الآية 34
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(34).
* * *
معاني المفردات
{أُمَّةٍ}: الأمة الجماعة التي يعمّها معنى، وأصلها من أمّه يؤمه إذا قصده، فالأمّة الجماعة التي على مقصد واحد.
{أَجَلٌ}: وقت مضروب لانقضاء المهل، لأن بين العقد الأول الذي يضرب لنفس الأجل وبين الوقت الآخر مهلاً، مثل أجل الدين وأجل الرزق وأجل الوعد وأجل العمر.
* * *
لكل أمة أجل
لقد حدّد الله للجماعات الإنسانية، التي تتخذ لنفسها صفاتٍ معينةً تستمدها من النسب والأرض وغيرهما، أجلاً لا تعدوه، فليس هناك خلودٌ لأحد، ليأخذ امتداده وحريته في ما يريد أو لا يريد، بعيداً عن إرادة الله في ما يأمر به أو ينهى عنه... ولهذا الأجل أسبابه الطبيعية، في ما أودعه الله في الإنسان من إمكانات محدودة لاستمرار الحياة، وما خلقه في الكون المحيط به، من أوضاع وأسباب تقف بالحياة عند حدٍّ معيّن. وتلك هي سنّة الله في الحياة التي لا تجد لها تحويلاً أو تبديلاً. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الذي حدّده الله من خلال تحديد الأسباب الطبيعيّة لذلك، {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} عما أجّل الله لهم، {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} ساعة عن ذلك، وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) في قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} قال: هو الذي يسمّى ملك الموت[1].
وهكذا ينبغي لكل أمةٍ أن لا تعتبر نفسها كل الحياة، بل هي مرحلة من مراحلها في عملية النمو والتطور، فليس لها أن تأخذ كل الأدوار، لأنها لا تستطيع ذلك، بل تأخذ لنفسها الدور الذي يعيش في نطاق المرحلة المحدودة، لتأخذ الحياة حركتها الطبيعية في سلّم التدرّج والتنامي والامتداد.
* * *
عمر الأمة الحضاري
وقد نستوحي من هذه الآية كيف تتمثل الحياة في عمر الأمّة الحضاري، من خلال ما تمثّله المجموعة من العناصر المشتركة في الثقافة والاجتماع والسياسة والعلاقات الإنسانية والأمن والاقتصاد، مما يدخل في عملية التوازن الإنساني الذي يتكامل فيه الأفراد ليعطي كل واحد منها شيئاً من طاقته المميزة لتلتقي الطاقات في حركة تكامل وتعارف وتمازج، ليدخل ذلك كله في جسم الأمّة في المعنى التوحيدي الذي يوحد بين أفرادها، لأن الأمة في معنى الجماعة، ليست وجوداً مميزاً عن الأفراد لتكون شخصية معينة متميزة، بل هي الأفراد الذين ينضمّون إلى بعضهم البعض في مشروعٍ واحدٍ وخطة موحّدة، وطاقاتٍ متفاعلةٍ متداخلةٍ تنتج طاقة واحدة للأمة.
ويبقى هذا العمر قوياً شاباً منفتحاً حيويّاً حتى تتغير الخصائص الحية، لتموت في عملية تحلّلٍ وانكفاءٍ وابتعادٍ عن الخط المتوازن، وهذا هو الذي أثارته الآية القرآنية بقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112] وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، إلى غير ذلك من الآيات المتحدثة عن عملية الموت الحضاري للأمة من خلال التغير الفكري والسلوك المنحرف والفساد المتنوع والبعد عن خط التقوى، مما يجعل الإنسان صانع التغيير في الجانب الإيجابي والسلبي، بحيث يمثل ذلك السّنة التاريخية التي أودعها الله في الواقع الإنساني الاجتماعي من موقع إرادته واختياره لا من موقع الحتمية التاريخية الخارجة عن قدرة الإنسان الحركية. وبعبارة موجزة، إن السنّة التاريخية لا تخضع دائماً للعناصر الخارجة عن قدرة الإنسان، بل إنها قد تخضع للإرادة الإنسانية في حركة الفكر والعمل، فالاختيار الإنساني جزء من السنة وليس نتيجة لها، فإذا أحسن الاختيار كان للأمة شبابها وحيويتها وامتدادها في العمر الحضاري، وإذا أساء ذلك، كان سبباً للمرض الروحي والمعنوي والمادي الذي يعجل في الموت ويبلغ بها نهاية الأجل.
إن نهاية الأجل للأمة كنهاية الأجل للفرد، خاضعة للعوامل الداخلية والخارجية المتحركة في عناصر الضعف والقوّة في الذات، إنها حركة منفتحة على المستقبل متصلة بالماضي والحاضر في عملية مراوحةٍ بين الظروف التي يصنعها الإنسان والظروف المحيطة به من الخارج.
وليس من الضروري أن يكون الموت الذي يمثل عملية سقوط حضاري للأمة حتمياً، بل هو إراديّ في خط الوعي السلبي والإيجابي للفكر وللحركة والامتداد، وهذا هو الذي يلتقي بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. فإنها تعني التجدد والحركة من خلال الأسباب الطبيعية الإنسانية وليست شيئاً لا مفر منه من خلال نظرية حتمية السقوط. وهذا هو الذي تلتقي فيه الآية {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} بالآية الأخرى {وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فإن عملية التداول لا تبتعد عن مواقع الاختيار، بل تتحرك معها ومع العناصر الأخرى المتصلة بالنظام الكوني؛ والله العالم.
ـــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:8، ص:96.
تفسير القرآن