تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 113 إلى الآية 126

 من الآية 113 الى الآية 126
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ* قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ* وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ* وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ* قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ* قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ* قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ آمَنَّا بِـَايَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}(113ـ126).

* * *

معاني المفردات

{وَاسْتَرهَبُوهُمْ}: أرهبوهم وخوّفوهم.

{تَلْقَفُ}: تتناول الشيء بحذق وسرعة.

{يَأْفِكُونَ}؛ الإفك: قلب الشيء عن وجهه في الأصل، ومنه الإفك الكذب، لأنه قلب المعنى عن جهة الصواب.

{فَوَقَعَ}: الوقوع في الأصل هو السقوط.

{الْحَقُّ}: كون الشيء في موضعه الذي اقتضته الحكمة.

{وَبَطَلَ}؛ الباطل: الكائن بحيث يؤدّي إلى الهلاك، وهو نقيض الحق الذي هو كون الشيء بحيث يؤدّي إلى النجاة والغلبة والظفر بالبغية من العدوّ في حال المنازعة.

{صَاغِرِينَ}: أذلاّء.

{لأصَلِّبَنَّكُمْ}: الصلب: هو الشدّ على الخشبة وغيرها. وأصله من صلابة الشيء.

{تَنقِمُ}: النقمة: العقوبة والإنكار.

{أَفْرِغْ}: الإفراغ: صبُّ ما في الإناء أجمع حتى يخلو؛ وهو مشتقٌّ من الفراغ.

{صَبْرًا}: الصبر: حبس النفس عن إظهار الجزع.

* * *

وجاء السحرة، فماذا كان أمرهم؟!

استدعى فرعون السحرة من جميع المناطق، وجمع الناس ليشهدوا المواجهة الأولى بين سلطته الطاغية وبين رسالة موسى. {وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} ووقفوا بين يديه واستمعوا إليه، فحدثهم عن سحر موسى وأرادهم أن يدخلوا معه معركة التحدي، فيواجهونه بسحرٍ أقوى. ولكن السحرة كانوا أصحاب مهنة، لا يقومون بأي عمل إلاّ مقابل أجر يأخذونه، فلا مجال للخدمة المجّانية حتى للحاكمين، {قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}. وقد يوحي لنا منطقهم هذا بأنهم كانوا يملكون موقعاً يسمح لهم بالجرأة على هذا الطلب، لأن من عادة الحكّام مع من لا يملكون موقعاً متقدماً في المجتمع، أن يصدروا إليهم الأوامر ليطيعوها بدون اعتراض أو توقفٍ، بينما نرى أن السحرة كانوا سيرفضون طلب فرعون لو لم يستجب لمطالبهم، وربما يعود ذلك إلى كون السحرة يمثلون السلطة الدينية للمجتمع، التي كانت تقارب قوتها قوة السلطة الحاكمة في التأثير على الناس. {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }، فستأخذون الأجر العظيم، {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فسأمنحكم درجةً متقدّمةً من القرب في المركز والسلطان.

واتّخذوا مراكزهم في الساحة، في مواجهة موسى. {قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}، في أسلوبٍ استعراضيٍّ يحاول الإيحاء له وللناس بأن القضية لا تمثل عندهم أهمية كبرى، فلا فرق بين أن تكون البداية منه أو تكون منهم، فسوف لن يخافوا منه، لأنه أضعف من أن يهزمهم، وستكون النتيجة واحدة في كلتي الحالتين، وهي هزيمة موسى. {قَالَ أَلْقَوْاْ} بكلّ استهانةٍ واستخفافٍ بأسلوبهم، في عملية إيحاءٍ بأنّه يواجه الموقف بثقةٍ عظيمةٍ بالنصر لا حدّ لها، وهي الثقة بالله القادر على أن يبطل كل كيدهم ومكرهم.

{فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} لأن السحر لا يحمل في مدلوله قدرةً لتغيير الأشياء، وتحويلها عن حقيقتها، والتأثير بها بطريقةٍ فعلية، بل هو مجرّد تخييل وتمويهٍ ولعبٍ على أعين الناس، بما يملكونه من دقةٍ وفنٍّ يأخذ بالعيون ويدعو إلى الدّهشة ويبعث على الخوف... {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} من خلال ما أظهروه من ألاعيب تحويل العصيّ إلى ثعابين خُيِّلَ لموسى وللناس أنها تسعى. {وَجَآؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} فقد كانوا يملكون المقدرة الكبيرة في فنّ السحر. ووقف موسى ينتظر أمر ربّه، لأنه لا يملك المعرفة بالسحر ليقابلهم سحراً بسحر، ولا يملك القدرة الذاتية على المعجزة ليبطل السحر بالمعجزة، وكان يعرف أن الله سينصره، لأن وقفة التحدي ـ هذه ـ لم تكن وقفته الذاتية التي يربح فيها الجولة كشخص، أو يخسرها كشخص، ولكنها كانت وقفة الرسالة التي تريد فرض نفسها على الساحة كقوّةٍ جديدة تملك أن تتحدى جبروت فرعون وطغيانه، لتمنح الناس القدرة على الاختيار بينها وبين فرعون، ثم لتعطيهم قوّة حسم الموقف بالوقوف مع موسى من أجل الرسالة، لأن المسحوقين لا يتحركون بمواجهة القوة الطاغية، إلا استناداً إلى قوّةٍ جديدةٍ تمنحهم إرادة القوة كما توحي لهم بالهدى والإيمان...

* * *

عصا موسى(ع) تلقف إفك السحرة

وجاء أمر الله، وتمّت كلمته {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها في استجابةٍ خاشعةٍ لأمر الله، وثقةٍ بالنتيجة الإيجابية المنتصرة الحاسمة، {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} وتتناول كل هذه العصيّ التي أرادوا أن يصرفوا وجوه الناس بسحرها عن الحق، ويقودوهم إلى الباطل. ولم يشعر الناس إلا بالعصا وهي تتحول إلى ثعبانٍ عظيم، يوحي بالحقيقة المرعبة المتحدية الكامنة في عينيه، وفي حركته الهجومية على كل تلك الدمى الفارغة من أشكال الثعابين... {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لأن ما جاء به موسى هو الحق؛ أما السحر فإنه الباطل الذي ينهزم بسهولة، لأنه لا يمثّل شيئاً من القوّة الحقيقية للأشياء. وكانت الغلبة للرسالة في موقف موسى، بينما وقف فرعون في موقف المهزوم من خلال هزيمة السحرة.

{فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ}، وتحطّم كل ذلك الجبروت وتحوّل إلى كيانٍ ذليلٍ صاغرٍ أمام الحقيقة القوية الصارخة، ووقف السحرة في موقف التأمّل والتفكير. ولم يطل بهم الموقف كثيراً، فما كان منهم إلا أن آمنوا بموسى عندما ألقى عصاه، ووجدوا أن ذلك ليس في مستوى السحر بل هو شيء فوق ذلك كله، مما لم يألفوه ولم يعرفوه في كلّ ما شاهدوه وعرفوه من أساليب السحر، فعرفوا أن ذلك كله من الله سبحانه لا من موسى، وهذا ما جعل دعوته في مستوى دعوات الأنبياء الذين يتميزون بقدراتٍ غير عاديّةٍ، في ما يقومون به من معاجز، وما يقدمونه من آيات، فانفتحوا على الإيمان بكل قوّةٍ وابتهالٍ وخشوعٍ.

* * *

السحرة يستجيبون لدعوة موسى(ع)

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ*قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وأعلنوا إيمانهم بطريقةٍ لا تقبل الشكّ، وأكّدوا ذلك بالانتماء إلى خط الرسالة التي يحملها موسى وهارون، في ما تعنيه كلمة {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} من معاني الارتباط بالله من خلالهما باعتبار دعوتهما إليه.

وهال هذا الأمر فرعون وأُسقط في يده، واعتبرها مؤامرةً مدبّرةً في الخفاء ضدّه، ورفض أن يصدّق أن القضية قضية إيمان صادقٍ ينبعث من الحجة الواضحة والبرهان القويّ، تماماً ككثيرٍ من الطغاة الذين لا يريدون أن يعترفوا بالاستجابات الشعبيّة لقوى التغيير، من حيث خروجها من واقع الإحساس العميق بالحاجة إلى التغيير، والخروج من واقع الظلم والطغيان، فيندفعون إلى التفتيش عن أسباب ظاهرة التمرد عليهم وعلى حكمهم، في مؤامراتٍ شخصيةٍ يحرّكها أعداؤهم. {قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إنه ينكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم، كأنَّ عمليّة الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني، كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة... وتلك هي عقليّة الطغاة وسيرتهم في كل زمانٍ ومكانٍ، عندما يريدون امتلاك عقول الناس وأفكارهم، فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار، ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدةٍ. فالتفكير ممنوع، والإيمان محرّمٌ بدون الإذن الرسميّ من قِبَل السلطة التي تملك العقول ـ كما يخيل لها ـ كما تملك الأجسام والأعمال.

* * *

فرعون يصر على كفره ويتوعد السحرة

{إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. وهذه محاولةٌ لتخفيف وقع الصدمة على نفسه، وحراجة الموقف فيها، لأنّ ما حدث يشكّل نقطة ضعف في سلطانه، باعتبار أن المتمرّدين من أتباعه المقرّبين، فيحاول أن يصوّر لنفسه وللاخرين أن القضية ـ منذ البداية ـ لم تكن تمرّداً عميقاً يصدر عن قناعة بالدعوة الجديدة، أو رفضاً للسلطة القديمة بكل ما تمثله من أفكار، بل كانت مؤامرةً مدبرةً بين موسى وبين هؤلاء السحرة، باعتبار أنه أستاذهم الكبير الذي علمهم السحر ـ كما في آيات أخرى ـ فأرادهم أن يقوموا بهذه التمثيلية، لإظهاره في موقف المنتصر في مقابل فرعون الذي يقف في موقف المهزوم. فبدأ عملية التهديد والوعيد {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}. وبدأت عملية حرب الأعصاب بالتهديد بالعذاب وقطع الأيدي والأرجل والصلب ليتراجعوا، فلم يتراجعوا، وواجهوه بالإيمان القويّ الصامد الذي لا يتزلزل، ولا ينهار، ولا يتراجع أمام كل أساليب التهويل والتهديد، وكان الموقف من أسمى المواقف التي تجسد الثبات على العقيدة أمام قوى الكفر والطغيان حتى الموت.

* * *

السحرة التائبون يسألون الله الصبر

{قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} ماذا تريد أن تفعل؟ هل هناك أكثر من الموت؟ وماذا في الموت، وماذا بعده؟ إننا سننقلب إلى ربنا وسنرجع إليه، وسنجد عنده كل رحمةٍ ومغفرةٍ ورضوان، وسيدخلنا الله جنّته حيث السعادة كلّ السعادة، والرضا كل الرضا، وبذلك فإن التهديد لا يمكن أن يمثل أيَّ ضغطٍ نفسيٍّ أو ماديٍّ لحساب التراجع، فنحن لن نتراجع أبداً، لأننا لا نشعر بالسقوط أمام ذلك كله. {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ ءَامَنَّا بِـَايَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا}. وماذا فعلنا حتى تواجهنا بهذه المواجهة القاسية؟ ولماذا تنقم علينا؟ هل هناك شيءٌ سوى أننا آمنا بآيات ربنا عندما جاءتنا بالحقيقة الواضحة الناصعة؟! وهل الإذعان للحقّ الواضح الصريح جريمةٌ يستحقّ الإنسان العقاب عليها؟! أيُّ معنىً لذلك كله، سوى أن الطغاة يخافون من حركة الإيمان في أفكار الناس، قبل أن يخافوا من حركته في حياتهم؟! لأنهم يعرفون جيداً ما معنى الصدق في الإيمان، وكيف يتحول إلى صدقٍ في الموقف أمام كل تحديات الحياة وأوضاعها السلبيّة.

وعادوا بعد ذلك إلى الله في روحٍ خاشعةٍ مبتهلةٍ في دعاء حارٍ عميق، ليعينهم على مواجهة الموقف بالصلابة الإيمانيّة القوية التي لا تتزعزع ولا تتزلزل ولا تنهار، حذراً من أن تسيطر عليهم بعض نوازع النفس الأمّارة بالسوء، التي تمنّيهم السلامة، وتحذِّرهم من الهلاك، فتدفعهم إلى تقديم التنازلات من غير أساسٍ: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، واملأ به قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وخطواتنا، لئلا نستسلم لنقاط الضعف الكامنة في أعماقنا. {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} حتى لا نضعف في حالة شدّة، ولا نهتزّ في موقف زلزال، بل تبقى لنا قوّة الإيمان حيَّةً نابضةً حتى نلاقيك في إسلام القلب والوجه واليد واللسان.

إنه الموقف الرائع والنموذج العظيم للإيمان الصامد أمام الكفر الطاغي في أروع صورةٍ للصراع الدامي بين قوى الكفر والطغيان، وبين قوى الحق والإيمان...

أمّا نحن، فنشعر بالحاجة الكبيرة إلى أن نتمثّل هذا الموقف، في ما نواجهه من تهاويل الطغاة وتهديداتهم وحجرهم على حرية الفكر الإسلامي الذي لا يريدون لأصحابه أن يتحركوا فيه إلا بمقدارٍ صالحٍ للاستغلال، حيث يتحول إلى واجهةٍ تحمي ما خلفها من انحرافاتٍ وأخطاءٍ لما تضفيه عليه من قداسة الحق وحصانة الإيمان.