من الآية 35 الى الآية 36
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتــان
{يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(35ـ36).
* * *
النداء الأخير للناس لاتباع الرسل
وهذا هو النداء الرابع الحاسم في دعوة الناس إلى اتّباع الرسل الذين يبعثهم الله ليقصّوا عليهم آياته، بما تدلُّ عليه من عظمة الإبداع في خلقه، لتقودهم إلى التأمل بها والتفكير فيها، وبما تذكرهم به من نعم الله التي تتصل بوجودهم وبامتداده، بالمستوى الذي يجعل منها رحلةً طيبةً رائعةً في مسيرة الكون، وبما تخطط لهم من المنهج الفكري والعملي الذي يقودهم إلى الخط السليم في التفكير والصراط المستقيم في العمل، وبما توجّههم إليه من أساليب وأهداف في نطاق الحياة كلها، كموقع ينطلق فيه الإنسان إلى الآخرة عبر مسيرته المسؤولة في الدنيا. وعلى ضوء هذا، فإن هؤلاء الرسل جاؤوا ليقصّوا علينا هذه الآيات الإلهية، من أجل وعيٍ إيمانيٍّ منفتحٍ، وعملٍ تقوائيٍّ صالحٍ متحرّكٍ، لنواجه النتائج الإيجابية في أجواء التقوى، والنتائج السلبية في أجواء الكفر والاستكبار... وتلك هي قصة الرسالات مع الناس في حركة البداية والنهاية.
* * *
وجوب اتباع الرسل والتقيد بتعاليمهم
{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} من عند ربكم {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي} التي تهديكم سواء السبيل، وتقودكم إلى سعادة الدنيا والآخرة، وتنذركم عذاب النار، وتبشركم بنعيم الجنة، تبعاً لأعمالكم الخيّرة أو الشريرة... فاتّبعوها وسيروا على الخط الذي تقودكم إليه، أو واجهوا النتائج السلبيّة. {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} ووعى موقفه من الله، خائفاً مقام ربه، وناهياً النفس عن الهوى، مصلحاً أمره في فكره وعمله، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب الله في جهنم، لأن الله قد أعطى المؤمنين الصالحين الأمن من كل خوف {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في ما يواجه الناس من أهوال يوم القيامة؛ فإن الله قد منحهم الفرح الكبير في ما يستقبلهم من لطفه ومغفرته ورضوانه في جنات النعيم.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بعد أن أقام الله عليهم الحجة، بما قدمه لهم من براهين، {وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ} فلم يخضعوا للحقيقة الإلهية التي تمثلها آياته، كما هو شأن الكثيرين من الناس الذين يمتنعون عن الخضوع للحقائق الفكرية والعملية، لا لوجود شبهةٍ تمنعهم من الرؤية الواضحة، بل لعقدة الكبرياء الذاتي الذي يمنع الإنسان من إجراء أية عملية تغييرية لأسلوبه في التفكير أو طريقته في العمل، أو لقناعاته المتوارثة، تماماً ككل المستكبرين على أكثر من مستوى عندما يستسلمون للعقدة الاستعلائية المرضيّة المستحكمة فيهم، من أجل الحصول على امتيازاتٍ لا يستحقونها، أو الوصول إلى مواقع لا يملكونها، ولا حجّة لهم في ما يحاولون، ولا عذر لهم في ما يستكبرون. {أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فذلك هو جزاء الطغيان والاستكبار والتمرد على الله وعلى رسالاته ورسله.
* * *
ملاحظتان حول الآيتين
الملاحظة الأولى: في قوله تعالى: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} فقد حاول البعض أن يستوحي منها نفي خاتمية الرسالة، لأنها تتحدث عن المستقبل الذي يأتي فيه {رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي} فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ممّا يدل على أن هناك رسلاً بعد النبي يحملون رسالة الله، ولكن هذا ظاهر البطلان، فإن الخطاب لبني آدم، وليس للمؤمنين، فهو شامل للناس جميعاً على نطاق الخطاب الذي وجهه لآدم وزوجته عند إنزالهما إلى الأرض في قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَآ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38 ـ 39]. وهو خطاب يعم جميع المكلفين من بني آدم، من جاءه الرسول منهم ومن جاز أن يأتيه الرسول ـ كما في مجمع البيان[1].
الملاحظة الثانية: في قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فقد جاء في مجمع البيان في تفسيره: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرة[2].
وقد لاحظ بعض المفسرين أن الخوف والحزن المنفيين هما في الدنيا لا في الآخرة، ولذلك فإن المؤمنين يعيشون الطمأنينة والاستقرار النفسي والأمن الروحي، فلا خوف من المستقبل ولا حزن على ما مضى.
ونلاحظ على هذا الرأي، أن تأثير الإيمان بالله والثقة به في ابتعاد المؤمن عن أجواء الخوف والحزن في الدنيا يمثل الحقيقة الإيمانية، وذلك من خلال الإحساس بالحضور الإلهي في حياته بالدرجة التي يتحسس فيها رعايته وحمايته وإشرافه عليه، كما جاء في قول الله تعالى، ممّا قصه من حكاية النبي محمد(ص) ليلة الهجرة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40] فقد كان النبي يعيش السكينة الروحية في قلبه، وأراد لصاحبه أن لا يشعر بالحزن في الموقف الصعب، وممّا قصَّه الله على المؤمنين: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 ـ 175]، فقد أراد الله للمؤمنين أن لا يخافوا من الشيطان في الدنيا، لأنه ـ تعالى ـ هو الذي يمنحهم الأمن الروحي الذي يشعرون معه بالسكينة النفسية.
إننا لا نمانع من هذا التأثير الروحي للإيمان على النفس المؤمنة بما يفيضه الله عليها من ذلك، ولكن سياق الآية وأمثالها وارد في الحديث عن موقف المؤمن في الآخرة، بقرينة مقابلتها بالآية الأخرى المتحدثة عن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها بأن جزاءهم النار، كما هو الحال في آية البقرة المتقدمة، مما يوحي بأن الآيتين معاً واردتان في سياق الحديث عن جزاء الإيمان والكفر في يوم القيامة؛ والله العالم.
ــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج :4، ص:641.
(2) (م.ن)، ج:4، ص:641.
تفسير القرآن