تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 103 إلى الآية 112

 من الآية 103 الى الآية 112
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِـَايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنَّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلَي أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائيلَ* قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِي بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ* قَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ* قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}(103ـ112).

* * *

معاني المفردات

{بَعَثْنَا}: أرسلنا.

{فَظَلَمُواْ بِهَا}: جحدوا بها.

{حَقِيقٌ}: جدير.

{ثُعْبَانٌ}: حيّة ضخمة طويلة. قال الفراء: الثعبان أعظم الحيّات وهو الذكر[1].

{وَنَزَعَ} الشيء: أخرجه من مكانه.

{لَسَاحِرٌ}؛ السحر: لطف الحيلة في إظهار أعجوبة توهم المعجزة. وقال الأزهري: السحر صرف الشّيء عن حقيقته إلى غيره، وأصل السحر خفاء الأمر[2].

{أَرْجِهْ}؛ أرجأ الشيء: أخّره وأجّله.

{الْمَدَآئِنِ}: جمع مدينة.

* * *

موسى وفرعون

وجاء موسى ليواجه الطغيان والجبروت، الذي يمثّله فرعون الذي كان يرى في ذاته شيئاً من سرّ الألوهية التي توحي بالقدرة، وتدعو إلى العبادة، وتدفع إلى السيطرة، ولم يكن شأن موسى كشأن نوحٍ وهود وصالح وشعيب ولوط في إرساله إلى قومه، فلم تكن لديه مشكلة صراع مع قومه في البداية، بل كان صراعه القويّ مع فرعون وجماعته من الأشراف، الذين كانوا يمثلون الطبقة العليا في المجتمع، ويشعرون بأن وجودهم في ما يملكون من مواقع وامتيازاتٍ مرتبط بوجود فرعون وسلطته، ولهذا كانوا يدعمونه ويتزلّفون إليه. وكانت بعض مشاكله مع فرعون أن يرفع يده عن قومه، فلا يستعبدهم ويضطهدهم ويسخّرهم في الأعمال الشاقة لمصالحه، بدون أجرٍ أو بأقل قدرٍ ممكن منه مقابل ما يبذلونه من جهد، فيدعوه إلى أن يتركهم وشأنهم ليمارسوا حريتهم في ما يريدون وما لا يريدون. وكان الموقف موقف التحدي القويّ الذي واجه به موسى فرعون، وكان ردّ التحدّي ـ في بداية الأمر ـ ضعيفاً في موقف فرعون، وقد يكون ذلك ناشئاً من الإحراج الذي واجهه أمام آيات الله. ثم تطوّرت الأمور بينهما، وتعقّدت الأوضاع، وتصاعدت المواجهة بالمجابهة، وأنزل الله البلاء على فرعون وقومه... وكانت النهاية لمصلحة موسى في نهاية المطاف، كما نرى ذلك من خلال متابعة آيات السورة.

* * *

جحود فرعون لآيات الله تعالى

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} ـ والضمير يعود إلى الأنبياء الخمسة الذين تقدم ذكرهم ـ {مُّوسَى بِـَايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ}، وهم الجماعة التي كانت تشاركه في الحكم، وتدعمه في السلطة من الطغاة الصغار الذين كانوا يشكّلون طبقة السادة والأشراف في المجتمع، {فَظَلَمُواْ بها} وجحدوها وكفروا بها... وذلك هو مظهر الظلم في قضايا العقيدة والكفر، في ما يظلم الإنسان به نفسه وربّه، والحقّ الذي يقدّم إليه... وامتد بهم الظلم والطغيان حتى لاقوا جزاء ظلمهم وطغيانهم في ما أنزله الله عليهم من العذاب {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} الذين ملأوا الأرض فساداً، واعتبر بذلك في ما تريد وما لا تريد، وهذه هي بداية القصة في المواجهة الأولى.

* * *

موسى(ع) يؤكد نبوّته

{وَقَالَ مُوسَى يَا فرْعَوْنُ إِنَّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} فقد أرسلني الله لأُبلغكم وحيه، وأقودكم إلى هداه، وأدعوكم إلى السير على نهجه وشريعته {حَقِيقٌ عَلَي أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} وإذا كان الله قد اختارني لرسالته، فمن الطبيعيّ أن أكون في موضع الثقة عنده، وأن أرتفع إلى مستواها، فأكون جديراً بالموقف الصادق الذي يجعلني ألتزم بالحق كما أنزله الله، فلا أقول غيره. {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، فلست مدّعياً يكتفي بالدعوى في تأكيد موقفه، فلديّ بيّنة على ما أدّعيه، ولكم أن تفكّروا فيها وتناقشوها، وإن كنت أعتقد أنها لا تحتاج إلى تفكير لوضوح مضمونها ومدلولها.

* * *

موسى(ع) يسعى لتحرير بني إسرائيل من قبضة فرعون

{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِى إِسْرَائيلَ}، هؤلاء الذين يعيشون الاضطهاد والاستعباد والذلّ والقهر، فلا يملكون إرادة الحياة بما تفرضه من حركة الاختيار وتقرير المصير؛ الأمر الذي جعلهم يتبلّدون ويتصاغرون ويستسلمون للأمر الواقع، دون أدنى تفكير في التغيير، لاعتقادهم أن الظلم هو القضاء الذي لا يتبدل، والقدر الذي لا يتغيّر، على أساس أنه إرادة الله. وقد جاءت رسالة الأنبياء من أجل تحرير الإنسان من هذا الواقع الاستعباديّ الاستضعافيّ، ليعيش حريته، ويمارس قوّته، ويتحوّل من عنصرٍ منفعلٍ بإرادة الآخرين، إلى عنصرٍ فاعلٍ من خلال إرادته الحرّة القويّة... وهذا ما أراده موسى عندما طلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، ويرفع يده عنهم ويتركهم وشأنهم في ما يتصرفون به من شؤونهم الحياتية، وبذلك يستطيع أن يفرّغ سلطان فرعون من قوته الحقيقية، لأنّ المستضعفين هم القوّة الضاربة بيد المستكبرين، بما يقدّمونه إليهم من طاقاتٍ كبيرة، فهم المظلومون الذين يستخدمهم الظالمون، ليكونوا أدوات الظلم ضدّ بعضهم البعض، وضدّ الآخرين، وقد تكون مشكلتهم كامنة في هذا الإيحاء المتواصل بمظلوميتهم الذي يعمّق في أنفسهم الشعور بالضعف، مما يجمّد في داخلهم أية طاقةٍ للحركة في نطاق الثورة والتغيير، ويركز فيهم فكرة الاستسلام للأمر الواقع، فكان لا بد من إخراجهم من هذا الجو كله، وتوعيتهم بأن الطغاة لا يملكون القوّة الذاتية، لأن قوتهم مستمدّة من قوتهم ـ هم ـ ليتنفسوا هواء الحرية فيعملوا على أن يصيروا أحراراً، ويتخلصوا من أجواء الاستسلام، ليفكروا بعملية التغيير.

ولم يكن فعل موسى صادراً في ذلك من عقدةٍ عائلية قوميّة، بل كان صادراً من فكرةٍ رساليةٍ شاملة. أمّا خصوصيّة هؤلاء، فقد تكون باعتبارهم الفئة الوحيدة المستضعفة في ذلك البلد، أو لأن مطالبته بهم ـ وهم قومه تحمل مبرراً معقولاً في ذهنية المجتمع هناك، إذ لا بد للإنسان من التفكير بقومه، وتحمّل مسؤوليتهم. أما القوم الآخرون، فقد يرون أنه لا شأن له بهم، ولهذا فإنه لا يملك حقاً في المطالبة بهم، وبذلك تدخل هذه المطالبة الخطوة الأولى في الطريق الطويل.

* * *

موسى(ع) يقدم بيّنة نبوّته لفرعون

ولم يبدر من فرعون أيّ ردّ فعلٍ عنيف ضدّ موسى، بل فكَّر ـ في ما يبدو من جوّ الآية ـ بأن التخلص منه أمرٌ ممكنٌ وفي المتناول، لاعتقاده بأن موسى لا يملك دور الرسول، فإنه لا يملك حجةً على ما يدّعي، فإذا طولب بالبينة التي لا بد أن تكون في مستوى المعجزة الخارقة للعادة، تراجع وانهزم وانكمش في موقفه، فينفضح أمره، ويتبين زيف دعواه من دون مشاكل. ولهذا فقد بدأ بمطالبته بإظهار الآية الدالّة على صدقه: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِـَآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

وكان فرعون ينتظر أن يعتذر موسى ويتراجع، ولكن المفاجأة كانت بانتظاره {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ودبّ الرعب في قلب فرعون، ولكنه تمالك نفسه. وجاءت المعجزة الثانية {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} مع أن موسى كان أسمر اللون، فكيف تحولت يده إلى هذا البياض الناصع من غير مرض؟ وعقدت المفاجأة لسان فرعون، فلم يتكلم بشيءٍ، وكأنه أحسّ بصدق موسى. وربما عاش بعض التردّد في سر ما رآه،، هل هو معجزةٌ أم سحر؟

وشعر قومه الذين هم جهاز سلطته بهذه الحيرة التي أخذت تأكل قلب فرعون. وربما خافوا أن تتحوّل الحيرة إلى قناعةٍ وإيمانٍ بصدق موسى، فيميل إليه، فيفقدون بذلك سلطانهم، فتدخّلوا ليحسموا الموضوع عنده، ليؤكدوا أن ما قام به موسى هو سحر، وأن موسى ليس نبياً، بل هو ساحرٌ عليمٌ يملك المزيد من القدرة والمعرفة في هذا الفنّ. وكان مثل هذا الاحتمال قريباً إلى أجواء المجتمع هناك، لأنّ ألاعيب السحر التي تماثل ما قام به موسى في الشكل، كانت مألوفةً لديهم.

* * *

ملأ فرعون يتهمون موسى(ع) بالسحر

{قَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}. وذلك هو أسلوب الطغاة في كل زمانٍ ومكان، فهم يثيرون في وجه الدعاة إلى الله الكلمات التي تبطل دعواهم، أو تثير حولها الشك، من خلال الأفكار السلبيّة المطروحة لديهم. {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ} بسحره، في ما كانوا يعتقدونه من قدرة السحرة على ممارسة كل أساليب الضغط، وكل وسائل السيطرة، فيفقدهم سلطانهم، ويقودهم إلى متاهات الضياع. {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} هل هذا قول فرعون، أم قولهم لبعضهم البعض؟ ربما كان الأرجح الأول، بدليل الآية التالية {قَالُواْ أَرْجِهْ وأخاه} أخرهما، ولا تنتقم منهما، حتى يظهر للناس كذبهما، فلا يتبع قولهما أحد من بعد ذلك، {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} يحشرون الناس في مكانٍ واحد {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} ليواجهوا السحر بسحر أقوى منه، فتبطل دعواه ويفتضح أمره.

ــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:702.

(2) (م.ن)، ج:4، ص:707.