تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 59 إلى الآية 64

 من الآية 59 الى الآية 64
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}(59ـ64).

* * *

معاني المفردات

{الْمَلاَ}: الجماعة من الرجال خاصة، ومثله القوم والنفر والرهط. عن الفرّاء، وسموا بذلك لأنهم يملأون المحافل[1].

{قَوْمِهِ}: القوم: الجمع الذي يقوم بالأمر.

{أُبَلِّغُكُمْ}: الإبلاغ: إيصال ما فيه بيان وإفهام، ومنه البلاغة.

{وَأَنصَحُ}: أخلص النية من شائب الفساد في المعاملة.

{الْفُلْكِ}: السفن، للواحد وللجمع.

{عَمِينَ}: جمع عمٍ، وهو من عمى البصيرة؛ والأعمى من عمى البصر.

* * *

موقع الإيمان هو موقع البحث عن الحقيقة

وتتوالى الآيات وتتتابع متناولة موضوع توحيد الله، في مواجهة الشرك به أو تكذيب آياته. وهي، هنا، تستخدم أسلوباً حياً، يريد الله للإنسان من خلاله أن يعيش تاريخ الرسل والرسالات، كي يعرف وحدة الطروحات التي قدّموها، ووحدة الأساليب الّتي استعملوها في مواجهة الفئات المتمرّدة على الرسالات... ويفهم ـ من خلال ذلك ـ طبيعة العقلية التي كانت تحكم من وقفوا ضد الرسل، ليخرج بنتيجة حاسمةٍ، وهي أن البشرية ـ في مرافقتها لمسيرة الرسالات والرسل ـ تنطلق في موضوع الإيمان من موقعٍ واحد، كما تنطلق في موضوع الكفر من قاعدةٍ واحدةٍ. أمّا موقع الإيمان، فهو موقع البحث عن الحقيقة؛ فالإنسان الذي يعيش هذا الهاجس الداخليّ، لا يمرّ بالأفكار التي تقدم إليه مروراً عابراً، بل يعمل على الاستماع إليها جميعاً، ليفكّر ويحاور ويستنتج، فيؤيِّد هذه من موقع القناعة الفكرية، ويرفض تلك من الموقع نفسه؛ ثم هو إنسان يلاحق كل إمكانات المعرفة ليستزيد منها، وليتحرك في إطارها. أما قاعدة الكفر، فهي ـ على العكس من ذلك ـ تسود فيها أجواء اللامبالاة بالحقيقة، بالتالي، فإن من يعتمدها كقاعدةٍ لا يشعر بالمسؤولية أمام كل الطروحات الفكرية التي تقدم إليه، فليست المشكلة عنده أن يؤمن أو لا يؤمن، بل كل ما لديه من اهتمامات هو أن يستمتع بالحياة، فيسير فيها كما تشاء له شهواته؛ ولهذا فإنه يعمل على تبرير حالته بكل الوسائل المتاحة لديه، فهو ليس في مجال البحث عن القناعة الفكرية، بل في مجال البحث عن المبرّرات. وهكذا نستطيع أن نواجه قصة الرسالات والرسل، لنعرف ماذا كان يطرح الأنبياء الأوّلون، وماذا كان يطرح الأنبياء المتأخرون؟ وما هي الأساليب التي انطلقوا بها إلى الناس، وما هي الأساليب التي انطلق بها المتمردون على الأنبياء في مواجهتهم للحق؟

وفي البداية، نلتقي بقصة نوح وقومه، فنلاحظ أولاً أن القرآن الكريم لم يحدّثنا عن أيّ نبيّ من الأنبياء أُرسل بين آدم ونوح، ولم يتحدث إلينا عن رسالةٍ هناك؛ فلربما كانت المرحلة قصيرةً بحيث لا تحتاج إلى رسالة، أو أن تلك الرسالات لم تكن في مستوى عالٍ من الأهمية من حيث ما طرحته من أفكار وما واجهته من تحديات، وما عايشته من أجواء، مما يجعل من الحديث عنها شيئاً لا أهمية كبرى له، ذلك أن القرآن لا يتحدث عن الأنبياء من خلال حكاية التاريخ، بل من خلال دراسة الظاهرة وأخذ العبرة، في ما يملك التاريخ من قضايا مهمة وملامح بارزة، وهذا ما ذكره الله في قوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164].

* * *

ما معنى إرسال نوح إلى قومه؟

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} هل نفهم من إرسال نوح إلى قومه، أن رسالته كانت محدودة بحدود قومه، فلا تتعداهم إلى غيرهم، أم أنّ هناك وجهاً آخر؟ وينسحب السؤال على كل قصّةٍ من قصص الأنبياء الذين تحدّث القرآن عن إرسالهم إلى قومهم، لا سيّما أولي العزم الذين أرسلوا إلى الناس كافة ـ كما قيل ـ وقد لا ننكر أن هناك رسلاً أرسلوا بمهمّة محددةٍ في الزمان والمكان، كما نلاحظ ذلك في قصة لوط وشعيب، ولكنَّ هناك أكثر من رسالة وأكثر من رسول لا يتقيّد دورهم بزمنٍ معيّنٍ، أو مكان معيّنٍ، فكيف كان التعبير باختصاصها بقوم الرسول؟.

* * *

قوم الرسول هم قاعدة الانطلاق

ربما كان الجواب الأقرب إلى الواقع هو أن قوم النبيّ كانوا يشكلون القاعدة الأولى للرسالة، والمجتمع الأول للرسول؛ فالنبي إنسان ـ ككل إنسانٍ ـ ينشأ في جماعة معينةٍ، وفي بيئةٍ محدودةٍ، ولا يملك إمكانياتٍ واسعةً للامتداد إلى كل المجتمعات الآخرى، لعدم توفر الوسائل المادية من إعلامية أو غيرها في تلك المراحل. ولهذا السبب كان لا بد من الأخذ بأسلوب المراحل الذي يهيّىء للرسالة جو الانطلاق التدريجي من مجتمعٍ إلى آخر بطريقة عمليةٍ واقعيةٍ. ولعلّ من الطبيعي للرسول أن يبدأ من قومه، باعتبارهم المجتمع الأول للرسالة، الذي تتناسب ملامح شخصية الرسول مع ملامحه العامّة، وتتجمّع فيه المعطيات الواقعية للبداية من حيث اللغة التي يتحدث بها، والعلاقات الحميمة التي تربطه بهم... وغير ذلك من الأمور التي تساهم في نجاح الخطوة الأولى. ثم تتحرك الخطوات الآخرى في اتجاه الامتداد والشمول، وليس هذا بدعاً من الأمر، بل هو قضية كل دعوةٍ إصلاحيةٍ أو تغييريّة، من حيث ارتباطها في نقطة البداية بشخصية الداعية، وبظروف عمله، وحركة المجتمع من حوله.

وفي ضوء ذلك، نعرف أن التركيز على «قوم نوح»، كان باعتبار أنهم المجتمع الأول الذي يمارس فيه الدعوة إلى الله، أو القاعدة التي يملك الانطلاق منها، لعدم توفر الوسائل التي تتيح له التحرك إلى موقعٍ آخر. وربّما كانت البشريّة محصورةً في ذلك المجتمع في ذاك التاريخ.

وهناك نقطةٌ أخرى لا بد من ملاحظتها، في فكرة الشمول والامتداد للرسالات، وهي أن المفاهيم والتشريعات التي جاءت بها، لا تقتصر في أهدافها وغاياتها على دائرةٍ معينةٍ من دوائر الحياة، بل تشمل الحياة كلها في نواحيها النظرية والعملية، لأنها تتصل بمشكلة الإنسان بشكل عام، مما يلغي الجانب المحلي للمسألة، مهما اختلفت التعابير.

* * *

نوح(ع) ودعوة التوحيد الخالص

{فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} لأن هذه الأصنام التي تعبدونها لا تمثّل شيئاً في حجم القدرة، أو في معنى القيمة، فهي مجرد أشياء جامدةٍ لا تحس ولا تضر ولا تنفع.. وهؤلاء الأشخاص الذين تعبدونهم وتطيعونهم من دون الله لا يملكون شيئاً، ولا يخلقون شيئاً، ولكنهم يُخلقون ويعيشون الحاجة في كل وجودهم لله... فكيف تمنحونهم صفة الإله، أو تعبدونهم من دون الله الذي هو ـ وحده ـ الخالق الرازق المالك لكل شيء، الغني عن كل شيء، القادر على كل شيء، ليس كمثله شيء؟! فهو الذي يستحق العبادة، بكل معانيها وآثارها.

إنها دعوة التوحيد الخالص التي أطلقها نوح، توحيد العبادة على أساس توحيد العقيدة، فهي الحقيقة التي تتمثّل في وجود الله وفي وجود الكون المستمدّ من وجوده، للرد على التصوّر المنحرف، والسلوك الفاسد الذي يمثل تعدد الالهة تبعاً لتعدد الأذواق والأوضاع والميول.

* * *

معنى التأكيد على العبادة دون الإيمان

وقد يتساءل بعض الناس: لماذا قال نوح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} ولم يقل لهم آمنوا بالله أو وحدوه، فإن الدعوة للعبادة لا بد أن تكون متفرّعةً عن الدعوة للإيمان، إذ لا عبادة بدون إيمان؟

ونجيب على ذلك أن الإيمان ـ في الرسالات الإلهية ـ لا يمثّل فكراً تجريدياً، كما هو الإيمان بالحقائق الرياضية أو الفلسفية، بل هو فكر للحياة وللعمل، لا ينفصل فيه جانب التصور عن الممارسة؛ فللإيمان بُعده العملي إلى جانب بعده النظري، لأن المطلوب هو الإحساس بوجود الله بالمستوى الذي يعيش فيه الإنسان حالة الارتباط به في أجواء الطاعة، كما يعيش حالة الارتباط به من خلال حركة الوجود، في ما تمثله الحقيقة الإيمانية من ارتباط وجود الإنسان بالله لجهة البدء والامتداد والنهاية... وهكذا نجد الرسالات تطرح قضية العبادة في أجواء طرح قضية التوحيد، لتؤكد العلاقة الطبيعية بين توحيد العقيدة وتوحيد العبادة، فلا معنى لأن تؤمن بالله من دون عبادة، كما لا معنى للعبادة من دون إيمان. ولهذا كان التأكيد على العبادة باعتبار أنها التجسيد الحقيقي للإيمان. ويبقى الإيمان ـ في أسلوب الدعوة ـ قضيةً لا تحتاج إلى الاستدلال أو المناقشة، لأنها من بديهيّات القضايا الفكرية؛ ولهذا لاحظنا أن النبي نوح قد طرحها كشيءٍ مسلَّمٍ به لا مجال للخلاف فيه، لما يوحي به قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} على ضوء التصور القرآني الذي لا يرى في الكفر مشكلة فكرية تعترض الكافرين لتبعدهم عن خط الإيمان، بل يرى فيها مشكلة ذاتيةً نفسيةً وأخلاقيةً مصدرها اللاّمبالاة، أو عقدة من الالتزام بالفكر الجديد... فليس بين الإنسان وبين الإيمان إلا أن يثير الاهتمام في نفسه بالحقيقة ويتخلص من العقدة الذاتية، لأن ذلك يحطم الحاجز الذي يفصله عن الإيمان، ويؤمّن له لقاء الحقيقة بطريقةٍ طبيعيةٍ.

* * *

لماذا كانت العبادة واجهة الرسالة؟

وقد يرد سؤال ثانٍ: لماذا اكتفى القرآن في حديثه عن رسالة نوحٍ بهذه الكلمة: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}؟ والجواب، إن معنى العبادة هو الخضوع لله والالتزام بالخط الإلهي الذي جاء به الرسل في ما يتعلق بإقامة العدل المرتكز على النظام التفصيلي الكامل الذي يضع لكل ذي حقّ حقه، ويثير الحياة في جوٍّ من الالتزام والانضباط بأوامر الله ونواهيه... وهذا ما يجعل من الدعوة إلى عبادة الله دعوةً إلى بناء الحياة على أساس إسلام الأمر لله في كل شيء، كما توحي بذلك الآية الكريمة التي تلخص الإيمان في كلمتين: {الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} [فصلت: 30]. في ما تمثله كلمة { رَبُّنَا اللَّهُ} من المنهج الفكري والعملي للالتزام، وفي ما تمثله كلمة {ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} من الحركة العملية في هذا الاتجاه.

وربما كان هذا الأسلوب من أفضل الأساليب في تقديم العقيدة بطريقةٍ موجزةٍ موحيةٍ، تحمل في داخلها معنى الشمول والامتداد، ليعيش الإنسان التصور الإيماني بعيداً عن المتاهات التفصيلية التحليلية التي قد تضيع عليه الكثير من حقائق الإيمان. {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. وهذا هو الأسلوب الإيماني في إثارة الشعور الذاتي بالخوف، من أجل تحويل ذلك إلى شعور بالاهتمام بالفكرة التي تقدم إليهم، ليناقشوها ويفكروا فيها من أجل الوصول إلى القناعات اليقينية الحاسمة في المسألة، لأن الإنسان لا يحس بالمسؤولية في اتخاذ المواقف الفكرية والعملية، إلا إذا خاف على حياته من النتائج السلبية التي يسببها الإهمال واللامبالاة. وفي ضوء ذلك، نفهم أن هذا التخويف لا يعتبر سبيلاً للضغط من أجل الإقناع، بل يتخذ وسيلةً من أجل إثارة الاهتمام بالفكرة، للوصول من خلال الحسابات الفكرية إلى القناعة.

ولا بد لنا أن نستعمل هذا الأسلوب القرآني في الدعوة إلى الله، بعيداً عن كل الأوهام التي تحاول الإيحاء بكونه أسلوباً لا ينسجم مع طبيعة الخط الفكري الذي يحترم في الإنسان إنسانيته، فلا يلجأ إلى ممارسة الضغوط عليه من أجل إقناعه بما لا يحس بضرورة الاقتناع به، فإن مثل هذا الأسلوب يؤكد إنسانية الإنسان، لأنه يسعى إلى تحريك طاقاته من خلال عناصر الإثارة الطبيعية في حياته في ما خلقه الله فيه من غرائز ذاتية، تساهم في إيصاله إلى غاياته من أقرب طريق.

* * *

نوح في مواجهة الملأ من قومه

{قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} كيف كان ردهم عليه، هل ناقشوه في طروحاته، هل وقفوا أمامه وقفةً هادئةً ليدافعوا عن عقيدتهم، ولينقضوا دعوته من موقع الفكر الهادىء؟ لم يحدث ذلك كله، بل كانت المواجهة مزيداً من السباب والشتائم، فقد قالوا له: إنك ـ في ما تدعو إليه ـ لا تمثل الإنسان العاقل الواعي الذي يعرف الأشياء من مواقعها الأصيلة، بل تمثل الإنسان الضائع الذي يتخبّط في متاهات الضلال فلا يميز بين الأمور، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ لم يكونوا يحملون مقياساً واضحاً للهدى والضلال يمكن دراسة الدعوة من خلاله، بالتالي فلا معنى لاتهاماتهم، إذ لا معنى لأن تتّهم إنساناً بالضلال، إذا لم تقدم له المعطيات التي تثبت خطأ الفكرة التي يسير فيها أو يدعو لها.

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} فأنا أنادي بالحقيقة الواضحة التي تحمل فكر التوحيد، ودعوة العبادة للإله الواحد، من موقع وضوح الرؤية للأشياء، في ما تفرضه من قناعةٍ مؤكّـدة وموقفٍ حاسم، فإذا كان لكـم شك في ذلـك، أو كنتم تعتبرون ذلك خطأً، فتعالوا نناقش المسألة، لنعرف من هو على هدىً ومن هو في ضلال مبين؟ أما أنا فمقتنعٌ بأن ليس بي ضلالة، في ما أحمله من فكرٍ، وما أسير به من طريق {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} في ما حمَّلني الله من وحيه وشريعته، وما أرادني إعلانه من دعوته؛ فلا بد لكم من الاستجابة لي، إذا كنتم تريدون الاستجابة لله رب العالمين. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} بكل أمانة، من غير زيادة ولا نقصان، فذلك هو دوري معكم، دور المبلّغ الأمين... ولكن دور الرسول ليس دور المبلّغ الحيادي الذي يكتفي بايصال الرسالة دون أن يتبناها، بل دور من يحملها بقناعة وقوة وإيمان، وهذا ما توحي به الكلمة التالية: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} باتِّباعها والسير على منهجها في الفكر والعلم لتحصلوا على سعادة الدنيا والآخرة. وقد يستوحي المتأمل من كلمة «النصح» الجوّ النفسي الحميم الذي كان يعيشه نوح تجاه قومه؛ فهو الإنسان الذي يتألم لانحرافهم وضلالهم، ويفكر في أفضل الطرق لإخراجهم من ذلك الضياع، فيقدم لهم النصيحة من كل روحه وقلبه؛ وتلك هي روحية الداعية في مواجهته للناس الذين يدعوهم إلى الله. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فقد أعطاني الله ـ من خلال وحيه ـ كثيراً من العلم في ما يجب على الناس أن يفعلوه، أو يحذروا منه، وما سيواجهون في مستقبل الدنيا والآخرة من خير أو شر على مستوى مصيرهم إذا أطاعوا أو عصوا... فاتبعونِ لتحصلوا على ذلك كله لتهتدوا به في ظلمات الطريق.

* * *

مشكلة الرسل والدعاة مع عماة البصيرة

{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؟! لماذا تأخذكم الدهشة أو يسيطر عليكم العجب من هذه الدعوة؟! من أين جاءتكم الفكرة التي تقول: إنَّ الرسول لا يمكن أن يكون انساناً مثلنا، بل يجب أن يكون من الملائكة، أو من عالم آخر؟! إنَّ الله خلق الناس كما يشاء، واختص بعضهم بصفات لم يعطها لآخرين، فما المانع من أن يختص بعض الناس برسالته، لأنه يرى فيهم من الخصائص الروحية والفكرية والعملية ما لا يراه في الآخرين؟! وإذا كان ذلك أمراً معقولاً، فيجب أن تفكروا بأن الله الذي يريد أن ينظِّم للناس حياتهم ويبين لهم سبيل هداهم، لا بد من أن يرسل رسولاً منهم لتحقيق هذا الهدف، لأنه لو كان الرسول من غيرهم، فسيقول الناس إنه من عالم آخر، ونحن لا نستطيع بلوغ ما يملكه أهل ذاك العالم من طاقة، ولا تدل تجربته في أي حقل على إمكان نجاحها كتجربة في حياة الناس، لأنه من الممكن أن تكون عناصر النجاح منطلقةً من الخصائص غير المحدودة لأهل ذلك العالم.

إنه استفهام للإنكار لا للمعرفة، إنه يريد أن يؤكد لهم الصفة والدور الذي تمثله، وهو الدعوة إلى التقوى من خلال الإنذار، من أجل أن يحصلوا على طاعة الله، فيحصلوا على الرحمة من خلال ذلك كله.

{فَكَذَّبُوهُ} ولم يلتفتوا إليه، وإلى كل معطيات الفكر الذي قدمه إليهم، بل كان دورهم دور التكذيب القائم على العقدة المستعصية. وقد حدثنا الله في آيات أخرى، أنهم كانوا يسخرون منه، وأنهم أصمّوا أسماعهم، وأغمضوا عيونهم، وجمّدوا عقولهم، ولاحقوه بحقدهم وبغيهم... {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} ليبدأوا المسيرة الإنسانية الجديدة، بروح حيّةٍ فاعلةٍ، وإرادةٍ مؤمنةٍ واعيةٍ {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَآ} بالطوفان الذي لم يترك موضعاً لهم إلا واقتحمه وأغرقه، حتى أعالي الجبال، ليغرقوا جميعاً. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}، فقد كانوا يعيشون في ظلمةٍ دامسةٍ من أطماعهم وشهواتهم، بحيث غطّت على رؤيتهم الواعية للأشياء. وهذا ما عبرت عنه الآية بالعمى المراد منه عمى الفكر والقلب والشعور لا عمى البصر. وتلك هي مشكلة الكفر والضلال في حياة الكافرين والضالّين، فهم لا يفتحون عقولهم على الحق، ولا يحركون أفكارهم في اتجاه معرفة الحقيقة... وتلك هي قصّتنا الطويلة في مسيرة الدعوة إلى الله.

ـــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:667.