من الآية 73 الى الآية 79
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرضِ مُفْسِدِينَ* قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ* فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}(73ـ79).
* * *
معاني المفردات
{بَيِّنَةٌ}: علامة فاصلة بين الحق والباطل من جهة شهادتها به.
{وَبَوَّأَكُمْ}: أنزلكم ومكّنكم من المنازل.
{تَعْثَوْاْ}: تفسدوا وتتجاوزوا الحدّ.
{فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ}: نحروها.
{وَعَتَوْاْ}: تمرداً وتجاوزاً للحد في الفساد.
{الرَّجْفَةُ}: من الرجف، وهو الحركة والاضطراب.
{جَاثِمِينَ}: الجثوم: البروك على الركبة، والمراد به هنا الهلاك.
* * *
حديث عن قصة صالح مع قومه ثمود
في هذه الآيات حديث عن قصة صالح التي كرّرها القرآن في أكثر من سورة، تبعاً للدور الذي يمكن أن تقدّمه للقضايا الرسالية العملية التي يطرحها للناس في آياته. وهو نبيٌّ أرسله الله إلى قومه الذين جاءوا من بعد عاد، ليعالج مشاكلهم الإيمانية والحياتية، فيدعوهم إلى السير في خط الإيمان بالله، والالتزام بأوامره ونواهيه... وإذا كان لا بد لكل نبيٍّ من معجزةٍ للتحدي أو للضغط على القوة المعادية الضاغطة، فقد كانت معجزته أنه أخرج لهم ناقة عجائبية، تسقي القوم عن آخرهم، ولكنها كانت تشرب الماء كله، ولذلك فقد جعل لهم يوماً يشربون فيه، لا تشاركهم فيه الناقة، ويوماً تشرب فيه الناقة ولا يشاركونها فيه، لأن هذا الماء يتحوّل إلى حليبٍ بقدرة الله. فضاقوا ذرعاً بذلك، بعد أن تدخّل المستكبرون بإثارة السلبية ضد هذا التوزيع الإلهي، فتآمروا على قتل الناقة، وأوعزوا إلى شخصٍ منهم فعقرها وقتلها؛ فحمّلهم الله مسؤولية ذلك فعاقبهم جميعاً، لأن ما يجمع الناس الرضا والسخط، كما قال الإمام علي(ع) في بعض كلماته: «وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمَّوه بالرضا فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ}»[1] [الشعراء:157]. هذه هي خلاصة القصّة، فكيف نتابع خطواتها في هذه الآيات؟
* * *
الخط الواحد لرسالة الأنبياء
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}. وذلك هو الخط الواحد لرسالة الأنبياء في دعوتهم الناس إلى عبادة الله الواحد، كمنهج للفكر وللعمل وللحياة كلها… {قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} توضح لكم قدرة الله في خلقه، وتؤكّد لكم صدق الرسول في رسالته، {هَـذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} ومعجزةً خارجةً عن مألوف ما اعتدتموه من النوق التي تعرفونها، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}، فهي لا تكلّفكم أيّة مؤونةٍ ٍمن غذاءٍ وغيره، فامنحوها الحرية في التجوّل في أرض الله لتأكل منها ما تشاء، {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ}، ولا تعتدوا عليها بضرب أو جراحة أو قتل.. {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، لأن الاعتداء عليها يعني التمرد على الله والتحدي لنواهيه. ثم بدأ يحدثهم عن نعم الله التي أفاضها عليهم، وكيف سهل لهم الأمور ومهّد لهم الأسباب: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} وأسكنكم فيها، ومهّد لكم كل الوسائل التي تجعل من إقامتكم فيها فرصةً طيّبةً مريحةً في ما منحكم من القوة والغنى، {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ}، لتكون الذكرى أساساً للتفكير العملي الواعي الذي يدفعكم للسير في نهجه القويم وخطّه المستقيم، كتعبير عن شكره. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرضِ مُفْسِدِينَ} ولا تتحركوا في الأرض بخطط الفساد والإفساد التي تسيء إلى حياة الناس وأمورهم العامة والخاصة، لأن الله يريد للإنسان أن يستعمل الطاقات التي أودعها فيه، أو سخرها له، وأن يحركها في إصلاح الحياة على الأسس التي أراد أن ترتكز عليها. فمن ينحرف عن هذا الخط، يعرّض نفسه لعذاب الله. وربما كان من الطبيعي أن يستوحوا تخطيطهم لحركة الإصلاح من تعاليم الله وما أوحى به لرسله، لأنها تمثل المنهج الأقوم في هذا الاتجاه.
* * *
المستضعفون يؤمنون بالنبي صالح(ع)
وكان في قومه مستضعفون ومستكبرون، فاستجاب له المستضعفون، لأنهم رأوا في دعوته الحقيقة الصافية التي كانوا يبحثون عنها، والروح الحرّة التي تنقذهم من عبوديتهم لضغوط المستكبرين، والإرادة القوية التي تمنحهم قوة الرفض لحالة الاستضعاف التي يفرضها عليهم الأقوياء... وهكذا آمنوا به وساروا معه. أما المستكبرون، فقد واجهوه بالتكذيب والكفر والتمرُّد من موقع الاستعـلاء، لأنهم رأوا في هذه الدعوة نسفاً لامتيازاتهم الاستكبارية، لأنها تدعو للمساواة بين الناس، باعتبارهم متساوين في عبوديتهم لله، وفي إنسانيتهم وفي خصائصها البشرية، بعيداً عن امتيازات الغنى والقوة والنسب والجاه، فتلك أمورٌ لا تعتبر قيمةً كبيرةً في حساب الإيمان، بل القيمة الكبيرة هي للتقوى وللعمل الصالح المنتج، على مستوى قضايا الحياة.
وهكذا وقفوا في وجه هذه الدعوة، ولكنهم كانوا يشعرون بالرعب والذعر من خلال تنامي قوة صالح(ع) في أوساط الفئات المحرومة الفقيرة من المستضعفين، مما قد يترك أثراً سلبياً على مستوى امتيازاتهم وسلطاتهم المستقبلية، باعتبار أن المستضعفين يمثّلون القوّة الحقيقية التي تدعم كل أوضاعهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، فإذا انفصلوا عنهم واتّبعوا النبي الجديد، فمعنى ذلك أن القوّة ستنتقل إلى موقعٍ آخر، مما يجعلهم في موقف الضعف والنبي في موقف القوّة، ولذلك فقد حاولوا إثارة حالة من التشكيك عند المستضعفين المؤمنين ليقودوهم ـ بعد ذلك ـ إلى التمرد والكفر..
{قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ}؟!.. في لهجة الإنكار والاستغراب، كمن يقول لصاحبه: هل تصدق مثل هذا القول، أم أنك تمزح، أم أنك تنطلق في إقرارك من موقع المصلحة والطمع؟! ليقوده إلى التراجع طلباً لاحترامه، لأن من لا يملكون قوة الشخصية، يستعيرون ثقتهم بأنفسهم من رضا الآخرين عنهم، فإذا شعروا بأي نوعٍ من أنواع الاهتزاز في ثقة الناس بهم، لعدم رضاهم عن بعض أفكارهم أو مواقفهم أو تطلعاتهم، انكمشوا في داخل ذواتهم، وحاولوا استعادة ما فقدوه بالالتزام بما لا يؤمنون به، لمجرد أن الناس الكبار يؤمنون به، ويستريحون له. ولكن المستضعفين ـ الذين استطاعوا أن يحصلوا على قوّة الشخصيّة من خلال إيمانهم الجديد ـ واجهوا هذا الأسلوب بموقفٍ قويٍّ حاسم، يؤكد الوقفة الإيمانية كما لو كانت شيئاً لا يقبل التراجع مهما كلف الأمر؛ {قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} على أساس الوعي للرسالة، والإيمان بالفكرة، والقناعة بخط التحرك... وهذا لا يجعل من القضية شأناً ذاتياً خاضعاً للتغيير والتبديل على أساس حسابات الربح والخسارة، أو موازين القوة والضعف، لأنها قضية حقٍ وإيمانٍ وصدق... {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كافِرُونَ} في عملية تأكيدٍ للكفر، من أجل خلق حالةٍ نفسيةٍ ضاغطةٍ، تهز موقف المستضعفين أو تردُّ جانب التحدّي منهم بمثله. ولم تنفعهم تلك الأساليب في حربهم النفسية ضد المؤمنين شيئاً، ولم يكن لهم منطقٌ معقولٌ يمكن أن يعتمدوه كأساسٍ للمواجهة الفكرية في عملية ربح الموقف، فلجأوا إلى القوة، ولكنهم لم يستطيعوا مواجهة صالح والمؤمنين معه، فعمدوا إلى الناقة الضعيفة التي لا تملك أن تدافع عن نفسها {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} في حالةٍ من الطغيان، ووقفوا أمام صالح وقفة من يتحدى الإنذار بالعذاب؛ {وَقَالُواْ يَا صالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذين يرتبطون بالله بعلاقةٍ وثيقةٍ، تتيح لهم أن يستنزلوا العذاب على معانديهم. وكان ردّ التحدي حازماً وسريعاً، {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} واهتزت بهم الأرض. وكان الزلزال الذي ارتجفوا به، {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، لا يستطيعون الوقوف والتحرك من مكانهم بفعل الموت. فماذا كان رد فعل صالح، وهو يرى فعل الله بهم؛ هل كان موقف شماتة وحقد؟ إن الأنبياء لا يشمتون، وأصحاب الرسالات لا يحقدون، لأن قلوبهم مملوءة بالمحبة والرحمة، وأرواحهم منطلقة بالخير والرأفة... {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أعرض عنهم وابتعد عن هذا المنظر الأليم؛ { وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} بكل ما فيها من حقٍّ وعدلٍ وخيرٍ وصلاحٍ، بكل تفاصيلها {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} بالسير في خط الرسالة لتبلغوا مداها الأخير، وهو الجنة في الدار الآخرة بالإضافة إلى سعادة الدنيا... {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.. ولا تطيعونهم في ما يريدون أن يدلوكم على منابع الحب والخير والرحمة... وهكذا أسدل الستار على هذه القصة، لتبدأ قصة رسالية جديدة.
ـــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، ص:233، خطبة:201.
تفسير القرآن