تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 65 إلى الآية 72

 من الآية 65 الى الآية 72
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ* قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ* أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ* فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}(65ـ72).

* * *

معاني المفردات

{سَفَاهَةٍ}: خفة الحلم، قال مؤرج: السفاهة: الجنون بلغة حمير[1].

{بَسْطَةً}: طولاً وقوة.

{آلآءَ}َ: نِعَم.

{وَنَذَرَ}: نترك وندع.

{رِجْسٌ}: عذاب، وقيل الرجس: الرجز.

{دَابِرَ}: عقب، نسل، ذرية.

* * *

هود ـ بعد نوح ـ نبيٌّ لقومه

وهذه قصة نبيٍّ آخر أرسله الله إلى قومه ـ بعد نوح ـ وهو هودٌ الذي أرسل إلى قوم عاد، ونستوحي من آياتٍ أخرى، أن قوم عاد كانوا من العمالقة الذين يملكون أجساداً قويَّةً تمكّنهم من اقتلاع الصخور الثقيلة من الجبال العالية إلى الوديان السحيقة، ومن حمل الأثقال بشكلٍ يفوق العادة. وربما كان لهذه القوة غير العادية تأثيرٌ على الشعور الذاتيّ بالشخصية المستكبرة المتعالية. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} أي من عائلتهم. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}. إنها الدعوة نفسها التي أطلقها نوح، فهي امتداد للخط الرسالي الذي يعتبر توحيد الإله في العقيدة والعبادة أساس الفلاح والنجاح.

وقد نضيف إلى ما أسلفنا الحديث عنه، من التعليق على الدعوة إلى العبادة لا إلى الإيمان، أن هؤلاء القوم ربما كانوا من المؤمنين بالله، ولكنهم كانوا يشركون بعبادته غيره؛ فكانت الرسالة هي هدايتهم لتوحيد العبادة. ونلاحظ أن هوداً لم يتحدّث عن العذاب في مقام الدعوة، بل تحدث عن التقوى في إلحاحٍ إنكاريّ لابتعادهم عنها. وقد يكون ذلك أسلوباً يستهدف التخويف بطريقة أخرى، وذلك من خلال الإيحاء بالقوة المطلقة لله الذي لا إله غيره، مما يدفع بالإنسان إلى الشعور بالرهبة أمامه خوفاً من عقابه، ويدفعه إلى الالتزام بأوامره ونواهيه.

* * *

العقل في مواجهة الانفعال الطائش

{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}، لأنك لا تتكلم كلام الراشدين الذين يزنون كلامهم بميزان العقل، ويتصرّفون بالطريقة التي لا يسيئون بها إلى أنفسهم وإلى من حولهم، فأنت تواجه عقيدة الناس التي درج عليها الآباء، وتتمرّد على تقاليدهم، وتثير الجوّ الهادىء بأفكارٍ غريبةٍ تحوّل هدوءهم إلى عنف، وتصيب علاقاتهم الوثيقة بالتصدُّع والتمزُّق، وذلك ما توحي به كلمة «السفاهة» عندما يرمي بها إنسان إنساناً.

وربما يسمع الكثيرون من دعاة التغيير في كل مجتمع مثل هذه الكلمة، إذا كان هؤلاء الأشخاص لا يمثلون وزناً اجتماعياً كبيراً في حياة الناس. {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}. لم يقولوا له إنك من الكاذبين، لأنهم لا يملكون أساساً في الجزم بكذبه، أو لأنهم يريدون تخفيف التهمة ليصوروا أنفسهم بصورة من لا يريد إلقاء الكلام جزافاً، بل يعملون على إعطاء القضية دور المسألـــة الأكثر رجحاناً. ويبقى الأسلــوب أسلوب اللاّمناقشة في أصل الفكرة، ولا تفكير في الموضوع، بل هو الكلام الانفعاليّ الذي ينفس عن العقدة بدل أن يواجهها بهدوء.

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ}، لأن للسفاهة مقاييس وعلامات تخضع للاهتزاز في الفكرة أو في الشخصية، فماذا وجدتم في أفكاري من ضعفٍ، وماذا اكتشفتم في شخصيتي من اهتزاز؟ هل ناقشتم طريقتي في الدعوة، ومنهجي في الفكر، وأسلوبي في العمل؟ وهل درستم هذه الطروحات التي أطرحها عليكم في آفاق الإيمان؟ إنكم لم تفعلوا ذلك كله، فكيف تحكمون بغير علم؟! لقد قالها هذا النبي بكل روحٍ هادئةٍ عقلانيةٍ، توحي بأننا إذا كنّا نتحرك في أجواء الدعوة إلى الله، فإن علينا أن نواجه أسلوب السباب والاتهام الّلامسؤول، بالأسلوب الهادىء الذي يعمل على إثارة التفكير في عقول هؤلاء الشاتمين والمتهمين، فإن ذلك قد يتحول إلى صدمةٍ عقلانيةٍ تقودهم إلى الموضوعية في حكمهم على الأشياء والأشخاص.

* * *

دور الرسول النصح لأمّته دوماً

وهذا ما يحاوله الدعاة إلى الله، الأدلاّء على سبيله، الذين لا يشعرون بأنهم يتحركون من مواقع ذاتية في مواجهة ردود الفعل السلبية القاسية، بل يتحركون من موقعٍ رساليٍّ ينتظر تحطيم مقاومة هؤلاء الضالّين، بالإصرار على الموقف الهادىء الكفيل بدفع الضالّين إلى احترام الفكرة الهادئة التي يطرحها الرسل من خلال احترامهم للعقل الهادىء الذي يوحي به الموقف الرسالي الواعي، الذي تمثَّل في موقف هود كنموذج حيٍّ رائد، عندما قال: {لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ *أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} وذلك هو دور الرسول في رسالته، أن يكون ناصحاً لأمته في حاضرها ومستقبلها، أميناً على الحقيقة التي تفتح قلوب الناس على الله، وعلى الحياة الكريمة من خلاله، وعلى الرسالة التي يحملها بصدق، ويبلِّغها بوعيٍ وإيمان وقوة، وذلك هو دور كل داعيةٍ إلى الله في حركته الرسالية في حياة الناس، أن يعيش معهم بروحيّة الإنسان الذي ينصح لله في خلقه، ويكون أميناً على كل أوضاعهم العامة والخاصة على كل صعيد، وأن يجسِّد ذلك كله في أقواله وأفعاله.

{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} فما وجه العجب في ذلك؟ هل هناك ما يمنع أن يكون الرسول بشراً؟ {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} فأورثكم الله أرضهم وديارهم. {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} بما وهبكم من طول القامة، وقوة الجسد والعضلات... {فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ} ونعماءه وعظمته {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } من خلال هذه الذكرى التي تفتح قلوبكم على الله، وتوحي لكم بكل خيرٍ ورحمة وإيمانٍ. إنه يستثير فيهم العناصر الطيَّبة الأصيلة التي يمكن أن تجعل منهم أناساً طيبين، تنفتح أفكارهم للمعرفة، وتنبض قلوبهم بالرحمة، وتعيش حياتهم للمسؤولية، وتتحرك خطواتهم في اتجاه الله...

* * *

منطق التوحيد في مواجهة منطق الشرك

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا}؟ ما معنى هذه الدعوة التي جئتنا بها؟! إن معناها أن نتنكر لقدسيّة تاريخ الاباء، في ما يعتقدون ويمارسون من طقوس وعادات... وتلك قضية تهدّم البناء الاجتماعي للعشيرة القائم على أساس حرمة التاريخ. فلا بدّ من عبادة هذه الأصنام لتقرِّبنا إلى الله زلفى، ولتجعل من حياتنا امتداداً لحياة الأجداد، وهذا ما يجعل المسألة لا تحتاج إلى بحثٍ أو مناقشة أو تعديل... فإذا كنت مصرّاً على دعوتك الهدامة {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فلن نتبعك في شيء مما تقوله أو تدعو إليه، فليس بيننا وبينك إلا المواجهة في ساحة الصراع. {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} الرجس هو الخبث والقذر؛ وربما كان هذا كنايةً عمّا يوقعه الله عليهم من العذاب المتمثل بما يلقيه عليهم من مظاهر العقاب الدنيويّ، الذي يؤثِّر سلبياً على نفس الإنسان، تماماً كما هو القذر الذي يصيب الجسد. أمَّا الغضب، فهو سخط الله المستتبع لعذاب النار، فقد حقَّ عليكم القول بعد أن أقام الله عليكم الحجة، وتمردتم عليها. {أَتُجَادِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤكُمُ}؟ ماذا تمثل هذه الأصنام غير ما تمثله الأشياء التي صنعتموها منها، من الحجر والخشب والنحاس؟ ماذا لديها من معاني الحياة والعلم والقدرة والخلق التي لا بد من توفرها في ذات الإله؟ ليس لها أية ميزةٍ إلهيةٍ أو غير إلهية، سوى أنكم أطلقتم عليها أو أطلق عليها آباؤكم أسماءً، وتحوّلت الأسماء إلى حقائق نفسيةٍ وعباديةٍ واجتماعيةٍ، يجادل فيها المجادلون ويتخاصم فيها المتخاصمون، فإذا أردتم الجدال المنتج، فجادلوا بالأشياء التي تحمل معنى حقيقياً في ذاتها وتأثيرها في الواقع، لا في هذه الأشياء التي صنعتموها بأيديكم ومنحتموها صفة الألوهية التي {مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} من عقلٍ أو شرعٍ، فهي لا تمثل أيّة حقيقةٍ مقبولةٍ في أي مجالٍ.

* * *

نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين

{فَانتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} فليست مسألة العذاب الذي أنذرتكم به، مما أملك أمر تنفيذه، لأواجه التحدّي الذي طرحتموه علي، لأنني لا أملك قوةً ذاتيةً في حجم القضايا الكونيّة، في ما ينزل من عذابٍ على الكافرين مما يخرج عن القوانين العادية للحياة، فذلك مما اختصّ به الله، فهو القادر على أن يرسل عذابه، بالقدرة نفسها التي يرسل بها رحمته. وما دام الله قد توعدكم بالعذاب، فانتظروا عذابه الذي سيأتيكم، إن عاجلاً أو آجلاً؛ إني منتظر ذلك معكم، لأن لي الثقة المطلقة برسالات ربي في وعده ووعيده. وجاء العذاب لهؤلاء المتمرّدين، فأهلكهم الله وأبادهم فلم يبق منهم أحد. أمّا هود والذين معه، فقد أنجاهم الله برحمته، لأنهم كانوا في مستوى المسؤولية في إيمانهم بالله، وطاعتهم له، وصمودهم أمام كل التحديات في سبيل الله... وذلك هو قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَـهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَايَـتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} فلا مجال لأن تنالهم رحمة الله، لأنهم لم يتعلقوا من رحمته بشيء مما أراد لهم من موقف الإيمان.

ــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:672.