تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 44 إلى الآية 53

 من الآية 44 الى الآية 53
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخرةِ كَافِرُونَ* وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ* وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ* أَهَـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ* وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ* الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِـَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ* وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(44ـ53).

* * *

معاني المفردات

{عِوَجاً}: العَوَج: العطف عن حال الانتصاب، وهو يقال في ما يدرك بالبصر سهلاً كالخشب المنتصب ونحوه، والعِوَج يقال في ما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرض بسيطٍ يُعرف تفاوته بالبصيرة، وكالدين والمعاش[1].

{حِجَابٌ}: الحجاب: الحاجز المانع من الإدراك، ومنه قيل للضرير: محجوب، وحاجب الأمير وحاجب العين.

{الأعْرَافِ}: الأمكنة المرتفعة، أخذ من عرف الفرس، ومنه عُرْف الديك، وكل مرتفع من الأرض عُرْف لأنّه بظهوره أعرف مما انخفض.

{بِسِيمَاهُمْ}: أي بعلاماتهم. والسِّيما العلامة، وهي فعلى، من: سام إبله يسومها إذا أرسلها في المرعى معلّمة، وهي السائمة، وقيل: إن وزنه عفلى من وسمت فقلبت، كما قالوا: له جاهٌ في الناس وأصله وجه... وفيه ثلاث لغات: سيما وسيماء بالقصر والمد وسيمياء على وزن كبرياء[2].

{تِلْقَآءَ}: التلقاء: جهة اللقاء وهي جهة المقابلة، ولذلك كان ظرفاً من ظروف المكان، تقول: هو تلقاؤك نحو هو حذاؤك.

{أَبْصَارُهُمْ}: جمع بصر، وهو الحاسّة التي يدرك بها المبصر، وقد يستعمل بمعنى المصدر، ويقال: له بصر بالأشياء أي علم بها، وهو بصير بالأمور أي عالم.

{وَنَادَى}: النداء امتداد الصوت ورفعه، ونادى نظير دعا، إلاَّ أن الدعاء قد يكون بعلامة من غير صوت ولا كلام ولكن بإشارةٍ تنبىء عن معنى يقال، ولا يكون النداء إلا برفع الصوت.

{خَوْفٌ}: الخوف: توقّع المكروه، وهو ضد الأمن الذي هو الثقة بانتفاء المكروه.

{أَفِيضُواْ}: صبّوا. والإفاضة ـ كما يقول صاحب المجمع ـ إجراء المائع من علوّ[3]. قال الراغب: فاض الماء إذا سال منصبّاً[4]. وفي التعبير إيحاءٌ إلى علوّ مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكانة أهل النار.

{لَهْوًا}: اللهو: طلب صرف الهمّ بما لا يحسن أن يطلب به.

{وَلَعِبًا}: اللعب: طلب المرح بما لا يحسن أن يطلب به.

{نَنسَاهُمْ}: نتركهم ونهملهم ولا نبالي بهم، وذلك على سبيل الكناية لاستحالة نسبة النسيان إليه تعالى على سبيل الحقيقة. والمعنى: نعاملهم معاملة المنسي في النار. والجزاء من جنس العمل {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَـتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126].

والنسيان ـ كما يقول الراغب ـ ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه أو عن غفلة[5].

{يَنظُرُونَ}: ينتظرون. والانتظار: هو الإقبال على ما يأتي بالتوقع له، وأصله الاقبال على الشيء بوجهٍ من الوجوه.

{تَأْوِيلَهُ}: التأويل: ما يؤول إليه حال الشيء، وهو «من الأول، أي الرجوع إلى الأصل»، ـ كما يقول الراغب[6].

{شُفَعَآءَ}: الشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمةً ومرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشفاعة في القيامة.

* * *

تحاور أصحاب الجنة وأصحاب والنار

وهناك حوارٌ آخر يدور بين أهل الجنة وأهل النار، يتدخّل فيه أهلُ الأعراف ليحاوروا أهل النار بطريقةٍ إنكاريةٍ تأنيبيّةٍ. وتنطلق الآيات في هذا الجوّ لتثير أمام الإنسان بعض المفاهيم والمواقف، وتوضح بعض المظاهر الاستعراضية التي لا زال البعض يمارسونها في الحياة الدنيا، فينخدع بها بعض البسطاء في أجواء الغفلة والنسيان.

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}. الآية توحي أن هناك منطقةً يشرف فيها أهل الجنة على أهل النار، فيرون بعضهم بعضاً، ويسمع أحدهم الآخر... وربما كان بين هؤلاء وأولئك علاقة معرفةٍ أو قرابةٍ أو جوار في الدنيا، وربما كان بينهم هناك حوارٌ في قضايا الإيمان والكفر وما يؤدّيان إليه من جنة أو نار. وكان الكفّار ينكرون ذلك كله ويسخرون باليوم الآخر، بينما كان المؤمنون يؤكدون ذلك ويخوفونهم ويحذرونهم من نتائج أعمالهم... ومرّت الأيام، وها هم يلتقون في الدار الآخرة، ولكلٍّ موقعه في الجنة أو النار، ويطَّلع أهل الجنّة على أهل النار ويسألونهم {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} فها نحن نتقلب في نعيم الجنة ورضوان الله، كما وعدنا الله من خلال رسله؛ {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} في ما توعّدكم به من عذاب النار جزاءَ كفركم؛ فها أنتم تجدون أنفسكم في النار كما وعدكم رسل الله. وهو سؤال للإنكار أو للتقرير، لا للاستفهام. {قَالُواْ نَعَمْ} في خشوع وذلةٍ واستكانةٍ، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وقد لا يكون للحديث عن هذا المؤمن باسمه أثر كبيرٌ في الأجواء التي تثيرها الآية، فلا نريد أن ندخل في ما دخل فيه المفسّرون من خلاف حول ذلك، لأن الظاهر هو التركيز على الفكرة الموحية بإبعاد الله لهؤلاء الظالمين عن رحمته في ما تمثله اللعنة من هذا المعنى.

وتأتي الآية الثانية لتوضح المقصود من هذه الكلمة: {الظَّـلِمِينَ }؛ فليس المراد بها الظلم في الاعتداء على حقوق الناس، بل المراد بها الاعتداء على حقوق الله في العقيدة الحقة والنهج المستقيم، مما يعتبر ظلماً للنفس من جهة، وظلماً لله من جهةٍ أخرى.

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بوسائل الخداع والضغط، فيبعدونهم عن سبيل الله في العقيدة والعمل، ويمنعونهم عن السير في هذا الاتجاه، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} ويريدونها منحرفةً تتحرك في اعوجاجٍ وانحرافٍ في ما يثيرونه من شكوك وشبهات، وما يحركونه من غرائز وشبهاتٍ. {وَهُم بِالآخرةِ كَافِرُونَ}. وهذا هو السرّ في الانحراف الفكري والعملي، لأن الكفر بالآخرة يبعد الإنسان عن الشعور بالمسؤولية الذي يدفعه إلى تركيز البحث في العقيدة على أساسٍ متين، ويدفع العمل في اتجاه الصراط المستقيم، بينما يثير الإيمان بها الحركة الفكرية في اتجاه تصحيح المنهج والمسار والهدف...

* * *

أهل الأعراف

ويهدأ الحوار ريثما يتدخل جماعةٌ آخرون، وهم أهل الأعراف الذين اختلفت أقوال المفسرين فيهم، وأبرز ما ورد فيهم قولان؛ القول الأول: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة، ولا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار؛ فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجةً متوسطة بين الجنة والنار، ثم يدخلهم الجنة برحمته... القول الثاني: إنهم رجال من أهل المنزلة والكرامة مع اختلاف في تحديد شخصيتهم، بين من يقول: إنهم الأنبياء، ومن يقول: إنهم الشهداء على الأعمال، أو العلماء والفقهاء... واختلفوا في تحديد الأعراف على أقوال منها إنه شيءٌ مشرفٌ على الفريقين، ومنها إنه تلٌّ بين الجنة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.

وقد يكون في الكثير من هذا الاختلاف لونٌ من ألوان الاجتهاد الذاتي في التفسير، وربما استند بعضهم إلى بعض الروايات الواردة عن الصحابة والأئمة من أهل البيت(ع)، ولكنّنا لا نجد كبير فائدةٍ في تحقيق هذا الأمر، لأن ذلك لا يتعلق بالأجواء العامة للآيات. وربما قادنا التفسير إلى بعض اللمحات الموحية في هذا الاتجاه. {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} فليست الأجواء مكشوفةً تماماً بين أهل الجنة وأهل والنار، فهناك ستارٌ يفصل بينهما، أو سورٌ يحجز أحدهما عن الآخر.

{وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلاماتهم المميزة التي تتمثل فيها أوضاعهم في خط الإيمان أو الكفر، في ما يفكرون ويعملون... فيستطيعون ـ من خلال ذلك ـ تمييزهم ومعرفتهم، ليتحدثوا إليهم حديث المعرفة. {وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ}، فتلك هي التحية التي توجّه إلى أهل الجنة، في ما توحي به الجنة من معنى السلام الروحي، على مستوى الأجواء النفسية الداخلية للإنسان تجاه ربه، وتجاه كل ما حوله ومن حوله... وعلى مستوى الأجواء العامة التي تسود آفاق الجنة على مستوى الطبيعة أو الناس... {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حاول بعض المفسرين أن يجعل الضمير في هذه الفقرة عائداً إلى أصحاب الجنة الذين كانوا ـ حين النداء ـ خارج الجنة، فلم يكونوا قد دخلوها بعد ولكنهم يطمعون في دخولها لما يعرفونه من تاريخهم في الدنيا في ما قدّموه أمامهم من أعمالٍ وحسناتٍ... وفسرها الكثيرون بأنّ المقصود بهؤلاء أصحاب الأعراف، لأنهم يتحدّثون مع أهل الجنة كفريقٍ مستقلٍّ لا يشاركهم في الصفة، وإلا لكانوا منهم... أما طمعهم في دخول الجنّة، فلأنهم ليسوا بمستوى السوء الذي يمنعهم من دخولها، لأنّهم ممن استوت حسناتهم وسيّئاتهم، كما يقولون.

وربما كان هذا القول أقرب إلى سياق الآية، لا سيّما بلحاظ الآية الثانية {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ} فشاهدوهم واطّلعوا على هول العذاب الذي يلاقونه، فشعروا بالخوف والرعب فدفعهم ذلك إلى الابتهال والدعاء إلى الله {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرد والعصيان... يلاحظ أنّ مثل هذا الدعاء، قد يصدر من أهل المنزلة والكرامة في الدنيا، حيث يعبّرون عن عظمة الله وخشيتهم منه بذلك.. أما في يوم القيامة، فلا نجد ما يوحي بذلك، لأن مجال الأعمال التي يخاف الإنسان من مسؤوليتها السلبية ـ حتى بطريق الافتراض ـ قد انتهى بالنسبة إليهم، فعرفوا أنهم مصدر كرامة الله؛ بينما يعتبر ذلك أمراً طبيعياً بالنسبة إلى الذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم، الذين لا يزالون في خوفٍ من مصيرهم... ولذلك فهم يعملون على إظهار إخلاصهم لله، بإخلاصهم لعباده المؤمنين من أهل الجنة، بالقاء التحية عليهم؛ كما يعملون على إبراز خضوعهم له وخوفهم منه والإنكار على أهل النار في حوارٍ مختصرٍ معهم... مما يؤكد موقفهم القلق الذي يحاول البحث عن أساسٍ للثقة والاطمئنان في أكثر من اتجاه... إن ذلك كله يقرِّب الوجه الأول في شخصية أصحاب الأعراف، وتفسير الفقرة المتقدمة في الآية السابقة...

حاول البحث عن أساسٍ للثقة والاطمئنان في أكثر من اتجاه... إن ذلك كله يقرِّب الوجه الأول في شخصية أصحاب الأعراف، وتفسير الفقرة المتقدمة في الآية السابقة...

{وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} في ما كانوا يكفرون بالله وكانوا بآياته يجحدون؛ {قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} الذي جمعتموه من مالٍ وجاهٍ {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} على أساس المال الذي تملكونه، أو الجاه الذي تتقلبون فيه، في ما يدفعكم إليه الاستكبار من إنكار الحق وظلم أهله، والتطلع إليهم من موقع العلوّ والرفعة، كما لو كانوا كمِّياتٍ مهملةً لا توحي بشيء من الاحترام والاهتمام، لأن مقياس المستكبرين في تقييمهم للأفكار وللأشخاص، هو القيم المادية التي تحكم الساحة، من مالٍ وجاهٍ وامتيازات، ولكنّ ذلك هو شأن الدنيا من خلال ما تتحرّك به المادّيات في التأثير على حركة الإنسان والحياة... أمّا شأن الآخرة، فله مجال آخر، في ما قدّمه الناس من أعمالٍ صالحة، وما عاشوه من إيمانٍ وتقوى وصلاح، ولذلك فإنّ كلّ ما يتركه الإنسان من مالٍ وجاه خلفه في الدنيا، لا يعني شيئاً في عملية التقييم لدى الله، ولا يغني عنهم شيئاً في ما يستحقونه من عذاب وعقاب، {أَهَـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}، لأنكم تعتبرون رحمة الله خاضعةً لِقيَمِ الدنيا في امتيازاتها التي تصنف الناس تبعاً لإمكاناتهم المادّية ومواقعهم الاجتماعية. إن هؤلاء هم الذين يملكون الدرجة العليا في الآخرة، وهم أهل الكرامة والمنزلة عند الله، الذين أفاض الله عليهم رحمته، وأسبغ عليهم نعمته...

* * *

أصحاب النار يتوسلون أصحاب الجنة

ثم يلتفتون إلى أهل الجنة، ليقولوا لهم، بكل محبةٍ وتقدير وتبريك: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } وهنا يعود الحديث إلى حوار أهل الجنة والنار، فنرى أهل النار وهم يعيشون الجوع والحرمان والعطش والذل والمسكنة... فيتوسلون إلى أهل الجنة أن يعطوهم شيئاً مما رزقهم الله من الماء والطعام وغير ذلك مما يحتاجه الإنسان في استمرار حياته... {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، لأنه قضى عليهم بالعذاب في الدار الآخرة، وحرمهم من كل نعيمها، ونحن لا نملك التصرف في ذلك إلا بأمر الله، ولم يأذن لنا الله بذلك، لأنكم من الكافرين {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}، فاعتبرتم الحياة فرصة للّهو وللّعب، وأخضعتم لهما كل برامج الفكر والعمل، وأطلقتم ـ معهما ـ كل آمالكم ومطامحكم، حتى تحول اللعب واللهو إلى دين تدينون به وتسيرون عليه... {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزخارفها ومباهجها ولذائذها وشهواتها... فأنستهم ذكر الله واليوم الآخر، وإذا نسي الإنسان ربه ونسي لقاءه في اليوم الآخر، فإن الله سينساه في ذلك اليوم، في ما تعبر عنه كلمة «النسيان» بالنسبة إلى الله، من إهمال كليٍّ له، وذلك على سبيل الكناية، لاستحالة هذه النسبة إليه تعالى على نحو الحقيقة. فإن النسيان يستتبع الإهمال لما ينساه الشخص، فناسب أن يقوم مقامه في التعبير...

* * *

الجزاء بالمثل

{فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ} ونهملهم ولا نبالي بهم {كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـذَا}، فنسوا مسؤوليتهم أمام الله، وتركوا العمل الجدي في اتجاه المسؤولية، وعاشوا أجواء اللامبالاة، وحياة اللهو واللعب، فذلك جزاؤهم على ما فعلوه {وَمَا كَانُواْ بِـَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ}. ولم يكن لهم في جحودهم لها من حجة أو برهان، بل كانت الحجة لله عليهم في ما أرسله من رسله، وما أنزله من كتبه، {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} وبيّنّا فيه تفاصيل كل شيء على أساس من العلم القائم على الدليل والحجة، لا على الشكّ والريبة، وجعلناه {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فقد أراده الله كتاب هدى يهتدي به التائهون الذين لا يملكون الوسائل الكافية للحصول على وضوح الرؤية للأشياء أو على تفاصيلها الدقيقة، فيرون فيه الأشياء على حقيقتها، فيهتدون إلى أهدافهم الكبيرة بكل سهولة... وأراده الله كتاب رحمة، في ما تمثله هذه الكلمة من أجواء ومعانٍ وآفاق، تثير في نفوس الناس المشاعر الطاهرة الصافية، وترعى حياتهم بكل الأساليب التي تتحرك من أجل السعادة في الدنيا والآخرة. ولن يحصل على ذلك إلا المؤمنون الذين يحركون كل خطواتهم على الطريق الذي يفتحه الكتاب للناس جميعاً ليلتقوا فيه بالله في خط البداية وفي نقطة النهاية.

* * *

التأويل هو الحقيقة الواضحة

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي الكتاب، في ما تعنيه كلمة «التأويل» من الحقيقة الواضحة التي تكشف عنها الألفاظ في ما ترجع اليه معانيها، {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} وهو يوم القيامة الذي تظهر فيه القضايا على حقيقتها بشكل لا يسمح بأي التباسٍ أو اختلاف، {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} وأهملوه، ولم يتعمقوا في معانيه، ولم يتحركوا في اتجاه تحويلها إلى برنامج عملي لحياتهم وحياة الناس من حولهم... وحاولوا ـ بدلاً من ذلك ـ أن يثيروا الغبار من حوله، ويشكّكوا فيه، وينسبوا آياته إلى البشر، ويعطوه صفة الأسطورة والخرافة، ويتهجّموا على الرسل الذين حملوه كرسالةٍ إلهيةٍ إلى الحياة من أجل تنظيمها، جهلاً منهم أو تجاهلاً واستكباراً... وها هم اليوم أمام الحقيقة البارزة، التي تهدّم كلّ ما بنوه من أضاليل، وما أثاروه من أوهام، يتراجعون عن تكذيبهم وعن جوّ اللامبالاة الذي كانوا يواجهون به موقف الرسول والرسالة. {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فكيف انحرفنا عنه؟ ولكن ماذا نفعل الان، وكيف نحصل على الأمن، وما طريقة الخروج من المأزق الذي أوقعنا أنفسنا فيه؟

* * *

هل من شفعاء للذين نسوا الله في الدنيا؟

{فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} كما كنا نفعل في الدنيا إذا أخطأنا وواجهنا حساب المسؤولية، كنا نلجأ إلى الوسطاء الذين تربطنا بهم قرابة أو صداقة أو مصلحة، فيشفعون لنا لدى أولي الأمر، ونتخلص بذلك من النتائج السلبية لأعمالنا. فهل هناك وسطاء وشفعاء في الآخرة ليشفعوا لنا، {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيعطينا الله فرصةً ثانية للعمل، من أجل أن نصحِّح هذا الخطأ، ونقوّم هذا الانحراف، ونغيّر المنهج والبرنامج كله، لتكون حياتنا وفقاً لأمر الله ونهيه، لنحصل من خلال ذلك على رضاه، فيدخلنا في رحمته ورضوانه؟! ولكن الله يرفض هذه التمنيات، لأن الشفعاء لا يملكون ذاتيّة التصرف في هذه الأمور، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. فكيف يشفعون لهؤلاء الذين كفروا بالله وآياته ورسله؟ أما قصة العودة إلى الدنيا، فقد عالجها القرآن أكثر من مرّةٍ، وأكَّد أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، لأن مثل هذا التمنّي يخضع لمشاعر اللحظة، فإذا انفصلوا عنها رجعوا إلى أوضاعهم السابقة. وهذا ما جعل الآية تختم الموقف بالإعلان عن خسارتهم لأنفسهم: {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} لأنهم لم يحصلوا من كل حياتهم على شيء ـ أيّ شيء ـ ولم تنفعهم افتراءاتهم شيئاً من قريب أو من بعيد.

ـــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:363.

(2) مجمع البيان، ج:4، ص:652.

(3) مجمع البيان، ج:4، ص:655.

(4) مفردات الراغب، ص:403.

(5) (م.ن)، ص:512.

(6) مفردات الرغب، ص:27.