من الآية 80 الى الآية 84
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ* وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ* وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(80ـ84).
* * *
معاني المفردات
{شَهْوَةً}: مطالبة النفس بفعل ما فيه اللذة.
{مُّسْرِفُونَ}: الإسراف: الخروج عن حدّ الحق إلى الفساد.
{الْغَابِرِينَ}: الماضين من القوم.
* * *
لوط في مواجهة شذوذ قومه الجنسي
وهذا نبيٌّ آخر من الأنبياء «المحليين»، أرسله الله من خلال إبراهيم(ع) ـ في ما يستفاد من بعض آيات القرآن ـ وذلك من أجل هدايتهم إلى الله، في خط الإيمان بشكلٍ عام، مع التأكيد على محاربة الفاحشة، المتمثلة بالشذوذ الجنسي المذكّر المعبر عنه باللواط نسبة إلى قوم لوط، إذ كانوا على ما يبدو أوّل ناس مارسوا هذا العمل الشاذ. وعاش هذا النبي معهم مدّةً من الزمن، يدعوهم إلى الله وإلى الابتعاد عن هذه الممارسات القبيحة... فلم يستجيبوا له، بل كانوا يواجهونه بالتحدي، استضعافاً لموقفه؛ حتى أنزل الله عليهم العذاب في الدنيا، وأنجى لوطاً ومن معه، ما عدا امرأته.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} فقد بدأ تاريخ هذا الشذوذ بهم. والاستفهام هنا للإنكار في مقام الردع. {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ} فتنحرفون بذلك عن العلاقة الجنسية الطبيعية ما بين الرجال والنساء، وهي الوضع الطبيعي الذي تؤدي فيه الغريزة الجنسية دورها في عملية التناسل وحفظ النوع من جهة، وتلتحم ضمنه الجوانب الروحية الإنسانية بالجوانب المادية في نفس عملية الممارسة من جهة أخرى؛ بينما يضرب الشذوذ وظيفة الغريزة الجنسية الأساس، ويمثل، بالإضافة إلى ذلك ، حالةً مَرَضيّةً يقوم فيها الذكر بدور الأنثى نتيجة عقدة نفسية وانحراف مرضي.. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} فقد تجاوزتم الحدود الطبيعية للعلاقات الإنسانية، وانحرفتم عن الخطّ السليم، ولكن قومه كانوا قد أدمنوا هذه العادة، وأصبحت طابعاً مميزاً لحياتهم. وربما انطلق هذا الإسراف في أكثر من جانب من جوانب حياتهم، كنتيجةٍ طبيعيةٍ لعدم التزامهم بالخط الرسالي الذي تمثله رسالة لوط. {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ} سادّين بذلك مجالات الحوار، لأنهم ليسوا مستعدين للتنازل عن عاداتهم، كما أن لوطاً غير مستعد للتراجع عن دعوته، ولذلك فإن الموقف لا يحتمل التسويات.
* * *
المجتمعات المنحرفة ترفض دعوة التطهّر
وقد عبّر قوم لوط عن هذه العقليّة من جانبهم في رفضهم للطهارة الأخلاقية التي تدعو إليها الرسالات، بما وصفوا به آل لوط، كتبريرٍ للدعوة لإخراجهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، فيقفون ضد أساليب القذارة في الحياة، ليثيروا في مجتمعنا سلبيات هذه الأساليب، فيخلقوا له عقدةً في ممارساته؛ ليتحول ذلك إلى حالةٍ رافضةٍ مستقبليةٍ في الأجيال الجديدة التي قد تتقبل مثل هذه الدعوات، لما تثيره في الإنسان من دوافع الفطرة. وربما كان هذا الأسلوب في الرد السلبي على دعوة التطهر، هو أسلوب المجتمعات المنحرفة التي تعتبر وجود الفئات الخيّرة، وما تثيره في المجتمع من معاني الخير والصلاح، تحدياً صامتاً لكل طروحاتهم وأوضاعهم، وهذا ما يجعلهم لا يطيقون التعايش معهم في بلدهم ـ حتى لو كانوا صامتين ـ لأنهم يخافون منهم على أنفسهم، قبل أن يخافوا منهم على غيرهم، لأن النفس قد تستيقظ على نوازع الخير في بعض حالاتها الطيّبة الهادئة، فتنجذب لا شعورياً إلى ما تدعوها إليه، وقد يتأكد هذا الاتجاه كلما تكرّرت الدعوة، أو حدثت الأجواء الملائمة لذلك... ولهذا يتحوّل ردُّ الفعل إلى مواجهةٍ عنيفةٍ بالتهديد بطردهم وقتلهم، وممارسة كل الأساليب السلبية ضدّهم، بعيداً عن كل حوارٍ أو لقاءٍ للحوار.
* * *
هلاك قوم لوط بانحرافهم
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} بعد أن قام برسالته كما يريد الله منه ذلك، وتحمّل في سبيلها الكثير من الجهد والمشقّة والعناء، {إِلاَّ امْرَأَتَهُ} التي كانت تتآمر مع قومها على لوط، وتتفق معهم في النهج والتفكير والعمل... فقد عاقبها الله نفسه بالعقاب الذي أنزله بهم، {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}، من البائدين الهالكين، في ما توحي به كلمة «الغابرين» من معنى الموت على سبيل الكناية {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} من نوع آخر، فقد كان ينزل عليهم الحصى المزوّد بطاقةٍ خاصةٍ قاتلة. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} الذين أجرموا في حقّ أنفسهم وفي حركة الحياة، فاعتبر بذلك ـ أيها الإنسان المؤمن ـ في ما تريد أن تقدم عليه من عملٍ في الخطّ الذي تلتقي فيه الرسالات، سلباً أو إيجاباً، لتحدِّد موقفك.
تفسير القرآن