وكانا يسيران عاريين لا يلتفتان إلى شيء يميز عضواً عن عضو في جسديهما مما يثير الحياء والخجل. وبدأت الأخيلة الجديدة تثير علامات الاستفهام أمامهما... ما هذا وما ذاك؟ وما دور هذا، وما دور ذاك... وتحوّلت الوسوسة الخفية الدائمة، إلى حالةٍ من القلق الخفيف الذي يزحف على المشاعر فيحرّكها في حالةٍ من التوتر والارتباك... واستمر إبليس في إثارة الوسوسة في داخلهما {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَتِهِمَا} ليعيشا هذا الهاجس العضوي في جسديهما. {وَقَالَ مَا نَهَـكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـلِدِينَ } وأثار في داخلهما طموح الملك والسيطرة والخلود، وربط ذلك بالشجرة، فهي تحمل في ثمرها سرّ الخلود والملك. فانطلقا إليها بكل شوقٍ ولهفةٍ، وأطبقت عليهما الغفلة عن مواقع أمر الله ونهيه، لأن الإنسان إذا استغرق في مشاعره وطموحاته الذاتية، واستسلم لأحلامه الخياليّة، نسي ربّه، ونسي موقعه منه، وأصبح يفكّر في الاتجاه الواحد الذي يقوده إليها بعيداً عن كل مسؤولية.

* * *

إبليس يستغلُّ براءة آدم وحواء

وربما استشعرا بعض القلق في داخلهما، وعاشا بعض التردد في موقفهما. وحاول إبليس أن يزيل ذلك كله، فيؤكد الموقف لهما بالطريقة التي لا مجال فيها للتراجع، وذلك بالأيمان المغلظة التي يطلقها بحرارة المؤمن بما يقول، الواثق بما يعد {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـصِحِينَ}، وحلف لهما أنه لا يدّخر جهداً في تقديم النصيحة لهما، فلا مصلحة له في أن يأكلا أو لا يأكلا، بل هي مصلحتهما أوّلاً وأخيراً. ولم يكن عندهما أيّة تجربةٍ سابقةٍ مع مخلوقٍ يحلف بالله ويكذب، أو يؤكد النصيحة ويخون أو يغشّ، فصدّقاه وأقبلا على تلك الشجرة المحرّمة يذوقان من ثمرها {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} أي أنزلهما عن درجتهما الرفيعة، فأوصلهما إلى مرحلة السقوط بسبب الغرور الذي أوقعهما فيه، في ما استعمله من أساليب الخداع. {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا} وشعرا بالعري الذي بدأ يبعث في نفسيهما الشعور بالخزي والعار، في اَحساسٍ جديد لم يكن لهما به عهدٌ من قبل. وقيل: إنهما كانا يلبسان لباس أهل الجنة، فسقط عنهما بسبب المعصية. {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} ليسترا سوءاتهما في إحساس بالحاجة إلى ذلك، بطريقة غريزية، من خلال شعورهما بالدور الخجول للعورة، أو لأمرٍ آخر يعلمه الله، وسقطا في الامتحان وأخفقا في التجربة، وبدأ هناك شعورٌ خفيٌّ بالخيبة والمرارة نتيجة إحساسهما بأنهما ارتكبا ما لا يجب أن يرتكباه، وربّما تذكّرا نهي الله لهما عن الأكل من الشجرة، وربما يكونان قد عاشا بعض الحيرة في ما يفعلانه في موقفهما هذا، فهذا أمر جديد لا يعرفان كيف يتصرفان فيه..

وهنا جاءهما النداء من الله مذكّراً ومؤنّباً {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}؟! فكيف خالفتما هذا النهي وعصيتماني؛ ما حجتكما في ذلك؟ هل هي وسوسة الشيطان؟ وكيف لم تنتبها إلى وسوسته؛ ألم أحذركما منه {وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} يضمر لكما الحقد والعداوة والحسد، منذ رفض السجود مع الملائكة، وخالف أمر الله بذلك، ووقف وقفة التحدي للإنسان ليغويه ويضرّه ويقوده إلى عذاب السعير؟ وها أنتما تريان كيف قادكما إلى هذا الموقف المهين.

وتمثّلت لهما الجريمة في مستوى الكارثة؛ كيف نسيا تحذير الله لهما، كيف أقبلا على ممارسة الرغبة المحرَّمة وغفلا عن عداوة الشيطان لهما، وكيف خالفا أمر الله الذي خلقهما وأنعم عليهما؟؟ وبدآ يعيشان الندم كأعمق ما يكون، في إحساسٍ بالحسرة والمرارة والذعر... ولكنهما لم يستسلما لهذه المشاعر السلبية طويلاً، ولم يسقطا في وهدة اليأس، فلهما من الله أكثر من أملٍ، لأنه الرب الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم. فرجعا إليه، وعادا إلى كنف رحمته يتطلعان إلى مغفرته ورضوانه، في موقف الاعتراف الخاشع. {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} بما أخطأنا وما خالفنا، لأننا لم نتصور أن هناك مخلوقاً يغش ويخدع، أو يكذب ويخون... فنحن لم نخض تجربةً مماثلة سابقة في حياتنا، أو في حياة مخلوقاتٍ أخرى، فاستسلمنا للخداع بطيبة قلبٍ، وغفلنا عن كل النتائج السلبية من جرّاء ذلك، وربما خيّل لنا أن مثل هذه الأفكار التي أثارها في أنفسنا قد تصلح مبرراً لتجاوز النّهي، لأننا لم نتعمق في معرفة مسؤولية الإنسان أمام الأمر والنهي بشكل دقيق. وها نحن أمامك نفتح لك قلوبنا وأفكارنا وحياتنا كلها لتكون بين يديك، في ما نستقبل من قضايا وأوضاع، وما تريده أو لا تريده منا. فأمُرْنا أو انهنا نطعك في ذلك كله..

وتلك هي روحيّة الإنسان المؤمن في حالة الاعتراف النادم بالذنب أمام الله، من أجل مواجهة الموقف بالتوبة للحصول على المغفرة والرحمة. فاغفر لنا بمغفرتك، وارحمنا برحمتك، {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الذين خسروا أنفسهم بفقدانهم لرحمة الله ومغفرته ورضوانه... وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض، فكيف بالإنسان الضعيف الذليل الفقير المسكين المستكين... وغفر الله لهما وتاب عليهما، ولكنه أمرهما بالخروج من الجنة، كما أمر إبليس بالخروج منها، لأنهما عصياه كما عصاه، وإن كان الفرق بينهما أنه ظل مصرّاً على المعصية ولم يتب فلم يغفر له الله، بينما وقف آدم وزوجته في موقف التوبة فغفر لهما.

* * *

هبوط آدم وحوّاء إلى مستقرّهما الأرضي

{قَالَ اهْبِطُواْ} إلى الأرض فذلكم مكانكم الطبيعي الذي تعيشون فيه الصراع بين الحقّ الذي تمثله إرادة الله في وحيه وشريعته، وبين الباطل الذي تمثّله إرادة الشيطان في أضاليله ووسوسته، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، فليس هناك قاعدةٌ مشتركة بين مصلحة الإنسان في السير في طريق الله الذي يؤدي به إلى الجنة، ومصلحة الشيطان في السير في طريق الضلال الذي يؤدي بالإنسان إلى النار {وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فليس هناك خلودٌ واستقرار دائم، بل هو الاستقرار الذي يتهيأ الإنسان معه للرحيل ريثما يأخذ متاعه وزاده. {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }، هي دار الحياة المسؤولة في ما يفعله الإنسان من خير أو شرّ، وهي دار الموت الذي تخمد فيه شعلة الحياة، وهي الدار التي يُبعَثُ فيها الإنسان من قبره ليواجه نتائج المسؤولية، في ما خلّفه وراءه من أعمالٍ وعلاقاتٍ ومواقفٍ.

* * *

لماذا أسكن الله آدم وحواء الجنة؟

إننا نعرف من قصة بدء الخليقة في خلق آدم في سورة البقرة، أن الله ـ سبحانه ـ قد خلقه ليكون خليفة في الأرض، الأمر الذي قد يفرض وجوده في الأرض من البداية ليمارس دوره في الخلافة، فكيف أسكنه الله وزوجه الجنة كما لو كانت مستقراً لهما؟

وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الجنة ليست الموعودة، بل هي جنةٌ أرضيةٌ من جنان الدنيا كما جاء في تفسير البرهان عن علي بن إبراهيم قال:«حدثني أبي، رفعه، قال: سُئل الصادق(ع) عن جنة آدم من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً.

قال: فلما أسكنه الله تعالى الجنة وأباحها له إلا الشجرة لأنه خلق خلقة لا يبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق، فجاءه إبليس فقال له: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبداً، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، وحلف لهما إنه لهما ناصحٌ، كما قال الله عز وجل ـ حكاية عنه ـ: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}. فقبل آدم قوله، فأكلا من الشجرة، فكان كما حكى الله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا} وسقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس الجنة، وأقبلا يستتران من ورق الجنة، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فقالا: ـ كما حكى الله عنهما ـ : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فقال الله لهما: {اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، قال: إلى يوم القيامة»[2].

ونلاحظ على هذه الرواية أولاً: أنها ضعيفة السند لأنها مرفوعة، فلم يتّصل السند بالإمام، وثانياً: أنها مخالفة لظاهر القرآن بأن الجنة التي أسكن الله آدم فيها هي الجنة الموعودة بلحاظ السياق القرآني من جهة، وتحذير بني آدم من الشيطان الذي أخرج أبويهم منها، حتى لا يخرجهم منها أيضاً بسبب وسوسته، من ناحية أخرى، مما يوحي بأن الجنة هي التي وعد المتقين بها، لأنها هي التي تتناسب مع التحذير لهم حتى لا تتكرر التجربة، ثم التعبير بقول الله تعالى: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} دليل علىذلك.

ولعل الأقرب إلى جوّ القصة القرآنية، أن الله سبحانه وتعالى أراد إقحام آدم(ع) في تجربة واقعية تحدد له المعالم والخطوط العريضة، لما يمكن أن يكون عليه من حياة هنيئة وسعيدة، ولما يمكن أن يصبح عليه من حياة تعيسة ونكدة، وذلك من خلال تجربة العلاقة مع إبليس الذي أريد له أن يرافق مسيرته وبنيه في الأرض في عملية وسواس وتزيين وإضلال، لما من شأن الاستجابة له، والوقوع في فخه، أن يشكلا السبب للوقوع في معصية الله، وولوج دائرة غضبه وسخطه، في حين أن عدم الاستجابة له يشكل سبباً لولوج دائرة رضوان الله تعالى ورحمته. وهكذا تصبح هذه التجربة درساً يستحضره آدم(ع) دائماً في حياته ليستقوي به في مواجهة إغواءات إبليس وسواه وبالتالي لنيل رضوان الله تعالى.

ثم ليتعرف بعض الأساليب المنحرفة التي لم يكن له عهد بها من قبل، وهو أسلوب الكذب، بطريقة القسم المغلّظ، من قبل إبليس، وهذا هو ما يوحي به الحديث المأثور عن الإمام الصادق(ع) في رواية علي بن إبراهيم عنه، قال: «لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل، فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته وزوجك حوّاء أَمَتَهُ، وأسكنك الجنة وأباحها لك، ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله إنه لي ناصح، فما ظننت أن أحداً من خلق الله يحلف بالله كاذباً»[3].

* * *

قراءة (مَلِكين) بكسر اللاّم

جاء في مجمع البيان: «روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأ «ملِكين» بكسر اللام، قال الزجاج: قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} [طه:120] يدل على (الملِكين)»[4]. والسؤال هل يكفي ذلك في الدلالة على صحة هذه القراءة؟

والجواب، إنّ ذلك لا يكفي في الدلالة، لاحتمال أن تكون تلك الآية واردة في تأكيد الخلد باعتبار اختزانه لقضية الموقع المميز في الملك بلحاظ أنه من توابعه، مع ملاحظة أخرى، وهي أن كلمة «ملِكين» بكسر اللام تعني السلطة على مخلوقاتٍ حيّةٍ ومواقع محدّدةٍ، وهذا ليس وارداً في حسابات الجنة، أو في احتمالات آدم في أحلامه المستقبلية التي يحاول إبليس أن يداعب فيها خياله.

وقد ذكر صاحب الميزان أن كلمة «الملَك» ـ بالفتح ـ تختزن معنى المُلك ـ بالضم والسكون ـ مستدلاً بآية سورة طه[5]، وهو غير واضح. وقد ورد تأكيد قراءة (الملَكين) ـ بالفتح ـ في رواية ذكرها القمي في تفسيره عن الإمام الصادق(ع) وفي (عيون أخبار الرضا) عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع): «فجاء إبليس فقال: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبداً وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة»[6].

* * *

آدم وحواء ـ معاً ـ في موقع المسؤولية السلبية والإيجابية

جاء في التوراة أن حواء هي أصل الإغواء، وهي التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة، وأنها كانت وسيلة الشيطان لإقناع آدم، الأمر الذي يوحي بأن المرأة هي العنصر الإغرائي الذي يستخدمه الشيطان لإغواء الرجل فيكون ضحيةً لها في هذا الجانب.

أمّا القرآن، الذي هو الكتاب المعصوم من التحريف الذي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، فإنه لا يتحدث عن أيّة حالةٍ سلبيةٍ للمرأة ـ حواء ـ في إغواء الرجل ـ آدم ـ فليست هناك أيّة مشكلة في علاقتهما ببعضهما البعض في حياتهما المشتركة، بل يتحدث عن أن التكليف كان موجهاً إليهما معاً على أساس المسؤولية المستقلة لكل واحدٍ منهم، وإذا كان الخطاب الأول لادم فقد أضاف إليه زوجه {ويا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وأباح لهما الأكل من حيث شاءا وخاطبهما معاً بالنهي عن الأكل من الشجرة {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.

وكانت وسوسة الشيطان لهما معاً، فلم يخاطب حوّاء وحدها في وسوسته، بل وسوس إليهما معاً {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} فكانا، معاً، ضحية وسوسته وخداعه، وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} وحلف لهما معاً بعد أن رأى ترددهما في الاستجابة له، أو هكذا توحي القصة، {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}. وهكذا أسقطهما ودلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وشعرا بالخزي والعار أمام هذه المعصية معاً {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَاكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وكان النداء لهما معاً من خلال أنّ كل واحد منهما يتحمل المسؤولية في العصيان والاستسلام لخداع الشيطان بشكل مستقلٍّ من دون أيِّ ارتباط بالآخر أو أيّة علاقة له به، ولو كانت المسؤولية لأحدهما، حواء، دون الآخر، آدم، لأمكن له أن يعتذر بخضوعه لزوجه التي استعملت الضغط العاطفي عليه لإسقاطه، تماماً كما يحمِّل التابعون المتبوعين تبعة ما فعلوه، ولما شعرا بالموقف الصعب أمام الله، تابا معاً وانقطعا إليه {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

وهكذا نجد القرآن لا يحمّل المرأة المسؤولية عن سقوط آدم أمام التجربة، بل يحمِّل المسؤولية للرجل والمرأة على حدّ سواء، للإيحاء العميق بأن للرجل خياره في الطاعة أو المعصية، كما للمرأة خيارها، لأن الله خلق لكل منهما عقلاً يدرك الحسن والقبح، وإرادة تملك الصلابة في الموقف، فهما يقفان على قدم المساواة في خط المسؤولية.

وإذا كان الله قد تحدّث عن آدم في آية أخرى بلفظ المفرد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه:115] فليس ذلك إبعاداً لحوّاء عن المسؤولية، بل هو، بلحاظ بعض المناسبات، تذكير بموقف آدم من حيث هو مظهر الإنسان الذي يخضع لضعفه البشري لا بلحاظ شخصه، والله العالم.

وهكذا ينصف القرآن المرأة ليرتفع بموقعها إلى موقع الرجل ولا يحمِّلها مسؤولية إغواء الرجل، كما هو الواقع الخارجي ،فنحن نرى أن الرجل قد يغوي المرأة في بعض الحالات كما أن المرأة تغويه في حالات أخرى.

* * *

إيحاءات كلمة «الشجرة»

ليس هناك برهان ثابت على نوعية هذه الشجرة، فالنصوص المأثورة تذهب في هذا المورد مذاهب شتى، فمنها من يرى أنها شجرة الحنطة أو التفاح، من خلال التفسير المادي لها، ومنها من يرى أنها شجرة الحسد الذي ربما عاشه آدم أمام بعض المخلوقات المقرّبة من الله بدرجة أرقى منه، ممّا جعله يختزن المشاعر المضادّة لها كأيّ حاسد تجاه أيّ محسود، ومنها من يرى أنها شجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة، كما تقول التوراة: إن آدم لم يكن عالماً ولا عارفاً قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة، حتى أنه لم يعرف ولم يميّز عريه، وعندما أكل من تلك الشجرة، وصار إنساناً بمعنى الكلمة، طرد من الجنة خشية أن يأكل من شجرة الحياة فيخلد كما الآلهة... هذا في الجانب المعنوي من التفسير.

ولكننا نلاحظ أن قصة الحسد ليست واردة في حسابات آدم الذي لم ينفتح، في ما يبدو، على العنصر الذاتي في شخصيته تجاه الآخر ـ أيّاً كان ـ بل كانت المسألة، من خلال وحي القرآن، مسألة أحلامه الذاتية التي أثارها الشيطان في داخل ذاته مما يتصل بخلوده وارتفاعه إلى عالم الملائكة الذي اطلع عليه في تجربته في بداية خلقه، هذا مع ملاحظة أن الحسد لا يتحرك من الغريزة الذاتية المجردة، بل ينطلق من اصطدام الإنسان بالآخر من خلال التجربة المعقّدة في الحياة وفي المواقع المميزة التي يملكها هذا الشخص أو ذاك، مما يعطل مصالح بعض من البعض الآخر، أو يتفوق عليه في رغباته الحسية والمعنوية، ولم تكن لادم تجربة سابقة في ذلك، ولم يعش في أيّ مجتمع ينفتح على مثل هذه الحالة الواقعية التي تؤدي إلى تلك الحالة النفسية.

أما شجرة العلم والمعرفة، فقد حدثنا الله في القرآن أنه منحه علم الأشياء، وذلك هو قوله تعالى: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَـئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاَءِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ } [البقرة:31]، وربما نستوحي هذا المعنى من قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115]، حيث توحي بأن هناك عهداً من الله لآِدم في مهمّاته ومسؤولياته مما يدخل في نطاق الوعي المعرفي الذي يطل به على آفاق الحياة، فلم يكن آدم جاهلاً بنفسه أو بموقعه أو بمسؤوليته، ولكنه غفل عن ذلك أو نسيه في غمرة الضعف البشري، ولذلك فقد يكون الأقرب إلى ظهور الآية حمل الكلمة على ظاهرها وهو الشجرة بالمعنى المادي الحسّي، من دون أن ندخل في تحديدها، لأنه ليس دخيلاً في الجانب التفسيري، لأن من الممكن أن يكون المنع متعلقاً بشجرة معينة، لا من جهة خصوصيتها بل من جهة أنها نموذج للممنوع الذي يمثل العنصر المحرّم الذي يواجه الإنسان أمامه مسؤولية الالتزام في قوّة الإرادة، باعتبار أنّ المنع قد يجتذب الرغبة، فيكون الموقف موقف امتحان واختبار لإرادة الالتزام.

* * *

رمزية الشجرة لكل حرام

وعلى ضوء ذلك، قد نستوحي أن الشجرة المحرمة ترمز إلى كل حرام أراد الله للإنسان أن يتركه، فقد أحل الله له الطيبات مما يأكل أو يشرب أو يتلذذ أو يلبس، وحرّم عليه بعض الأشياء المتصلة بسلامته المادية المعنوية، ولكنه أكل، ولا يزال يأكل، من شجرة الحرام، في الحرام، في حاجاته والمتنوعة، الأمر الذي يعرضه للطرد من الجنة في الآخرة، ومن السعادة في الدنيا، وهذا مما لا بد للإنسان أن يعيه وعياً عميقاً واسعاً منفتحاً على المصالح والمفاسد التي تتصل بحياته من الناحية الإيجابية والسلبية على مستوى الدنيا والآخرة، لأن قضية الخضوع للحسّ في حاجاته ليست قيمةً إنسانيةً، بل القيمة هي حماية الإنسان في إنسانيته المنفتحة على رضوان الله ونعيمه في الدنيا والآخرة، مما يفرض عليه الدخول في عملية مقارنةٍ بين النتائج الإيجابية الحاصلة من الامتناع عن المحرمات والاكتفاء بالمحلّلات، والنتائج السلبية الحاصلة من الإقبال عليها، وهذا هو ما ترمز إليه قصة آدم الذي ترك أشجار الجنة التي تحفل بأفضل المشتهيات وألذّها وأحلاها، واستغرق، بوحي وسوسة إبليس، في هذه الشجرة المحرّمة التي قد لا يكون لها أية ميزة ذاتية.

* * *

إيحاءات ردود فعل آدم وحواء على ظهور سوآتهما

أما مسألة ظهور السوأة لهما، الذي كان هدف إبليس في إيقاظ الجانب الجنسي في إحساسهما من خلال ارتباط الأكل من الشجرة المحرّمة بالوقوع تحت تأثير الضعف الإنساني الغريزي الكامن في الجسد الذي استيقظ في حيويته الفعلية بالتجربة الجديدة، فإنه يوحي بأنّ السقوط في تجربة الاستغراق في الشهوة في جانب، قد يؤدي إلى الوقوع في تجربةٍ ثانيةٍ أو إلى الانفتاح على عالم الشهوات، مما قد يثير في النفس بعض المشاعر والأحاسيس الحميمة الخفية التي قد تعدّ الإنسان للوقوع في الحرام.

وربما كان لهذه الحركة الفطرية في إلقاء ورق الجنة على عورتيهما ليخفياهما علاقة بالحس الفطري الذي يختزنه الإنسان في الرغبة في إخفاء العضو الجنسي الذي أراد الله للإنسان أن لا يبديه، وأن لا يمارس حركة حاجاته في العلن.

وقد يكون الرمز الإيحائي في هذه القضية هو أن الإنسان الذي يلجأ إلى تغطية نقاط ضعفه عندما تفرض عليه الظروف أو الأوضاع إظهارها، لأنه يحاول دائماً الظهور أمام الناس بمظهر القويّ الذي يملك عناصر القوة في شخصيته من دون أية حالة ضعف، في حين عليه أن لا يكتفي بإخفاء عناصر ضعفه، بل ينبغي له أو يجب عليه معالجتها وإلغاءها من كيانه وإبعادها عن حياته، لأن الله يريد للإنسان أن يأخذ بأسباب القوة الروحية، كما المادية، في شخصه، ليعيش القوة في وجوده، وليستعين بذلك على الاستقامة في التزاماته العملية من حيث علاقتها بقضية المصير المادي والمعنوي في الدنيا والآخرة.

ولقد كانت محاولة آدم وحواء في تغطية عورتيهما تستهدف إبعاد هذا الإحساس الجنسي عن الحركة الحرّة التي تتمثل في ظهورهما أمام الناظرين، الذي قد يتجه في نهاية المطاف إلى الانحراف، مما يعني بأن على الإنسان أن يقيّد بعض حرياته لمصلحة سلامة حياته في قضاياها القيمية الحيوية.

* * *

تأثير المعصية في آدم وحواء

لقد تحدث آدم وحواء، في ابتهالاتهما إلى الله، عن حالة ابتعادهما عن مصلحتهما في الانسجام مع تعليمات الله الصادرة إليهما، فقد اكتشفا مدى الضرر الذي ألحقاه بنفسيهما من هذه الاندفاعة اللاشعورية نحو الأكل من الشجرة المحرمة ببسب وساوس الشيطان الذي أخبرهما الله عنه بأنه عدوّ مبين لهما منذ رفض السجود لآدم حسداً وتكبراً وطغياناً، وأعلنا أنهما ظلما نفسيهما وطلبا الرحمة والمغفرة من الله حتى لا تكون الخسارة خسارة الذات في امتدادها في الحياة، بل تكون خسارة الفرصة التي قد تتبدل بالربح في فرصة أخرى.

وقال لهما الله، ولإبليس: إن الأمر قد حُسم في قضاء الله وقدره في هبوط الجميع إلى الأرض، فقد تمت التجربة وأخذ الإنسان الدرس العملي في موقفه من إبليس وعرف كيف يخطط الطريق للعودة إلى الجنة بالفكر والعمل، من خلال نجاحه في الصراع المرير مع الشيطان الذي أعلن عداوته الحاقدة الحاسدة منذ البداية لإبعاده عن الله وعن الدخول في الجنة من جديد، فما دام الله قد حرمه منها بسبب آدم، فليكن الحرمان شاملاً لآدم وذريته بما يخطط من وسائل ومكائد ووساوس وخداع، وهكذا أراد الله لهم جميعاً أن يهبطوا إلى الأرض ليعيش الإنسان الصراع المرير مع عدوه إبليس الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، وذلك بأن يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم إلا غروراً. وتبقى الأرض مستقرهم الطبيعي الذي خلقوا له وأريد لهم أن يتمتعوا فيها إلى يوم القيامة في رحلة الحياة والموت والبعث.

وقال لهم الله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.

ــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، ص:550، حكمة:420.

(2) البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت ـ لبنان، ص:4، 1412هـ ـ 1992م، ج :2، ص:5ـ6.

(3) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:8، ص:62.

(4) مجمع البيان، ج:4، ص:626.

(5) انظر: تفسير الميزان، ج:8، ص:35.

(6) تفسير نور الثقلين، ج:2، ص:13.