من الآية 31 الى الآية 33
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{يا بَني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ في الْحَياةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون* قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(31ـ33).
* * *
معاني المفردات
{زِينَتَكُمْ}: ما يُتَزيَّن به من اللباس والطِّيب ووسائل التجمُّل، للظهور بالمنظر الجميل الطيّب الذي يمثّل لوناً من ألوان الشكل الحضاري للإنسان المسلم.
{وَلاَ تُسْرِفُواْ}: لا تتجاوزوا الحدّ في الإنفاق.
{حَرَّمَ}: التحريم: هو المنع من الفعل بإقامة الدليل على وجوب تجنّبه؛ وضدّه التحليل، وهو الإطلاق في الفعل بالبيان على جواز تناوله.
وأصل التحريم المنع، من قولهم: حرَّم فلانٌ الرزق حرماناً فهو محروم، وأحرم بالحجّ وحرمة الرجل زوجته، والحرمات الجنايات، والمحرم القرابة التي لا يحل تزوجها، وحريم الدار ما كان من حقوقها.
{زِينَةَ اللَّهِ}: ما يستمتع به الناس من ألوان الزينة التي لا تسيء إلى طبيعة الإنسان.
{خَالِصَةً}: قال الراغب في المفردات: الخالص كالصافي إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه... ويقال: هذا خالص وخالصة نحو داهية وراوية[1].
{الْفَوَاحِشَ}: واحدها فاحشة، وهي الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفِطَر السليمة والعقول الراجحة، ويطلقونها أحياناً على الزنى والبخل والقذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح.
{وَالإِثْمَ}: في الأصل القبيح الضّار، وهو شاملٌ لجميع المعاصي، كبائرها كالفواحش، وصغائرها كالنظر بالشهوة لغير الحليلة، وكلّ ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وسقوط منزلته ويمنعه من الوصول إلى الثواب والأجر الحسن، وقال الراغب: الإثم والاثام: اسم للأفعال المبطِئة عن الثواب، وجمعه آثام، ولتضمّنه معنى البطء قال الشاعر:
جُماليّة تغتلي بالرَّوادفِ إذا كَذَبَ الآثماتُ الهجيرا
وقوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أيّ في تناولهما إبطاءٌ عن الخيرات[2]. وفي ضوء ذلك، يتضمّن الإثم معنى الضرر الذي يبطىء بالإنسان عن الخير وهو المنفعة لحياته، ولعلّ هذا هو الأساس في إطلاق كلمة الإثم على الخمر للمفاسد الناتجة عنه، وربما غلب عليه ذلك بلحاظ استعماله فيه بهذه المناسبة.
{وَالْبَغْيَ}: تجاوز الحد، بالاستطالة على الناس، وحدّه، كما في مجمع البيان، طلب الترأس بالقهر من غير حق، وأصله: الطلب[3].
{سُلْطَاناً}: السلطان: الحجّة. قال في المجمع: السلطان والبرهان والبيان والفرقان نظائر، وحدودها تختلف، فالبيان إظهار المعنى للنفس كإظهار نقيضه، والبرهان إظهار صحة المعنى وإفساد نقيضه، والفرقان إظهار تميز المعنى مما التبس به، والسلطان: إظهار ما يتسلّط به على نقيض المعنى بالإبطال[4].
* * *
مناسبة النـزول
جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده عن ابن عباس «قال: كان ناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراةً، حتى أن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة، فتعلّق على سفلاها سيوراً مثل هذه السيور التي تكون على وجوه الحمر من الذباب وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منـه فـلا أحلّـه
فأنزل الله تعالى على نبيه(ص): {يا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فأمروا بلبس الثياب»[5].
* * *
مع العلامة الطباطبائي حول مناسبة النزول
وقد علّق العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان على هذه الرواية وأمثالها قال: «لكنك قد عرفت أن الآيات المصدّرة بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} أحكام وشرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختصَّ بأمّة دون أمّة، فهذه الاحاد من الأخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجية فيها. وأعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان»[6].
فقد جاء في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: «كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة اللباس، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيّد البزّ والمتاع»[7].
وفيه: «أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء أحلّها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} [يونس:59]، وهو هذا، فأنزل الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا، فأكلوا من طيبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء»[8].
من ثم يعلّق صاحب الميزان بقوله: «أقول: والروايتان، كما ترى، ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول والمعوّل على ذلك»[9].
ونحن، في الوقت الذي نتفق فيه مع العلاّمة الطباطبائي في تحفّظاته على رواية سبب النزول، وفي موافقته على الروايتين المذكورتين أعلاه واعتبارهما من روايات التطبيق على الآية، لا نتفق معه في تفسير ذلك بأن الآية المصدّرة بقوله: {يَا بَني آدَمَ} لا تختص بأمة دون أمّة، لأن ذلك لا يتنافى مع انطلاق الآية الشاملة من مناسبةٍ خاصة لتكون المنطلق للخطاب الشامل، كما هو الحال في كل روايات أسباب النزول، ولكننا في الوقت نفسه، لا نجد أيّة مناسبة بين القصة المذكورة وسياق الآية الواردة في الحديث عن البرنامج العملي للإنسان في المظهر الاجتماعي، في حياتهم في المساجد، فيأخذون بزينتهم التي تمثل المظهر اللائق بهم من حيث التمييز بين ما يكون زينة وما لا يكون كذلك، من دون أن يظهر منها الحديث عن الثوب في مقابل العري، فلا علاقة لها، حسب ظاهر السياق، بالحادثة المذكورة، لا سيما إذا كانت الآية لا تقتصر على ذلك بل تمتد إلى نظام الأكل والشرب، لتتحدث بعد ذلك الآية التالية لها عن القاعدة العامة التي أراد الله للإنسان المؤمن أن يتحرك فيها في حياته في الأخذ بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ليجعلها الله خالصة له يوم القيامة، ممّا يجعل الأمر متنوعاً في عناصره وليس وارداً في أمثال حالةٍ معينةٍ في خط الروايات الواردة في سبب النزول، وهذا هو الذي يؤيّد الرأي القائل إن الكثير من مواردها جازٍ على سبيل الاجتهاد لا الرواية.
* * *
المنهج الإلهي في توجيه حياة الإنسان
هذا هو النداء الثالث الذي يريد الله أن يوجه به الإنسان إلى منهجه ليمارس ـ من خلاله ـ حياته، في ما يحتاجه جسده من أكل وشرب ولباسٍ وزينةٍ... ليقف من ذلك كله في نقطة التوازن، فلا يتعقد من حاجات الحياة الطبيعية، فيعتبرها قذراً وخباثةً وحراماً... من موقع الفكرة التي ترفض ماديات الحياة جملةً وتفصيلاً، وتدعو إلى السموّ نحو روحياتها... ولا ينجذب إلى هذه الحاجات فيعتبرها قيمةً وطموحاً وهدفاً، بل يقف بين هذا وذاك، فيراها حاجةً طبيعية يحفظ بها جسده، ويصون بها حياته، فيمارسها في نطاق الحدود التي فرضها الله ورسمها لعباده، فيميز بين ما يفسد الحياة من حوله فيتركه، وبين ما يصلحها أو لا يسيء إليها فيفعله، وذلك هو خط هذه الآيات.
* * *
الله جميل يحب الجمال
{يَا بَني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إنّ الله جميل يحبّ الجمال والتجمُّل، ويبغض البؤس والتباؤس، وإن الله إذا أنعم على عبد بنعمةٍ أحب أن يرى أثر نعمته عنده. هكذا جاء في الكلمات المأثورة عن بعض أئمة أهل البيت(ع)، وروي عن «خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن علي(ع) إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له: يا بن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحبّ الجمال فأتجمَّل لربي، وهو يقول: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، فأحب أن ألبس أجود ثيابي»[10] استيحاءً من هذه الآية التي توجه الناس إلى أن يأخذوا زينتهم من اللباس والطيب ووسائل التجمُّل... في كل مسجد، وهو المكان الذي يجتمع فيه الناس للصلاة، حيث يمثل الاجتماع فيه مظهراً من مظاهر حياة المسلمين الاجتماعية؛ لذا أراد الله لهم أن يخرجوا إليه بزينتهم، وبشكل جميل طيب يعكس المظهر الحضاري للإنسان المسلم مقابل مظاهر التخلف التي كانت سائدة لدى المجتمع الجاهلي من العري والقذارة والرائحة غير الطيّبة، وما إلى ذلك مما يريد الإسلام إبعاد الإنسان عنه، لا سيما داخل الحياة الاجتماعية التي لا يكون مظهره شأناً شخصياً له، بل شأناً عاماً يمس ذوق الآخرين في ما يحبونه ويألفونه وفي ما لا يحبونه ولا يألفونه، فيكون في ذلك إحسانٌ لهم في مجالٍ،، أو إساءةٌ لهم في مجال آخر. وفي ضوء ذلك، نستطيع اعتبار أن المسألة تتعدى الاجتماع في المسجد إلى كل مكانٍ يجتمع فيه الناس، على أساس أن الخصوصية ليست للمكان، بل هي للأجواء التي تهيمن على المكان.
وقد وردت الروايات المتعددة التي تتحدث عن تطبيق مضمون الآية على العيدين والجمعة ويوم عرفة، كما وردت في الحديث عن التمشط والاغتسال والتطيب.
وقد امتدّ الاستيحاء للاية في معنى الجمال والتجمّل إلى ما يشمل النظافة والطيب وجمال البناء ونحو ذلك، فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: «إن الله يحب الجمال والتجمل، ويبغض البؤس والتباؤس، فإن الله إذا أنعم على عبده بنعمةٍ أحبّ أن يرى عليه أثرها، قال: قيل: كيف ذلك؟ قال: ينظّف ثوبه، ويطيّب ريحه، ويجصص داره، ويكنس أفنيته، حتى أن السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق»[11].
«وفي حديث آخر عنه قال: أبصر رسول الله(ص) رجلاً شعثاً شعر رأسه وسخة ثيابه، سيّئةٌ حاله، فقال رسول الله(ص): من الدين المتعة»[12].
وهكذا نفهم من هذه الأحاديث أن مسألة التزيّن هي مسألة تتصل بالجانب الجمالي للمظهر الإنساني في إظهار نفسه وبيته بالطريقة التي تمثّل الجمال في الثياب والطيب والشكل الهندسي للبيت، وللشارع، خلافاً للفكرة التي توحي بأن التدين يفرض على الإنسان الخروج بالخلق من الثياب والفوضى في الشكل والهيئة كمظهر من مظاهر الزهد الخارجي، فإن الزهد ليس في الشكل وإنما في المضمون النفسي الذي يرفض الارتباط بالدنيا بالمستوى الذي تضغط فيه على مبادئه ومواقفه في الحياة لتقدم التنازل من دينه لمصلحة دنياه.
* * *
التوازن في الإسلام قانون الحياة
{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}.. فالله أراد للإنسان أن يأكل لأن الأكل حاجة طبيعية للجسد ليستمر في قوّته التي تمده بالحياة، وأراد له أن يشرب للسبب نفسه. وإذا كان الأكل والشرب مطلوبين من موقع الحاجة، فمن الطبيعي أن تتقدر الحاجة بالمقدار الذي يحقق الاكتفاء للجسد، لأن الزيادة عنه تثقل الجسد بما لا يحتاجه فيسيء إلى توازنه وقوّته. ولهذا جاء النهي عن الإسراف في الأكل والشرب مراعاةً لجانب السلامة في حياة الإنسان، وللحصول على رضا الله ومحبّته، لأن الله لا يحب للإنسان أن يتجاوز الحدود الطبيعية لحاجاته في الحياة، بل يريد له أن يكون متوازناً في كل شيء، مما يجعل من الالتزام بذلك عملاً دينياً يقربه إلى الله، والعكس صحيح، لأن الإنسان ملك الله، فلا يحب أن يتصرف أحد في ملكه بما يسيء إليه، سواءٌ في ذلك ما يتعلق بنفسه أو بالآخرين. وهنا يكمن الفرق بين المبادىء الوضعية وبين التشريع الديني، فإن تلك المبادىء تترك للإنسان الحرية في ممارسة حياته الخاصة بقطع النظر عن نوعيّة الممارسة، بينما يؤكّد التشريع الديني على ضرورة تقييد هذه الحرية، لمصلحة حياة الإنسان وحمايته من نفسه.
* * *
القصد أمرٌ يحبه الله
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وهذه قاعدٌة عامةٌ تتجاوز مورد الآية إلى غيرها من التصرفات المالية والعملية التي تعرّض الإنسان للإسراف، وتضعه وجهاً لوجه أمام التزامه بالاعتدال من أجل الحصول على رضا الله، بينما يكون الإسراف سبباً في فقدانه لمحبة الله سبحانه. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال: «ليس في ما أصلح البدن إسراف، إنما الإسراف في ما أفسد المال وأضرّ بالبدن»[13] .
وفي حديثٍ آخر ـ مما رواه سليمان بن صالح ـ قال: «قلت لأبي عبد الله(ع): أدنى ما نهي عن حد الإسراف؟ فقال: إبذالك ثوب صونك وإهراقك فضل إنائك، وأكلك التمر، ورميك النوى ههنا وههنا»[14].
وروي عنه أنه قال: «إن القصد أمر يحبه الله وإن السرف أمرٌ يبغضه الله، حتى طرحك النواة، فإنها تصلح للشيء، وحتى صبّك فضل شرابك[15].
ونستوحي من ذلك توجيه الفرد المسلم والمجتمع المسلم إلى أن لا يطرح شيئاً مما يمكن الانتفاع به، بل يعمل على الاحتفاظ به من أجل الانتفاع به على المستوى الفردي والاجتماعي، فليس للإنسان أن يهرق المال من دون حاجة، أو يطرح النواة من دون منفعة، فلا بد له من الاحتفاظ بكل الأشياء النافعة في ذاتها من أجل تحويلها إلى طاقةٍ مفيدة في إنتاج عناصرها الكامنة فيها لمصلحة الحاجات العامة والخاصة.
وقد روي، تعليقاً على الآية {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} «أن الرشيد كان له طبيب نصرانيٌ حاذقٌ، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان! فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه، وهو قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} وجمع نبينا(ص) الطب في قوله: المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء، وأعطِ كل بدن ما عوّدته، فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبّاً»[16].
* * *
الزهد في كلمتين
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} في ما يستمتع به الناس من ألوان الزينة التي لا تسيء إلى طبيعة الاعتدال لدى الإنسان... {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} في ما يستلّذونه ويشتهونه مما يؤكل ويُشرب. وينطلق التساؤل هنا في معرض الإنكار على هؤلاء الذين أرادوا للإنسان أن يترك زينة الحياة وطيّباتها تحت تأثير الفكرة التي ترفض الإقبال على الماديات من الأطعمة والأشربة وغيرها، على أساس الفهم الخاطىء لمعنى الزهد دينياً، فهو الذي يتمثل لديهم في السلوك السلبي للإنسان ضد الطيّبات من الرزق، والتزين في اللباس، وذلك لأن الزهد لا ينطلق من هذا المعنى، بل من الحالة النفسية التي تحسّ بالاكتفاء، وتشعر بالحرية أمام كل حالات الإلحاح الذاتي على ممارسة الإنسان لمطامعه وشهواته، كما ورد في كلمة الإمام علي(ع): الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ}[17] [الحديد:23].
وقد جاء بإسناده عن ابن القداح الكافي، قال: «كان أبو عبد الله، جعفر الصادق(ع)، متكئاً عليّ ـ أو قال على أبي ـ فلقيه عبّاد بن كثير البصري وعليه ثياب مرويّة حسان، فقال: يا أبا عبد الله، إنك من أهل بيت النبوّة وكان أبوك وكان، فما هذه الثياب المرويّة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد الله(ع) : ويلك يا عبّاد، من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، إن الله عز وجل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه»[18].
وجاء فيه عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن «علي الرضا(ع)» قال: «قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويتخشع؟ فقال: أما علمت أن يوسف(ع) نبيّ ابن نبيّ كان يلبس أقبية الديباج مزرورةً بالذهب ويجلس في مجالس آل فرعون يحكم، فلم يحتج الناس إلى لباسه وإنما احتاجوا إلى قسطه، وإنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق وإذا وعد أنجز وإذا حكم عدل، إن الله لا يحرم طعاماً ولا شراباً من حلال، وإنما حرّم الحرام قل أو كثر، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}»[19].
* * *
القيمة للروح لا للشكل
وهكذا نفهم من أجواء الآية التي استوحاها الأئمة من أهل البيت(ع) أن الإسلام لا يقتصر في نظرته إلى الحياة على الجانب العبادي من سلوك الإنسان فيها، بل يمتدّ إلى الجانب الحسّي الذي يتمثل في الزينة الظاهرة، مما يلبسه ويتجمل فيه ويظهر به للناس من الثياب الجيّدة، وفي الأكل الطيّب والشراب الطيب، بحيث يمارس الحياة بشكل طبيعي في حاجاته بعيداً عن الرفض العملي، لأن القيمة ليست في الممارسة، بل في الروح التي يختزنها الإنسان المؤمن في نظرته إلى الدنيا، بحيث لا يسقط روحياً أمام حاجاته الضاغطة عليه لمصلحة مواقعه وامتيازاته فيها.
وفي هذا الجو، ينطلق المسؤولون في مسؤولياتهم العامة، من دون خداع الناس بالجانب المظهري الذي يتمظهرون فيه بالزهد الشكلي ليجتذبوا الناس إليهم من خلال الشفقة التي يحصلون عليها من خلال ذلك، لأن التوجيه الاسلامي يربط الناس بالمسؤولين من خلال صدقهم في الكلمة وفي الوعد والعهد وعدلهم في الحكم وإخلاصهم لله في حركة المسؤولية، كما جاء في حديث الإمام الرضا(ع). وربما كانت إيحاءات هذه الآية في الإنكار على من حرّم زينه الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، أنها تنفتح على المزيد من التخطيط للشكل الحضاري والتطور الإنساني في الحياة المدنية، التي تضع في حساباتها تطوير الواقع المدني للإنسان والحاجات الحيوية الحسية له من دون أية عقدة دينية في هذا الجانب ،فيمكن للقائمين على شؤون الإسلام والمسلمين أن يعملوا في خطة تصاعديةٍ للسير بالواقع الإسلامي في حركة التطور في جميع الأوضاع المتحركة في الحاجات العامة.
* * *
المؤمن أولى بنعم الله
{قُلْ هِي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وأطاعوا الله، وحصلوا على رضاه {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لا يشاركهم فيها غيرهم من الكافرين، كما شاركوهم بها في الدنيا. وربما كان المراد أنها للمؤمنين في حياتهم الدنيا، قد منّ الله عليهم بها ليستمتعوا، فليس لهم أن يمنعوا أنفسهم منها تحت تأثير أية فكرة توحي لهم بالتحريم، فإن الله لم يبحها للكافرين ليحرّمها على المؤمنين، بل هم أحق بها لأنهم أولياء الله وأحباؤه، أمَّا في يوم القيامة فهي خالصة لهم، لأن نعيم الآخرة هو نعيم الثواب الذي لا يستحقّه إلا المؤمنون، وبهذا تكون كلمة { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من متعلقات الفعل المقدر بعد كلمة «هي»، أي كائنة في الحياة الدنيا، لا من متعلقات كلمة {ءَامَنُواْ}َ؛ والله العالم.
{كَذَلِكَ نُفصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ليعرفهم الخط العملي في الحياة، حتى لا تختلط عليهم الأمور، وتشتبه لديهم المفاهيم، في ما يقبلونه ويرفضونه، على أساس الفلسفات المنحرفة التي تأتيهم من هنا وهناك.
* * *
الأشياء التي حرمها الله
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} فالله لم يحرم حاجات الحياة الطبيعية التي تبني الجسد وتريحه، بل حرّم الأشياء التي تسيء إلى سلامة الروح، وصفاء الفطرة، ونظام الحياة... فليست المسألة عنده أنه يريد أن يحرم عباده من متع الحياة ولذاتها، بل كل ما يريده، أن يمنع عنهم ما يكدّر هذه المتع ويشوِّه جمالاتها... فما الأشياء التي حرّمها؟ لننظر إلى هذه الأمور التي ذكرها في الآية كنموذج. فقد {حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ}، وهي المعاصي التي تبلغ الحد الكبير من القبح والإنكار في حياة الناس، كالزنى واللواط ونحوهما… {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أي ما أعلن، كما في نصب الرايات التي كانت ترفعها اللواتي يؤتين الفاحشة في الجاهلية، {وَمَا بَطَنَ} وهي العلاقات المحرمة التي كانت تأخذ طابع السرية، أو التي كانت تأخذ صفة الشرعية دون أساس، كنكاح الأبناء زوجات آبائهم من غير أمهاتهم… فقد اعتبره الله فاحشةً محرّمة، مما بطن من الفواحش. {وَالإِثْمَ} وهو الفعل الذي يكتسب الإنسان به الانحطاط في أخلاقه، والهوان والسقوط في حياته، كشرب الخمر الذي يسيء إلى عقله وماله وجاهه وعرضه… و {وَالبغي} وهو العدوان على الآخرين في الممارسات التي لا حقّ للإنسان بها، كما في ألوان الظلم والتعدي على الناس في الاستيلاء على أموالهم وأعراضهم وحياتهم... {بِغَيْرِ الْحَقِّ} لأن التصرّفات المماثلة لتلك التصرفات إذا كانت على أساس الحق كالمعاملة بالمثل في ما يجوز فيه ذلك لا تكون بغياً، ولا تُعتبر حراماً.
{وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وهذا من محرّمات العقيدة، على أسـاس أنهـا من الأفكار التي لا ترتكز على حجةٍ، وهذا هو المراد من قــوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}، لأن الله لا يحاسب الإنسان على الأفكار التي يملك حجة عليها، بل يحاسبه على الأفكار التي لا يملك أساساً فكرياً لها، كما في الشرك الذي لم ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ، بل من خيالات وأوهام لا ترتكز على أساسٍ معقول... {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فتنسبون إليه ما لم يقله ولم يشرعه من أفعالٍ وأوضاع، في ما تتحدثون عنه من تحريم هذا أو تحليل ذاك، من غير علم في ما جعله الله من مصادر العلم من وحيٍ أو كلام نبي أو نحو ذلك...
هذه بعض نماذج الأفعال التي حرمها الله، وهي لا تتضمن تقييداً لطموحات الإنسان وتضييقاً لحياته، بل كل ما هنالك أنها تحدد له المسار الفكري والعملي في ما يصلح أمره ويرفع مستواه. وفي ضوء ذلك، يمكن للإنسان أن يعرف طبيعة التحليل والتحريم في الإسلام، ليميز بذلك حق التحريم والتحليل من باطله.
* * *
المقصود بالظاهر والباطن من الفواحش
جاء في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب، عن محمد بن منصور قال: «سألت عبداً صالحاً، عن قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحلّ الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق[20].
وقد فسّر ذلك صاحب الميزان بقوله: «أقول: انطباق المعاصي والمحرّمات على أولئك، والمحلّلات على هؤلاء، لكون كل واحدٍ من الطائفتين سبباً للتقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كلٍّ سبباً لما يناسبه من الأعمال»[21].
ولنا ملاحظة على ذلك، أن الحديث ليس وارداً في مقام تطبيق الآية بحسب معناها الظاهر على أئمة الجور وأئمة الحق، بل هو وارد في مجال بيان وجود معنى باطني للقرآن، بحيث يكون مراداً منه على النحو الذي يراد منه المعنى الظاهر، فلا ينسجم مع ما ذكره العلاّمة الطباطبائي قدس سره.
ثم نتساءل بعد ذلك، أولاً: عن المراد من المعنى الباطن، هل هو المعنى الذي يستبطنه اللفظ في عمقه، وهذا غير مفهوم، لأن اللفظ لا يستبطن إلا معناه اللغوي الموضوع له أو المنقول إليه، فليس له معنيان في الأصل ظاهر وباطن.
أو هو المعنى الإيحائي الذي يستوحيه القارىء من الأفعال التي يحبها الله من الحلال أو يبغضها من الحرام، فينتقل من ذلك إلى الأشخاص الذين يحبهم الله، لأنهم يقودون الناس إلى حلاله ويبعدونهم عن حرامه، وإلى الأشخاص الذين يبغضهم الله، لأنهم يقودون الناس إلى الحرام ويبعدونهم عن الحلال، وذلك من خلال أن الله عندما يتحدث عن الحلال والحرام في كتابه فإنه يريد للحلال أن يتحول إلى واقع في حياة الإنسان، وللحرام أن يبتعد عن الواقع الإنساني، ولا بد لهذا وذاك من قيادة شرعية أو غير شرعية، لتنال رضا الله ـ في هذا الموقع ـ من خلال التزامها بما يرضاه، أو لتنال غضب الله ـ في ذلك الموقع ـ من خلال حركتها نحو ما يغضبه، ولعل هذا هو الأقرب إلى الجوّ العام للحديث وللآية.
وثانياً: ما هي علاقة الآية بأن للقرآن ظاهراً وباطناً ـ كما في الرواية الموافقة لهذه الرواية التي ورد فيها أن القرآن ظهر وبطن؟ فإن الآية تتحدث عن الفواحش الظاهرة والباطنة من الأفعال الإنسانية، وقد فسّرت الباطنة ـ في روايات أخرى ـ بأن المراد مما بطن «ما نكح من أزواج الاباء، لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي(ص) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه، فحرّم الله عز وجل ذلك»[22]. وجاء في الدر المنثور: «أخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، وابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف، فبلغ ذلك رسول الله(ص) فقال: أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أَغَيَرُ من سعد، والله أَغْيَرُ مني، ومن أجله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله»[23]، فإن الظاهر من هذه الرواية وأمثالها أن المراد من قوله: {وَمَا بَطَنَ} الأفعال المحرّمة غير المعروفة لدى الناس في سلوكهم العام، لا المعنى الباطني على خلاف ظاهر الآية، فلا بد من رد علمها إلى أهلها.
ـــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:155.
(2) (م.ن)، ص:5.
(3) مجمع البيان، ج:4، ص:639.
(4) (م.ن)، ج:4، ص:640.
(5) الواحدي، أبو الحسن، علي بن أحمد، أسباب النـزول، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1414هـ ـ 1994م، ص:125.
(6) تفسير الميزان، ج:8، ص:88.
(7) الدر المنثور، ج:3، ص439.
(8) (م.ن)، ج:3، ص:446 ـ 447.
(9) تفسير الميزان، ج:8، ص:89.
(10) تفسير البرهان، ج:2، ص:10.
(11) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:6، 1412هـ ـ 1991م، ج:3، ص:341، باب:1، رواية:9.
(12) الكافي، ج:6، ص:439، رواية:5.
(13) تفسير البرهان، ج:2، ص:10.
(14) الكافي، ج:4، ص:52، رواية:2.
(15) (م.ن)، ج:2، ص:10.
(16) مجمع البيان، ج:4، ص:638.
(17) نهج البلاغة، قصار الحكم/439، ص:416.
(18) الكافي، ج:6، ص:443، رواية:13.
(19) (م.ن)، ج:6، ص:453، رواية:5.
(20) الكافي: ج:1، ص:374، رواية:10.
(21) تفسير الميزان، ج:8، ص:96.
(22) تفسير البرهان، ج:2، ص:13.
(23) الدر المنثور، م:3، ص:447.
تفسير القرآن