من الآية 54 الى الآية 58
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَـوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ*ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ* وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(54ـ58).
* * *
معاني المفردات
{أَيَّامٍ}: جمع يوم، قال الراغب في المفردات: اليوم يعبَّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يعبَّر به عن مدة من الزمان أيّ مدةٍ كانت[1].
وربما كانت الاستعمالات القرآنية لكلمةٍ «اليوم» تنطلق من المعنى الثاني، وذلك كما في كلمة «يوم القيامة» الذي يستغرق خمسين ألف سنة كما جاء في (سورة المعارج الآية:4). وقد أطلق اليوم على المدة الطويلة من الزمن التي تتّصف بعنوان سلبي أو إيجابي في حياة الإنسان. جاء في نهج البلاغة: «الدهر يومان يوم لك ويوم عليك»[2]، مما يعبر عن الدورة الزمنية التي تستغرق واقع الإنسان في هذه الحالة أو تلك.
وعلى ضوء ذلك، انطلقت الكلمات التي تعبّر باليوم عن عهد دولة معينة في سيطرتها على الواقع بعد أن تخلفها دولة أخرى في ذلك، فيقال: لقد سيطرت الجماعة الفلانية يوماً وسيطرت الآخرى يوماً آخر.
وفي هذا الاتجاه، يمكن توجيه الحديث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام ـ كما جاء في هذه الآية ـ أمام النظرية العلمية ـ غير القطعية ـ التي تقول: بأن تكوّن الأرض والسماء قد استغرق مليارات السنين على النحو التالي ـ كما ذكره صاحب تفسير الأمثل ـ :
1 ـ يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل، نتج أن انفصلت منها أجزاء بسبب دورانها حول نفسها، وتشكّلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم.
2 ـ هذه الكرات قد تحوّلت ـ تدريجياً ـ إلى كتلةٍ من المواد الذائبة المشعّة أو الباردة القابلة للسكنى.
3 ـ في دورةٍ أخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس.
4 ـ في الدورة الرابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة.
5 ـ ثم ظهرت النباتات والأشجار على الأرض.
6 ـ وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض[3].
إنّ من الممكن إطلاق كلمة اليوم على الدورات الستة التي تمثلها النظرية العلمية، ولكننا ـ مع هذا كله ـ لا نستطيع أن نفرض هذا الرأي على الآية القرآنية وأمثالها، لأنه لم يصل إلى الحقيقة العلمية الحاسمة، باعتبار انطلاقها من بعض المقدّمات الظنية الاستنتاجية التي يمكن أن تخطىء أو تصيب، مما لا يمكن إخضاع القرآن له، لأنه الذي يمثّل الكلمة الإلهية الفاصلة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
{اسْتَوَى}: الاستواء ـ لغةً ـ استقامة الشيء واعتداله، والمراد به هنا السيطرة والاستيلاء والملك، كما يقال: جلس فلان على العرش، أي سيطر على الملك، وثل عرشه أي خرجت السيطرة من يده وسقط ملكه، وهو عبارة عن إحاطة الله الكاملة وسيطرته على الكون وتدبيره له من موقع القدرة المطلقة على جميع مقدّراته ومواقعه.
{الْعَرْشِ}: ـ في اللغة ـ كل شيء له سقف وربما يطلق على السقف نفسه، كما في قوله تعالى {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259]. وقد يطلق على سرير الملك وكرسيّه في مجلس الحكم والتدبير، كما في قوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} [النمل: 38].
أمّا استعماله في «عرش الله»، فالظاهر أنه كناية عن الكون كله في عالم الوجود الذي يمثل الملك المطلق لله في كل شيء موجود.
وعلى ضوء ذلك، فان التعبير وارد على نحو الكناية لا على نحو الاستعمال الحقيقي بالمعنى المادي للكلمة ليكون حجّة للجسمانيين الذي حاولوا الأخذ بحرفية الكلمات القرآنية، فتصوروا الله ـ من خلال ذلك ـ جسماً مادياً كبقية الأجسام الأخرى في حاجتها إلى العوارض المختصة بالجسم، وغفلوا عن أن القرآن انطلق في أسلوبه الفني من القمة البلاغية التي تعتمد على الاستعارة والكناية كما تعتمد على الحقيقة حسب الحاجة الفنية للتعبير.
{يُغْشِى}: يغطي، يقال: غشّى الشيءُ الشيءَ: ستره وغطاه، وأغشاه إياه: جعله يغشاه أي يغطيه ويستره، ومنه إغشاء الليل النهار لا إغشاء النهار الليل، لأن الغطاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء.
{حَثِيثًا}: مسرعاً. والحثيث: السير السريع بالسوق، من قولهم: فرس حثيث السير أي سريعة.
{مُسَخَّرَاتٍ}: أي مذلّلات خاضعات لتصرفه، منقادات لمشيئته.
{بِأَمْرِهِ}: أي بتدبيره وتصرّفه.
{الْخَلْقُ}: الإيجاد الأوّل المتحرك في نطاق التقدير الإلهي في تنوعاته وشروطه وخصائصه في البسائط والمركب.
{وَالأمرُ}: هو السنن والقوانين المتحركة في نظام الوجود في إيصاله إلى غاياته التي أرادها الله، سواء في عالم الظواهر الكونية أو الواقع الإنساني، في السنن التاريخية الحاكمة على مسيرته في أوضاعه العامة والخاصة الصادرة عن الله من خلال أمره التكويني الذي يقول للشيء، في وجوده ونظامه وسننه، كن فيكون، من خلال شأنه وموقعه الربوبي في خالقيّته وتدبيره.
وفي هذا إيحاء بالإبداع الإلهي للوجود، وبالربوبية المهيمنة المنفتحة على كل حركته، بحيث تشرف عليه في بقائه واستمراره، فلا تهمله ـ بعد إيجاده ـ ليعيش في فوضى الصدف الضائعة في الفراغ.
{تَبَارَكَ}: مأخوذة من البركة وأصلها الثبات، والمراد منه الخير الكثير الثابت، وأما مناسبته لله، فهو في وجوده المبارك الأزلي الأبدي الذي هو منشأ الخيرات والبركات ومنبع الخير المستمرّ.
{تَضَرُّعاً}: تذّللاً. والتضرّع: التذلّل، وهو إظهار الذلّ الذي في النفس، ومثله التخشع، ومنه التطلب لأمر من الأمور، وأصل التضرع الميل في الجهات ذلاًّ من قولهم: ضرع الرجل يضرع ضرعاً إذا مال بإصبعه يميناً وشمالاً ذلاًّ وخوفاً ومنه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه، ومنه المضارعة للمشابهة لأنها تميل إلى شبه، والضريع نبت لا يسمن لأنه يميل مع كل داء.
{وَخُفْيَةً}: الخفية خلاف العلانية، من: أخفيت الشيء إذا سترته.
{لاَ يُحِبّ}: محبة الله للعمل ثوابه عليه ومحبته للعامل رضاه عنه.
{الْمُعْتَدِينَ}: المتجاوزين للحدود، والاعتداء: تجاوز الحدود.
{وَطَمَعاً}: الطمع: توقع محبوب يحصل.
{الرِّيَاحَ}: جمع ريح، وهو الهواء المتحرك، قال الراغب: كل موضع ذكر الله إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة[4].
{رَحْمَتِهِ}: المراد بها هنا المطر.
{أَقَلَّتْ}: أي رفعت، والإقلال: حمل الشيء بأسره حتى يقلّ في طاقة الحامل له بقوّة جسمه، يقال: استقل بحمله استقلالاً وأقله إقلالاً.
{سَحَاباً}: السحاب: الغيم الجاري في السماء، واحده سحابة.
{سُقْنَاهُ}: سيّرناه. السَّوْق: حث الشيء في السير حتى يقع الإسراع فيه.
{لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ}: البلد الميت هو الأرض التي لا نبات فيها ولا مرعى.
{نَكِداً}َ: النكد: كل شيء خرج إلى طالبه بتعسّر، يقال: رجل نكد بفتح الكاف وكسرها، وهو البخيل الممسك الذي يتعذر أخذ شيء منه بسهولة. وناقة نكداء: خفيفة الدَرّ صعبة الحلب.
{نُصَرِّفُ}: التصريف: تبديل الشيء من حال إلى حال، ومنه تصريف الرياح.
* * *
القرآن وتحريك الإيمان في قلب الحياة
في هذه الآيات صورةٌ حيَّةٌ كونيةٌ رائعةٌ، توحي للإنسان بعظمة الله من خلال عظمة خلقه، ليستشعر الإنسان ـ وهو يتأمّل ذلك كله ـ إيمانه بالله في رحاب الكون؛ في النهار عندما تتوهّج الحياة بيقظة النور، وفي الشمس عندما تنشر الدفء والإشراق في كل زاويةٍ من زوايا الكون، وفي القمر عندما ينساب نوره هادئاً ناعماً وديعاً في أجواء الليل الهادئة الموحية بالخدر اللذيذ في إغماضة الجفون على الأحلام الجميلة، وفي النجوم التي تتجمّع في ظلام الكون كحبّات نور متناثرةٍ في الفضاء... وهكذا تتكامل الصورة كلّما امتدّت آفاق المعرفة في وعي الإنسان في ما يشاهده ويلمسه ويعيه من خلق الله... ثم تتعاظم الفكرة من خلال الصورة في عقله وشعوره، فيحسّ بالخضوع لله الذي أبدع ذلك كله، فيتضرع له ويخاف منه، ويطمع به، وتتحرك أحلامه الكبيرة في اتجاه القرب منه... وذلك هو أسلوب القرآن في تحريك الإيمان في قلب الحياة، ليتنامى ويتصاعد وينساب في حياة الإنسان اليومية، كما لو كان شيئاً مرئياً تلمع به العيون، أو مظهراً كونياً تتلاقى حوله العقول. وبذلك تلتقي الفطرة بالإيمان من أقرب طريق.
* * *
العرش مظهر السلطة الإلهية الأعلى
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَـوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، وهو القادر على أن يخلقها في لحظة، ولكنه أراد للحياة أن تتدرّج في الوجود من خلال ارتباط بعضها ببعضٍ في طريقة تكامليةٍ. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ما يرمز إليه الاستواء من الهيمنة والسيطرة والسلطة، وما توحي به كلمة {الْعَرْشِ} من مركز الملك والحكم، بعيداً عن أي معنى يتصل بالتجسيد لله، أو بالشكل المادي للعرش… ولا ينافي ذلك ما ورد في الأحاديث المتنوعة عن منطقة في السماء تسمى بالعرش، أو ما جاء في الآية الكريمة: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] لأنّ من الممكن أن يكون المراد به المنطقة لأعلى في الكون، باعتبار أنّ ذلك هو مظهر السلطة والسيطرة على الكون على سبيل الكناية؛ والله العالم.
* * *
الليل يلاحق النهار
{يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}. وهذا من مظاهر قدرة الله، حيث نرى الليل يلاحق النهار بظلامه فيستره، ويطلبه طلباً سريعاً فيدركه؛ تماماً كمن يلاحق شخصاً آخر في عملية ملاحقةٍ سريعة. وربما كان في هذا إشارةٌ إلى أن الليل هو الأصل والنهار طارىء، فلم يكن هناك قبل الشمس ضياءٌ، فكأن النهار في مجيئه وإشراقه قد أخذ من الليل سلطانه، فبدأ الليل في محاولة دائمة وطلب حثيث لاسترجاع بعض ما فقده من ذلك..
* * *
كل ما في الكون طوع أمر الله تعالى
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} فقد خلقها الله وحركها بإرادته وقدرته، وسخّرها بأمره، ليؤدي كل واحد منها دوره في حركة الحياة وفقاً للقوانين الحكيمة التي أودعها الله فيها، في نظام دقيق حكيم لا تختلف أوضاعه ولا ترتبك مسيرته، وأراد للإنسان أن ينتفع بذلك كله، في ما وهبه من عقلٍ وما مكّنه من وسائل القدرة... {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ} فلا خالق غيره، ولا يملك الخلق إلا هو، {وَالأمْرُ} فلا أمر إلا أمره، لا أمر لأحدٍ مع أمره. فإذا أراد شيئاً، فإنه يقول له كن فيكون. {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فله البركة التي تمتد بكل البركات على كل العالمين، فهو الرب لكل شيءٍ لا رب غيره، ولا إله سواه..
* * *
من أحبَّ الله أحبَّ عباده
{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} بكل خشوعٍ وذلّةٍ ومسكنةٍ، وافتحوا قلوبكم إليه، وأَشهدوه على أنفسكم أنكم عباده الخاضعون المستكينون، وارفعوا إليه أكفَّ الضراعة، ليعطيكم ما تحتاجون إليه من كل شيء، لأنه القادر على كل شيء... {وَخُفْيَةً} في أنفسكم، لتعيشوا الشعور الحميم بأنكم معه في كل المشاعر اللاهثة الحارة، وفي كل التمنيات الروحية، وفي كل الكلمات المبتهلة الخاشعة... لا يشارككم أحد في هذا الجوّ الإلهيِّ الرائع؛ فلا أحد هناك إلاّ العبد وربّه، مما يعمّق في نفس الإنسان الشعور بعبوديته الحقيقية لله، وانتمائه الصادق إليه بكل هدوءٍ وإيمانٍ وإخلاصٍ، وبذلك تفرغ كل أفكاره ومشاعره وممارساته من كل معاني الاعتداء، فتصفو للناس وللحياة بالمستوى نفسه الذي تصفو به لله، لأن صفاء الروح مع الله، يحقق أعمق ألوان الصفاء مع الناس؛ إذ إن الإنسان إذا أحبّ الله أحبَّه عباده، وذلك هو سرّ التفاعل بين العبد وربه، فإذا أحب الإنسان ربه ترك كل شيء لا يحبه الله، وبذلك فإنه يترك العدوان، إذ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }.
****
الإفساد عدوان على الحياة
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} إفساد الفكر والعمل والعلاقات، في المجالات الاجتماعية السياسية والاقتصادية والعسكرية، فقد أعدها الله إعداداً صالحاً، في ما يريد لها من حركةٍ وحياةٍ، وأراد للناس، من خلال وحي رسله، أن يتابعوا خطوات الصلاح، ولا يستسلموا لكل عوامل الفساد والإفساد، لأن ذلك يمثل عدواناً على الحياة، وانحرافاً عن خط الله... وتلك هي مهمة الإنسان في إدارة طاقاته التي وهبه الله إياها، بأن تكون كل فعالياتها للصلاح والإصلاح. وذلك هو معنى أن تكون أمانةً لله عنده، فلا يحرّكها إلا بما يرضي الله، في بناء الحياة لا في هدمها. {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} لأنه هو الذي ينبغي للإنسان أن يخاف من عذابه ويطمع في ثوابه ويرجو رحمته، وذلك ـ أي الدعاء الذي يمثل عمق الإخلاص له واللجوء إليه ـ ما يجعله قريباً من رحمته، فتكون رحمته قريبة منه، ولكن بشرط أن يعيش الإنسان سلوك الإحسان في ما يقول أو يفعل، لأن الرحمة ليست مجرّد حالةٍ عفويةٍ، بل هي لطفٌ من الله، يتصل بالأفق الداخلي للإنسان وبالحركة الطيّبة لحياته، وذلك هو قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا بالروح وبالقول والعمل...
* * *
التجارة مع الله روحية لا مادية
وقد يثير البعض في هذا المجال تساؤلاً حول معنى أن تكون علاقتنا بالله علاقة خوفٍ وطمع؟ أليس هذا مظهراً من مظاهر العقلية التجارية مع الله، حيث ترتبط به على أساس خوف الخسارة والطمع في الربح؟! أليس من الأقرب إلى خط الايمان أن تكون العلاقة نابعةً من المحبّة الخالصة له، التي تنطلق من استحقاقه للعبادة، لأنه أهلٌ لذلك؟
ونجيب عن ذلك، بأنّ الخوف والطمع لا يمثِّلان شعوراً تجارياً، بالمعنى الماديّ للتجارة، ولكنهما يمثّلان شعوراً روحيّاً خالصاً يعكس الإيمان بأنّ وجود الإنسان مرتبط بالله في كل شيء؛ مما يجعل من الدعاء لوناً من ألوان التعبير عن هذه الحالة الروحية التي تؤكد للذات ـ دائماً ـ بأنّ قضية الإنسان مع الله هي قضية الفقر المطلق أمام الغنى المطلق، في إحساسٍ بالذوبان في ذات الله، في وعيٍ لمعنى العبودية في الذات الإنسانية. وبهذا تفترق التجارة المادّية بين الإنسان والإنسان في ما يخافه أو يطمع فيه، عن التجارة الروحية بين الإنسان وربّه، حيث تتحول القضايا المادية إلى معنىً روحيّ، في مستوى الإيمان الخالص.
* * *
حركة الرحمة الإلهية في الكون
وتأتي الآية التالية لتثير أمامنا صورة الرحمة الإلهية كيف تتحرك في آفاق الكون لتتحول إلى طاقةٍ تعطي الخصب والرخاء والحياة للأرض الميتة والبلد الميت.. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً}، مبشّراتٍ بالخير والحياة {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} التي تغدق البركات من خلال رحمته في ما تثيره في الكون من حركة الرياح التي تتنوّع في سرعتها، وفي طبيعتها، وفي حملها... فهي تتحرك لأداء المهمة التي أوكلها الله إليها، وفي الخطّ الذي أرادها أن تسير فيه من خلال القوانين الطبيعيّة التي أودعها في الكون بحكمته وإرادته وقوّته، {حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً} وحملته على ظهرها، وانتظرت الأمر الإلهي التكويني... {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} لا ماء فيه ولا كلأ ولا حياة... {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ} الذي جعلنا منه كل شيء حيٍّ، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} في ما تتنوّع أشكالها وألوانها وخصائصها... وهنا تأتي اللفتة القرآنية الموحية التي تنقل الفكر من هذه الصورة الحيّة المحسوسة التي يتحول فيها الموت إلى حياة، إلى عقيدة الإيمان بالبعث بوصفه حياة بعد الموت في الدار الآخرة، من خلال المقارنة بين الصورة المحسوسة هنا وبين الصورة الإيمانية هناك، {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وتخرجون من هذه الغفلة المطبقة التي تبعد عنكم كل وعيٍ ومعرفةٍ وإيمان.
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} طيّباً لذيذاً كثيراً، لأنه يتحرك من موقع الطبيعة الطيّبة الصافية التي تعيش القوّة، فيخرج نباتها قوياً قوة الأرض التي أنتجته. {وَالَّذِي خَبُثَ} في أرضه نتيجة ما تحتويه من عناصر تعيق إنتاجيّتها وتعطّل عملية النموّ والامتداد {لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} أي بصعوبة وجهدٍ؛ وذلك كناية عن القلة، لأن مثل هذه الطبيعة الخبيثة لا يمكن أن تنتج شيئاً كثيراً أمام المعوّقات الطبيعية هنا وهناك. {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} ونحوّلها في ما توحي به من فكرٍ ووعيٍ وشعور... {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}، فيحوّلون الحياة عندهم إلى طاقةٍ خيّرةٍ منتجةٍ في ما تعطي للحياة وللاخرين. وذلك هو معنى الشكر العملي في حياة الإنسان. وربما كانت هذه الآية واردةً مورد المثل للذات الطيّبة التي تنتج الخير من خلال طبيعتها الخيّرة، فتملأ الحياة خيراً كثيراً؛ وللذات الخبيثة المعقّدة التي تتحرك من موقع العقدة المرضية، فلا تنتج إلا النكد والعذاب الذي لا ينتهي إلى شيء..
* * *
دروس للعاملين في حقل التربية الإنسانية
وقد نستوحي من اختلاف النتائج الطيبة في البلد الطيب والخبيثة في البلد الخبيث في الوقت الذي يستويان فيه في نزول المطر عليهما، أنَّ نزول المطر لا يكفي في الإنتاج الطيِّب وفي الخصب المثمر، بل لا بد من أن تكون الأرض صالحةً قابلةً للخير بحسب خصائصها الذاتية التي تنفتح على الرحمة الإلهية، فإذا كانت الأرض سبخةً مالحةً، فلا يزيدها المطر إلا ملوحةً من دون أية فائدة، وإذا كان للمطر دورٌ في بعض الإنتاج، فلن يكون إلا شوكاً وحنظلاً لا غناء فيه ولا لذّة. وهكذا الإنسان الطيّب في عقله وقلبه وقابليته للخير، يستقبل الكلمة الطيّبة، والموعظة الحسنة، والأسلوب الحكيم، بالعقل المفتوح الذي ينتج عقلاً جديداً، وبالقلب الطيّب الذي ينتج حبّاً لله وللإنسان وللحياة، وبالحركة الطيّبة التي تمنح الحياة الكثير من عناصر تقدّمها ونموّها وحيويّتها، بينما ينطلق الإنسان الخبيث الذي عشّش الباطل في فكره، وتحرك الشر في قلبه، وزحفت الجريمة إلى حياته، ليزداد بالكلمات الطيّبة شراً وجريمة وبغضاً وعدواناً.
ومن الطبيعيّ، أنه لا بد للعاملين في حقل التربية من دراسة ذلك كله، من أجل أن يعرفوا كيف يصلحون الأرض قبل أن يضعوا فيها غراس الخير، وأن يمهّدوا الأرض الخصبة قبل أن يتحركوا في عملية الإنتاج الفعلي.
إن الخبث في الأرض وفي الإنسان ليس خصوصية ذاتية، بل هو شيء طارىء قد يأتي من هنا وهناك من خلال العناصر الخبيثة الخارجية التي تزحف إلى الإنسان بفعل البيئة أو الثقافة أو التربية السيئة، أو إلى الأرض بفعل العناصر المرَضيَّة، وما تحمله الرياح إليها، مما تخبث خصائصه فتتعمق في داخله.
ولهذا لا بد للعاملين في حقل الخير الإنساني من الاندفاع في طريق تنقية الداخل من كلِّ وحول الشرّ وقذارات الجريمة.
ــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:578.
(2) نهج البلاغة، والمعجم المفهرس لألفاظه، دار التعارف للمطبوعات، ص:348، الكتاب:72.
(3) تفسير الأمثل، ج:5، ص:67.
(4) راجع: مفردات الراغب، ص:211.
تفسير القرآن