من الآية 37 الى الآية 43
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـَايَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِين* قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ* وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ* لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الاَْنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(37ـ43).
* * *
معاني المفردات
{يَنَالُهُمْ}: النيل: وصول النفع إلى الإنسان إذا أطلق، فإن قيّد وقع على الضرر، لأن أصله الوصول إلى الشيء، من: نلت أنال نيلاً.
{يَتَوَفَّوْنَهُمْ}: التوفّي: قبض الشيء بتمامه، يقال: توفيته واستوفيته، والمراد به هنا الموت.
{خَلَتْ}: الخلوّ: انتفاء الشيء عن مكانه، يقال: خلا عن البيت، وكذلك خلت بمعنى مضت، لأنها إذا مضت بالهلاك فقد خلا مكانها منها.
{الْجِنِّ}: قال في مجمع البيان: الجن جنس من الحيوان مستترون عن أعين الناس لرقّتهم، يغلب عليهم التمرّد في أفعالهم كما يغلب على الملك أفعال الخير[1].
{ادَّارَكُواْ}: أصله: تداركوا، ومعناه تلاحقوا واجتمعوا وأدرك بعضهم بعضاً.
{أُخْرَاهُمْ}: اللاحقون مرتبةً أو زماناً من التابعين.
{لأولاهُمْ}: المتّبعون من رؤسائهم وأئمتهم أو من الأجيال السابقة عليهم الذي مهدوا لهم طريق الضلال.
{ضِعْفًا}: الضعف المثل الزائد على مثله، فإذا قال القائل: أضعف هذا الدرهم، فمعناه اجعل معه درهماً آخر لا ديناراً، وكذلك إذا قال: أُضْعُفْ الاثنين، فمعناه اجعلهما أربعة. وحكي أن المضعّف في كلام العرب ما كان ضعفين والمضاعف ما كان أكثر من ذلك.
{سَمِّ الْخِيَاطِ}: ثقب الإبرة. والسَمّ ـ بفتح السين وضمها ـ الثقب، ومنه السمّ القاتل لأنه ينفذ بلطف في مسام البدن حتى يصل إلى القلب فينقض بنيته، وكل ثقب في البدن لطيف فهو سُم وسمّ وجمعه: سموم. والخياط والمخيط: الإبرة.
{جَهَنَّمَ}: اسم من أسماء النار. واشتقاقها من الجهومة، وهي الغلظ، وقيل: أخذ من قولهم: بئر جهنّام أي بعيدٌ قعرها.
{مِهَادٌ}: المهاد: الوطاء الذي يفترش. ومنه مهد الصبي، وقد مهّدت له هذا الأمر أي وطأته له.
{غَوَاشٍ}: جمع غاشية، وهو كل ما يغشاك أي يسترك، ومنه غاشية السرج، وفلان يغشى فلاناً أي يأتيه ويلابسه.
{صُدُورِهِم}: الصدر ما يصدر من جهته التدبير والرأي، ومنه قيل للرئيس: صدر.
{غِلٍّ}: الغل: الحقد الذي ينغل بلطفه إلى صميم القلب، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة، ومنه الغُلّ الذي يجمع اليدين والعنق بانغلاله فيهما.
{تَجْرِي}: الجريان انحدار المائع، فالماء يجري والدم يجري وكل ما يصح أن يجري فهو مائع.
{الأنْهَارُ}: النهر: الواسع من مجاري المياه، ومنه النهار لاتساع ضيائه.
{وَنُودُواْ}: النداء: الدعاء بطريقة يا فلان.
{أُورِثْتُمُوهَا}: قال الراغب في المفردات: الوراثة والإرث: انتقال قنْيَةٍ إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المُنْتَقِلُ عن الميِّت: يقال للقِنْيَة الموروثة: ميراثٌ. وإرثٌ وتراثٌ أصله وراث، فقلبت الواو ألفاً وتاءً، قال: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً }َ، وقال (عليه الصلاة والسلام) اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم، أي أصله وبقيته. قال الشاعر:
فينظر في صُحُفٍ كالرِّبا طِ فيهنَّ إِرثُ كتابٍ مُحِي
... ويقال لكل من حصل له شيءٌ من غير تعب: قد ورث كذا، ويقال لمن خُوّل شيئاً مهنّئاً: أُورِث، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف:72]، {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ}[2] [المؤمنون:10ـ11].
وذكر صاحب تفسير الميزان وجهاً آخر قال: «وقد جعلت الجنة إرثاً لهم في قبال عملهم، وإنما يتحقق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره. يقال: ورث فلان أباه أي مات وترك مالاً بقي له، والعلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم، ويرث الله الأرض أي أنه كان خوّلهم ما بها من مال ونحوه، وسوف يموتون فيبقى له ما خوّلهم.
وعلى هذا، فكون الجنة إرثاً لهم أورثوها، معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعاً، غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن، فهو الوارث لها بعمله، ولولا عمله لم يرثها قال تعالى: {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون:10 ـ11]، وقال تعالى ـ حكاية عن أهل الجنة ـ: {الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
وهذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات»[3]. وبعد أن يذكر ما أوردنا عن المفردات يعلّق بقوله: «وإنما كان ما قدمناه أوضح ممَّا ذكره، لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادّة»[4].
وقد جاء في الحديث المأثور عن رسول الله(ص) ـ بطرق الشيعة والسنّة ـ حيث يقول: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما الكافر فيرث المؤمنَ منزله من النار، والمؤمن يرث الكافرَ منزله من الجنة، فذلك قوله: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}»[5].
ونلاحظ على ما ذكره العلاّمة الطباطبائي بالحديث عن مناسبة التعبير بالإرث عن الجنّة التي ورثها المؤمنون، بأنها «معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعاً، غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن، فهو الوارث لها بعمله»، إن ما ذكره من تعريف الإرث بأنه «مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره» ليس عليه دليل من اللغة، لأن الظاهر من معناه أن يكون المال مملوكاً للشخص أو مختصاً به، فينتقل إلى غيره، فليس الانتفاع به ملحوظاً إلا من حيث تعيّنه للملك.
أمّا صعوبة إرجاع ما ذكره الراغب من المعاني إلى أصل واحد، وهو المادة، فقد يكفي في ذلك في المناسبة أن تكون شبيهة بالإرث باعتبار أنه خوّل له شيء يهنأ به، سواء كان ذلك نتيجة عمله أو كان ذلك بالتفضل عليه به، ولعل ذلك هو معنى الرواية، لأن ظاهرها ليس مراداً من حيث فعلية اختصاص المؤمن بمنزل في النار ليرثه الكافر، واختصاص الكافر بمنزل في الجنة ليرثه المؤمن، لأن النار منزل الكافر بكفره، فهو يختص به بالأصالة لا بالوراثة، كما أنّ الجنّة منزل المؤمن بإيمانه، فهو يحصل عليه بالأصالة لا بالوراثة، بل المراد، على تقدير صحة الرواية، أن الجنة والنار معدّتان لمن يعمل بما يؤدي إليهما، فليست الجنة مكتوبة لشخص معين من ناحية ذاتية، كما أن النار غير مختصة بفردٍ معينٍ من ناحية ذاتية، بل القضية تابعة للاختيار بإرادة الإيمان والعمل الصالح أو الكفر والعمل السيىء، فهناك إمكانية الوصول لكل منهما، فإذا حدثت الفعلية كان كل واحد منهما بمنزلة الوارث لمكان الآخر، باعتبار أنه في معرض الصيرورة منه، ولكن يبقى في المناسبة، في حديث الرواية، خفاء مما تردّ به إلى أهلها.
* * *
صورة المكذِّبين بآيات الله
توضح الآيات الكريمة صورة المكذِّبين بآيات الله، أو الذين افتروا كذباً على الله، انطلاقاً من الأجواء المضلِّلة التي خلقوها وعاشوا فيها، لإبعاد الناس عن صفاء الفطرة ووضوح الرؤية للأشياء، في ما يخلطونه بالباطل من قضايا الحق، وما يثيرونه في أفكارهم من شكوكٍ وشبهات، وما يوحون إليهم به من أوهامٍ وتعقيداتٍ، فتتضخّم شخصياتهم، وتؤدّي بهم إلى الانحراف عن الحقيقة، في زهوٍ وخيلاء، وتقودهم إلى متاهات الكبرياء... وهكذا تتجسَّد الصورة، وتتعاظم في مدلولاتها؛ فإذا بالموقف من هؤلاء يمثل أفظع الظلم، لأنه يسيء إلى خالق الحقيقة من جهة، وإلى الحقيقة من جهة أخرى... ولكنها ـ مع ذلك ـ الصورة التي تضيع معها أحلام الإنسان وطموحاته في الهواء، لتتحول إلى ورقةٍ تهرب منه كلما عصفت الرياح، وكلما امتد به الطريق أو تعقّدت في داخله الحيرة.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنسب إليه ما لم يشرّعه وما لم يقله، {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} وجحد رسالاته وتمرد على رسله... فقد ظلم الله ربه حقّه في الإيمان والطاعة، وظلم الحقيقة حقّها في الوضوح والإذعان. {أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} في ما قضاه الله وقدّره لعباده في الأرض من أرزاقٍ ومعايش في ما يأكلون ويشربون ويلبسون ويتلذذون… كغيرهم من عباد الله، لأن الله لا يخص بنعمته عباده المؤمنين، بل يفيض ما يشاء منها على جميع العباد. وتستمر بهم النعم، وتمتد بهم الحياة… {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} ـ وهم ملائكة الموت {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} ويقبضون أرواحهم ليواجهوا حساب الله في ما قدموه من أعمال سيئةٍ، {قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من شركاء مما تصنعون من أصنام، أو تخضعون لهم من بشر... {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} وابتعدوا وتركونا ـ وحدنا ـ نواجه المسؤولية، في حيرةٍ وضياعٍ وذهول... فكيف كنا نكفر بالله وبآياته؟ وكيف سرنا في خط الضلال الذي قادونا إليه؟ {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} في شعور عميق بالحسرة والتمزق والسقوط...
* * *
مشهد المكذِّبين الأوّل
إنه المشهد الأول من المشهدين اللذين عالجتهما الآية. إنهم الكافرون في الدنيا، وقد جاءت رسل الله بمهمة إماتتهم؛ ولكنهم وجهوا إليهم سؤالاً قبل القيام بمهمتهم، في صيغةٍ هي أقرب إلى التبكيت والتوبيخ منها إلى الاستفهام؛ أين هؤلاء الذين كنتم تدعونهم من دون الله، فليأتوا إليكم في هذا الموقف الحرج الذي يتحدّى أصل وجودكم واغتراركم به ليخلصوكم إذا كانوا يملكون بعض قوة الألوهية أو سلطتها؟ ويحمل الجواب مشاعر الخيبة القاتلة التي تجسد الضياع بكل معانيه: لقد ضلوا عنا وابتعدوا وضاعوا فلا أثر لهم، تماماً كمن يمسك الريح وعندما يفتح يده فلا يرى شيئاً. وانكشفت الحقيقة، فلا مجال للنجاة أو الإنكار، وشهدوا على أنفسهم بالكفر بالله، ووقفوا ليواجهوا نتائج ذلك كله... وينتهي هذا الحوار، ويسدل الستار، ونعرف من خلال الجو أن المهمة قد انتهت وأنّهم انتقلوا إلى الدار الآخرة.
* * *
المشهد الثاني
أما المشهد الثاني، فهو صوتٌ ينطلق من الله، ليوجّه الأمر الحاسم بإدخال هؤلاء الكافرين في النار مع كل الأمم التي سبقتهم من الجن والإنس. ويدخل هؤلاء إلى النار، فنسمع ـ في قلب هذا المشهد ـ اللعنات تتوالى وتتصاعد وتتشابك، فكل أمّةٍ تلعن أختها التي سبقتها. اللعنات هي تحيات الداخلين من جديد للسابقين إلى النار؛ ولكنّها تحيّات الغضب والغيظ والمرارة التي تجيش في الصدور التي وحّد أفكارها الكفر، ولم يستطع أن يوحّد مشاعرها وعلاقاتها، أو يربط بينها برابطة التعاطف والتكاتف والاستسلام للمصير المشترك بدون سلبياتٍ في علاقاتها المشتركة...
إنها وقفات الغيظ المتفجر، التي تريد أن تصب النقمة والسخط واللعنة على الآخرين الذين تعتبرهم مسؤولين ـ حقاً أو باطلاً ـ عن هذا المصير، لتخفّف من وقع الصدمة على النفس بالإيحاء بمسؤولية الآخرين عن ذلك.
وهنا ينفتح نوعٌ من الحوار بينهم، لا يخاطبون فيه بعضهم البعض وجهاً لوجهٍ، بل تتوجه الجماعة الأخيرة أمام الجماعة الأولى بالدعاء إلى الله في أن يضاعف عذابه لمن سبقهم، لأنهم أساس الضلال؛ فكأنهم يريدون إفهامهم هذه القضية بهذا الأسلوب، ليختصروا الحوارين في حوارٍ واحدٍ.
وينطلق عن الله صوتٌ جديدٌ، ليقول لهم: إن لكلٍّ منكم ضعفاً من العذاب؛ أما الأولون منكم، فإنهم ضلوا الطريق وأعانوكم على الضلال، وأما أنتم، فإنكم ضللتم وأعنتموهم على الإضلال باتباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم وتكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم. {وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ}، لأنكم لا تعرفون طبيعة العذاب، لتعرفوا كيف يكون العذاب ضعفاً. وتجيب الجماعة الأولى بأسلوب يقرب إلى التهكم والتشفّي: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} إننا سواءٌ في المسؤولية وفي نتائجها... التي هي جزاء ما كسبناه من انحرافٍ وإجرام.
ويُسدل الستار على القصة، ليبدأ فصلٌ جديد، يأخذ فيه الإنسان درساً عملياً لمستقبل حياته، كي لا يواجه يوم القيامة ما واجهه هؤلاء من الذلّ والخزي والعذاب.
* * *
المعطيات العملية للقصة
أما كيف نستوحي هذا الدرس من هذا الموقف الذي يريد الله فيه أن يستبق موعد حدوث النهاية، فيخبرنا عنها ليجنّبنا تجربة الوقوع فيها دون وعيٍ وانتباه... أمّا كيف نستوحي هذا كله، فهذا يتجلّى بنقاط عدة.
1 ـ التأكيد على رفض التبعية في العقيدة، وفي الممارسة، وفي الموقف، وضرورة الاستقلال الذاتي في تحصيل القناعة بما تعتقده النفس، وما تمارسه وما تتخذه من مواقف، لأن أي تبرير للتبعية في أيّة زاويةٍ من زوايا العلاقات العامّة والخاصّة، لا يمنع من تحمّل المسؤولية ومواجهة نتائجها في الدنيا والآخرة.
* * *
العقيدة المنحرفة لا تصنع الوحدة الروحية
2 ـ إن الارتباط بين الأفراد والجماعات، على أساس العقيدة المنحرفة أو السلوك المنحرف، لا يصنع الوحدة الروحية أو الرابطة المصيرية التي تجمع بينهم، لتدفعهم إلى التضامن والمشاركة في نتائج المسؤولية دون تأفّف أو تذمرٍ.... ولعل السبب في ذلك هو أن الانحراف لا يخضع للفكر والصدق، بل يخضع ـ غالباً ـ للمصلحة الذاتية وللعلاقات العاطفية، مما يدفع الإنسان إلى التخلّي عن صاحبه عند أيّة إشارةٍ للخطر الكبير، أو أيّة صدمةٍ بالمصير السيّىء، فتكون النتيجة مزيداً من الملاعنة، أو المزايدة، في إلقاء كل طرفٍ المسؤولية على الطرف الآخر.
* * *
تحليل الدعاة للمواقف العامّة للناس
3 ـ أن يعمل الدعاة إلى الله ـ سبحانه ـ على التوسّع في التحليل للمواقف الكثيرة التي تندفع فيها التيارات الإلحادية أو الانحرافية إلى بعض مجتمعاتنا المسلمة، ليتقبلها الناس بقوة، بفعل القوة السياسية التي يمثلها دعاتها أو القوة الاقتصادية التي تدعمهم، أو تحت تأثير القوة العسكرية التي تقاتل من أجل فرضها، أو بفعل الإغراءات المادية والعاطفية، أو القوة العددية، أو غير ذلك من القوى التي تمثل دوافع تشد الناس إلى تقبل هذا التيّار أو ذاك، بغض النظر عن فساده أو صلاحه، فتلك أمور لا يبحث الناس فيها عادة إلا بعد تحصيل القناعة، لتبرير ما اتّخذوه من موقف وما مارسوه من عمل، للإيحاء إلى الذات بصوابية ما قاموا به.
ولعلّنا نشعر بقيمة هذا التحليل، عندما نتعرّف إلى الواقع الذي يفرض نفسه على المواقف الفكرية والعملية، من خلال الدوافع والمؤثرات البعيدة عن التأمل والتفكير والحق والباطل... فنبدأ بعد ذلك في رسم الخطة العملية التي تسعى لوضع الناس وجهاً لوجه أمام دوافعهم اللاواعية ـ كما يعبّر علماء النفس ـ ثم يُربط الموقف بقضية الحرية والكرامة والاستقلالية في الرأي، أو برواسب الإيمان العميقة، لاستثارة تلك المشاعر فيهم في حركة التفافٍ بارعةٍ على فكر الإنسان. ثم الاتجاه إلى استباق المراحل، بقطع الطريق على تلك التيارات، وعدم إفساح المجال أمام ما يمكن أن تستفيد منه عمليات الإضلال من أوضاعٍ شاذة، وذلك بخلق مناعةٍ ذاتيةٍ لدى المجتمع ضدها.
وقد يفيدنا في هذا المجال أن نثير، أمام الناس، الواقع الذي يعيشونه في ظل الازدواجيّة الفكرية والأخلاقية، بين ما يعتقدون وما يقلدون، والتأكيد على الآثار السيِّئة المترتبة على ذلك؛ مما يجعل الإنسان في قلقٍ أو حيرةٍ إزاء انقسام الشخصية وتوزّعها بين دافعين، يشدها أحدهما إلى الأمام، ويجرّها الثاني إلى الوراء. وقد نجد في هذه الآيات الكريمة بعض الدروس الرائعة التي تجعل من الموقف موضوعاً يرتبط بقضية المصير في الدنيا والآخرة، لتوحي للإنسان بالابتعاد عن المواقف السريعة وعن السطحية والارتجاليّة والانفعال الذاتي، لأن مثل هذه المؤثرات قد تكون مقبولة في الحالات الطارئة المحدودة، ولكنها لن تكون مقبولةً في قضايا المصير الذي يهدّد وجود الإنسان في الدنيا والآخرة.
* * *
أبواب السماء مغلقة في وجه المستكبرين
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} وهي كنايةٌ عن أبواب رحمة الله ورضوانه، وقد جاء في مجمع البيان حديث عن الإمام محمد الباقر(ع) قال: «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى منادٍ: اهبطوا به إلى سجين»[6]، و{وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} وهو أمر مستحيلٌ، إذ كيف يمكن أن يدخل الجمل في ثقب إبرة الخياطة؟!… لأنهم لا يملكون الأساس الذي يمكن أن يحقق لهم ذلك. وقد ورد مثل هذا المعنى في إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 25 و36 أن عيسى(ع) قال: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله»[7]. ومن الطبيعي أن المراد به الكناية عن صعوبة انضباط الغني في خط الإيمان والتقوى الذي يدخل به إلى ملكوت الله في الجنة، لأن الغنى يفتح للإنسان أبواب الانحراف على وسعها. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} الذين أجرموا في حق أنفسهم وفي حقّ ربهم، ولم يستجيبوا لنداء الحق في الفكر والعمل، {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} مهّدته ذنوبهم فراشاً من النار، {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} تحجب عنهم الرؤية في ما تثيره من دخان يغشي العيون ويمنعها من الإبصار المفتوح. {وَكَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الحياة من حولهم، لما أثاروه فيها من كفرٍ وضلال...
* * *
المؤمنون أصحاب الجنة
أمّا المؤمنون فلهم شأنٌ آخر: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} بحسب طاقتهم وقدرتهم، لأنهم لم يستطيعوا أكثر من ذلك، كما أن الله لا يمكن أن يكلّفهم شيئاً فوق ذلك، فهو يقول سبحانه: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [المؤمنون:62] أي ما تتسع له قدرتها {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. فقد جعل الله الجنة داراً للنعيم لينعم فيها أولياؤه بنعمته ورضوانه.
* * *
لا غلّ في الجنة
ثم ما مشاعر أهل الجنة، وما طبيعة العلاقات التي تحكمهم، وكيف يواجهون هذا الجوّ، وكيف يفكرون فيه، وكيف تكون عملية الاستقبال؟؟؟ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أي حقد. وقد لا يكون المقصود بالنزع أنها كانت مملوءةً بالحقد ثم نزعه الله منها، بل ربما تكون كنايةً عن عدم وجوده فيها، كما هو أسلوب التعبير في نسبة الفعل إلى الله، على أساس أن أدواته منه، وإن كان اختياره بيد الإنسان. وفي ضوء ذلك، يمكن أن يكون المراد هو أنهم عاشوا الإيمان الذي يثير مشاعر الطهر والحبّ والرحمة في نفوس المؤمنين، فلم يبق في نفوسهم أيُّ أثرٍ للحقد على مستوى علاقاتهم الأخوية، فها هم يعيشون في الجنة إخواناً في مرحٍ وغبطةٍ وسرور وشعورٍ بالفرح الروحي، في ما يواجههم من نعيم يتمثل في هذه المشاهد الطبيعية الحلوة، {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا}. وبدأوا يشعرون بالحاجة إلى التعبير عن شكرهم لله وحمدهم إياه، لأنه هو الذي فتح لهم باب الهداية، في ما أودعه فيهم من وسائل الهداية، وما أرسله إليهم من رسل، أو أنزله عليهم من وحي {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا} فهو الذي أرشدنا إلى الجنة ودلنا على السبيل إليها... {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} بدينه وشريعته. {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فقد وعدونا بالجنة إذا سرنا في طريق الخير والطاعة، وها نحن نرى ذلك في هذا الجوّ الرائع الذي يتحرك بالحق {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فلم تحصلوا عليها بالاسترخاء والكسل والتمنيات، بل حصلتم عليها بالجهد والتعب والعناء... وذلك هو سبيل الحصول على جنّة الله ورضوانه ولطفه..
ـــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:643.
(2) مفردات الراغب، ص:555ـ556.
(3) تفسير الميزان، ج:8، ص:118.
(4) تفسير الميزان، ج:8، ص:119.
(5) انظر: تفسير نور الثقلين، ج:2، ص:31، وتفسير القرطبي، دار الفكر، 1415هـ ـ 1995م، ج:4، ص:188، وتفسير الأمثل، مؤسسة البعثة، ط:1، 1413هـ ـ 1992م، ج:5، ص:47.
(6) مجمع البيان، ج:4، ص:646.
(7) الكتاب المقدس، إنجيل لوقا 18، ص:129، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
تفسير القرآن