تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 85 إلى الآية 93

 من الآية 85 الى الآية 93
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ* وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ* وَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا َقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَفِرِينَ}(85ـ93).

* * *

معاني المفردات

{فَأَوْفُواْ}: الإيفاء: إتمام الشيء إلى حدّ الحق فيه.

{الْكَيْلَ}: تقدير الشيء بالمكيال حتى يظهر مقداره.

{وَالْمِيزَانَ}: تقدير الشيء بالميزان.

{وَلاَ تَبْخَسُواْ}: البخس: النقص عن الحدّ الذي يوجبه الحق.

{تُفْسِدُواْ}: الإفساد: إخراج الشيء إلى حدٍّ لا يُنتفع به بدلاً من حال يُنتفع بها. وضدّه الإصلاح.

{وَتَصُدُّونَ}: تصرفون عن الفعل بالإغواء فيه. يقال: صدّه عن الأمر: منعه.

{طَآئِفَةٌ}: جماعة من الناس.

{مِلَّتِنَا}: طائفتنا.

{افْتَرَيْنَا}: الافتراء مشتق من فري الأديم، وهو مثل الاختلاف والافتعال.

{لَّمْ يَغْنَوْاْ}: غني بالمكان: أقام فيه وكأنه استغنى بذلك المكان عن غيره.

{ءَاسَى}: أحزن كثيراً.

* * *

شعيب وقومه

وهذا نبيٌّ آخر أرسله الله إلى قومه لهدايتهم ومعالجة بعض الانحرافات الاقتصادية في تجارتهم مع الناس، التي كانت تتمثل بالتطفيف في المكيال والميزان، فيأخذون لأنفسهم ما يستحقّونه، ويعطون الناس أقل مما يستحقون. وننفتح في قصة شعيب وحواره مع قومه على موقفٍ أكثر قوةً من موقف لوط، فقد كانت لشعيب عشيرةٌ قويةٌ يُحسب لها حساب، وهذا ما جعل أسلوبه ـ في خطابه لقومه ـ يتّصف بالقوّة التي لا تبتعد عن الجوّ الرسالي الوديع الذي يحاول ـ من خلاله ـ أن يجرّهم إلى دعوته بالأسلوب الهادىء الليِّن. ونلاحظ ـ في هذا الحوار ـ أنه استطاع أن يجلب إلى دعوته الجماعات المضطهدة والمستضعفة من قومه، ليواجه الجماعات الغنيّة المستكبرة. وربما يكون هذا منطلقاً من طبيعة الدعوة التي دعا إليها، والمفاهيم التي بشر بها؛ فإن التطفيف نوع من أنواع الاستغلال الاقتصادي الذي يتميّز به الأغنياء المستكبرون، حيث يعيشون مشاعر الأنانية وسلوكها، ممّا يجعلهم يفكّرون بالاستغلال عندما يشترون فيأخذون الزيادة لأنفسهم، ويفكّرون به عندما يبيعون، فيستغلون حاجة الآخرين إليهم لينقصوا من حقّهم بما يشاؤون.

ونحاول الآن الدخول في أجواء هذا الحوار القصصي القرآني، لنتمثل حركة الرسالة في حياة هذا النبي المصلح مع خصوم الرسالة والرسول.

* * *

الحق والإصلاح هما أساس كل خير

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} فذلك هو السبيل لاستقامة المنهج في الحياة وارتكازه على قاعدةٍ ثابتةٍ في النفس وفي الحياة. {قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} في ما أوضحه الله لكم من دلائل قدرته ومظاهر عظمته وصدق رسوله، {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} واجعلوه تاماً من دون زيادةٍ ولا نقصان، {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} فتنقصوهم حقّهم وتحرموهم منه، {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} فقد أرادها الله ساحةً للتوازن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على كل صعيدٍ، بما يجعل من الإخلال به إفساداً للأرض، بعد أن أصلحها الله في الخط التكويني للوجود، وفي الخطّ الفكري للعقيدة والتشريع، وهذا ما يؤكّد شموليّة التخطيط الإلهي لحركة الإنسان في الحياة منذ القِدَم في ما يتطلّع إليه الدين من إقامة الكون على أساس الإصلاح في كل شيء {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}، فإن ذلك هو سبيل الفلاح في الدنيا، لأنه يصلح أمر الفرد والمجتمع في القضايا العامة والخاصة، وفي الآخرة، لأنه يؤدّي إلى الحصول على رضا الله في نطاق السير على الخط الإيماني الذي يضمن ذلك كله.

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} فقد كانوا يرصدون المؤمنين ويراقبونهم في كل طريق من طرق الاستقامة التي ينطلقون فيها على أساس الخط الفكري والعملي للإيمان، ليتوعّدوهم ويتهدّدوهم فيسدُّوا عليهم كل الأبواب والمنافذ، ليعطلوا مسيرتهم ويجمّدوا انطلاقتهم، من خلال الضغوط المتنوّعة التي تمنع المؤمنين من ممارسة حريتهم في الفكر والعمل... وهذا ما أراد شعيب أن يحذّر منه، فيهيب بقومه أن لا يحرموا المؤمنين من حريتهم، كما لا يريدون هم أن يحرمهم الآخرون من هذه الحرية، وأن لا ينحرفوا بالطريق عن الخط المستقيم، لتتحرك في الاتجاه المعوج، لأن ذلك يبعدهم عن الاتجاه السليم الذي ينقذ حياتهم وحياة الآخرين.

* * *

شعيب في موقع التذكير والتحذير لقومه

{وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} في ما أفاض الله عليكم من نعمه، حيث جعل منكم قوةً بعد أن كنتم في مواقع الضعف، من خلال موازين الكثرة والقلة، فقد تنفع الذكرى، فتوحي إليكم بأن الذي أعطاكم نعمة القوة بالكثرة، قادرٌ على أن يسلبكم ذلك بالقلّة، فلا بد من شكر هذه النعمة، بالسير على ما يريده الله منكم.

{وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} الذين استغلّوا نعم الله في إفساد البلاد والعباد، فأهلكهم الله بذنوبهم بعد أن ظنوا أن الحياة قد فتحت لهم ذراعيها، ومنحتهم كل شيء، واغتروا بكثرتهم وقوّتهم، ولكن قضايا المصير ترتبط بنهايات الأمور لا ببداياتها... فانظروا كيف كانت عاقبتهم السيئة، وكيف تحوّل كل ذلك الجوّ المملوء بالكبرياء والخيلاء إلى جوّ مليءٍ بالحقارة والذلّة والبلاء...

* * *

الأساليب السلبية لا تحل الخلافات الفكرية

{وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ} ولا تتعقّدوا، ولا تتحركوا في أجواء العداوة والبغضاء، لتخلقوا من واقع الخلاف الفكري مشكلةً اجتماعيةً في مستوى الخصام والقتال، فذلك هو الوضع الطبيعيُّ للحياة الإنسانية، في ما يطرح عليها من أفكار، فيختلف الناس فيها بين مؤيّدٍ ورافضٍ. ولا بدَّ لهم من الصبر على نوازعهم الذاتية كلها، ليجعلوا من اختلافهم أساساً لإغناء الفكر وتنمية التجربة، عندما تتحوّل الخلافات إلى حركةٍ فكرية من أجل الحوار، وإلى تحريك للخطوات المسؤولة من أجل الوحدة أو التقارب على أساس التفاهم المشترك، ومن أجل المصير الواحد، في حين أن اللجوء إلى الأساليب السلبيّة العنيفة لا يحل لهم مشكلة الفكر بل يعقِّدها، لأنه يغلق على الفكر أبواب الانطلاق إلى الآفاق البعيدة، ويعطّل حركته عن التأمّل والتعمُّق في هذه القضايا المتنوّعة، ويحوّله إلى طاقةٍ جامدةٍ لا تعطي شيئاً، ولا تساهم في الوصول إلى حلّ.

وإذا كانت هذه الأساليب لا تحلّ للفكر مشكلته، فإنها لا تكتفي بذلك، بل تضيف للناس مشاكل جديدة، على مستوى الحياة العامة والخاصة، وهكذا تتنامى روح الحقد والبغضاء، لتكون النتيجة مزيداً من الدمار والهلاك والفساد... وهذا ما جعل الأنبياء يبادرون إلى طرح الأساليب الهادئة العاقلة الموحية في حل النزاعات والخلافات الفكرية والحياتيــة، ويوجهون الناس إلى اعتماد الصبر كطاقةٍ إنسانيةٍ تمنح الإنسان القوّة للتغلُّب على العوامل السلبية الداخلية التي تثيرها النوازع الذاتية، ليستطيع ـ بذلك ـ النظر إلى الأمور بموضوعيّةٍ ووضوح، فيعرف طبيعة المشكلة من خلال عناصرها الحقيقية؛ ليواجه مسألة الحل بعقلٍ منفتحٍ مستنيرٍ. ولهذا كان شعيب يطلب من قومه التحلي بالصبر على هذا الاختلاف في المواقف ما بين الإيمان بالرسالة والكفر بها. {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} في الدنيا، بما يظهره من الحق لنا في ما نعتقده وندعو إليه من خلال ما نخوضه معكم من أساليب الحوار إذا وافقتم على الدخول معنا في أجواء الحوار، وفي الآخرة حين يقوم الناس لرب العالمين حيث يُعرَفُ المحقّ من المبطل، والمصيب من المخطىء... ويحكم الله بذلك وهو خير الحاكمين.

* * *

منطق الاستعلاء في مواجهة منطق العقل والحوار

{قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} إنه المنطق الذي لا يحاور ولا يناقش، لأنه لا يملك أدوات الحوار وروحيته، بل يملك أدوات القوة، فهو يتهدّد ويتوعّد، فليس هناك مجالٌ للتفاهم، لأن التفاهم يهزم المبطلين الذين لا يملكون حجّةً، ولا يرجعون في قناعاتهم إلى أساسٍ، وبذلك فإنهم يعيشون الشعور بالضعف أمام دعوة الحوار والتفاهم، فيحاولون تغطية ذلك بأساليب التهديد والوعيد. {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} هل القضية قضيّة إكراهٍ وإجبارٍ؟ إن الإنسان قد ينجح في إجبار إنسان آخر على عملٍ ما أو علاقةٍ ما بالقوة، بامتلاكه لوسائل الضغط المادي التي تمكنه من ذلك، ولكنه لن ينجح في إكراهه على أن يعتقد بما لا يقتنع به، لأنّ العقيدة لا تخضع لإكراه وإجبارٍ. وهذا ما يدفعنا إلى الإعلان بأننا نكره هذا الاتجاه الذي تنطلقون فيه، ولا نؤمن بشيءٍ من طروحاته...

* * *

ثبات شعيب في مواجهة قومه

{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} إننا لا نجد في ملّتكم أساساً من الحقّ، سواءٌ في عبادتكم للأصنام، أو في صدّكم عن سبيل الله، أو في إظهاركم الفساد في الأرض، أو في انحرافكم عن العدل في علاقاتكم ومعاملاتكم... وقد نجانا الله منها بما هدانا لدينه، وبما عرّفنا من ضلال ما خالفه ومن خالفه؛ فكيف نرجع إلى خط الضلال، وهل هذا إلا الافتراء على الله بالكذب؛ بأن ننسب إليه ما تنسبونه إليه من شركاء دون علم ولا هدى ولا كتاب مبين. {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ} وكيف يعود إلى الظلام من عاش إشراقة النور في قلبه وفي وجدانه؟! إننا لن نعود مهما كانت الضغوط والتحديات، ومهما كانت الأوضاع السلبية المحيطة بنا. {إِلاَ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أن نعود فيها ولن يشاء الله لنا ذلك، لأنه لا يمكن أن يأمر عباده بالضلال إذا كانت المشيئة بالاختيار، ولا يجبرهم عليه، إذا كانت المشيئة بالقهر، ولكنه أسلوب التأدّب مع الله بإظهار الاستسلام له والخضوع لمشيئته.

{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فهو يعلم سرّنا وعلانيتنا، وإخلاصنا له، وجهدنا في سبيله، كما يعلم طغيانكم وتمرّدكم وظلمكم لنا... {عَلَى اللَّهِ} فهو مصدر القوّة، ومنه قوة كل شيء، ولا يملك معه أحد أي شيءٍ من القوّة. ونحن نتوكل عليه ونلجأ إلى حصنه، ليحمينا منكم ومن كل قوّةٍ غاشمةٍ ظالمةٍ.

وتابعوا مسيرتهم بكل قوّةٍ وإيمانٍ، وشعروا في الطريق ـ وهم يعلنون التوكل على الله الذي وسع كل شيء علماً ـ بالخشوع يهيمن على مشاعرهم، ويفيض على أرواحهم، فتوجّهوا إليه في أجواء روحانيةٍ، تفصلهم عن قومهم، وعن كل هذه الأحاديث الاستعراضية التي سمعوها منهم في ابتهالٍ وإيمان وإخلاص: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} فهم لم يتعقّدوا من كل أساليب قومهم، ولم يبادروا بالدعاء عليهم، بل ابتهلوا إلى الله أن يفتح بينهم وبين قومهم، ويردم الهوّة الواسعة فيما بينهم بالحق، لأنهم لا يريدون للعلاقات الإنسانية أن تخضع للتسويات وفق حساب الباطل، بل يريدونها أن ترتكز على حساب الحق. {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} لأنك تعرف كل ما يصلح أمور خلقك في ما يتّفقون فيه أو يختلفون.

* * *

الله ينصر شعيب ومن معه

{وَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وهم يلتفتون إلى قوم شعيب ليجرّبوا أن يهزموهم نفسياً بأساليب التخويف من النتائج السلبية والعواقب الوخيمة: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسرون}، لأن شعيباً لا يملك الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل من الارتباط به أو اتّباعه مسألةً مُربحةً، بل على العكس من ذلك، فإن دعوته تعزل أتباعه عن الفعاليات التي تملك القوة والجاه والمال، وتمنعهم من الحصول على الامتيازات المتنوعة والفرص الجيّدة الموجودة عندهم، فيخسرون ذلك كله من دون مقابل، لأن شعيباً لا يمثل شيئاً ـ أيَّ شيء ـ. وكان هذا الإنذار الأخير الذي وجّهوه إليهم، فماذا كانت النتيجة؟ لقد انقلب السحر على الساحر، وأصبح من كذبوا شعيباً هم الذين خسروا الدنيا والآخرة، {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} لا يملكون حراكاً، فقد أحاط بهم الموت من كل جانب. {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} فلم ينفعوا أنفسهم شيئاً، وذهب كل جهدهم هباءً في هباءٍ. {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ}. أمّا هؤلاء الذين آمنوا بشعيب فهم الرابحون المفلحون، لأنهم حصلوا على طمأنينة الروح في الدنيا وعلى رضوان الله في الآخرة.

* * *

لا أسف على الكافرين

ووقف شعيب أمام هذا المشهد الرهيب، مشهد هؤلاء الذين كذّبوه وأرادوا أن يطردوه، وهم جاثمون في دارهم، فلم يكن ردّ فعله التشفّي أو الشماتة، بل الأسف على هؤلاء القوم الذين أوصلوا أنفسهم إلى هذه النتيجة الخاسرة، لأنهم لم ينفتحوا على الله من موقع الإيمان. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، فلم أدّخر أيّ جهدٍ في إبلاغ الرسالات وفي تقديم النصائح، ولكنكم لم تستجيبوا لي، ولم تفكّروا في ذلك كله، فاستسلمتم للكفر والجحود والعصيان {فَكَيْفَ ءَاسَى} وأحزن {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}، لأنني أعيش في مشاعري روح الإيمان بالله؟! وفي هذا الجوّ، لا بد للمؤمن من أن يتعاطف مع من يحبّون الله ويحملون مسؤولية الحياة بمناهج الحق، أمّا من يحبّون أنفسهم ويتمرّدون على الله، ويملأون الحياة كفراً وضلالاً وانحرافاً، فلا مجال للأسف عليهم، لأنهم اختاروا طريق الضلال والهلاك بملء إرادتهم واختيارهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.