من الآية 127 الى الآية 129
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءهُمْ وَنَسْتَحْيِـى نِسَآءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ* قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(127ـ129).
* * *
معاني المفردات
{أَتَذَرُ}: أتدع، أتترك.
* * *
موسى في حواره مع قومه بعد تهديد فرعون
وبدأ عرش فرعون يهتزّ أمام هذه الصدمة العنيفة، واستطاع موسى أن يستوعب قومه في أجواء عاطفيّةٍ تثير الأمل في نفوسهم، وتوحي بالإيمان بأفكارهم. وربما بدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء، وربما رأى قوم فرعون بعضاً من هذا الالتفاف العاطفي الجديد، وربما سمعوا عنه شيئاً من جواسيسهم، إن لم يكونوا قد رأوه، وأخذوا يفكرون ماذا يفعلون بهذا التطور المخيف، وكيف يواجهونه ليقضوا عليه في بداياته الأولى؟ وكان هناك حديثٌ بينهم وبين فرعون لإثارته ضدَّ موسى وقومه، وقد لا يكون بحاجةٍ إلى مثل هذه الإثارة، لأن صدمته العنيفة كانت كفيلةً باستثارته على المدى الطويل.
* * *
منطق الطغاة من الحاكمين
{وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ في الأرضِ}؟ وذلك هو منطق الطغاة من الحاكمين في ما يثيرونه من قضايا الإصلاح والإفساد، فينظرون إلى كل عمل يدعم حكمهم أو نظامهم، ويهيّىء له سبل الاستقرار والاستمرار، على أنه من أعمال البناء والإصلاح، وينظرون إلى أيِّ عمل ينقضه ويعمل على تغييره، ويساهم في إثارة الأجواء ضده، ويتحرك باتجاه زلزلة قواعده وهزِّ أركانه، على أنه من أعمال الهدم والإفساد… وفي ضوء هذا، كان هؤلاء القوم يعتبرون الدّعوة إلى توحيد الله، ونبذ الشرك، ومحاربة الطغيان، والقضاء على الظلم، وغير ذلك من المفاهيم الرسالية التي يدعو إليها موسى، ويسير عليها مع المؤمنين من قومه، إفساداً في الأرض، لأنه إطلاقٌ من أجل التغيير الذي لا يبقى معه أحدٌ من أصحاب الامتيازات الزائفة الظالمة، ولا يذر أيّ إله في الأرض غير الله، سواءٌ كان فرعون، أو ما كان يعبده من آلهة وأصنام. وهذا ما أراد قومه أن ينذروه به. {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} في وحدة موحشة قاتلةٍ، ليس معك أحد من هؤلاء الذين كانوا يتّبعونك، ويتعبدون لك ولآلهتك.
وجاء المنطق الفرعوني الذي هو منطق الطغاة، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءهُمْ} فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة وحمل السلاح، لأن الذكور هم وقود الحرب عادةً، {وَنَسْتَحْيِـى نِسَآءهُمْ} فنبقيهنّ كإماءٍ وخدم. وماذا تغني النساء شيئاً لموسى ولأخيه؟ ولن يبقى هناك أحدٌ في هذا الاتجاه، ولن يبقى إلا نحن، نحن الأقوياء الحاكمون. {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} فنحن نملك القوة القاهرة من السلاح والمال والملك والرجال، فأين يكون هؤلاء المستضعفون، وكيف يمكنهم أن يثبتوا أمام كلّ هذه القوة، وكل هذا الجبروت؟!
* * *
موسى(ع) يحث قومه على الصبر والثبات
وربما ترك مثل هذا التهديد أثره السلبي في نفوس قوم موسى، الذين كانوا في موقع التجربة الأولى، فلم يتصلّب إيمانهم بعد، ولم تقو عزيمتهم، بل كانوا يهتّزون أمام كل وعيد، فوقف موسى ليشدّ من عزمهم، وليقوي إيمانهم بالله، وليبعث فيهم روح الصبر والثبات، وليفتح لهم نوافذ الأمل وأبواب الرجاء... {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ}، فإن الوصول إلى الغايات التي يسعى إليها الإنسان يمر بأكثر من مرحلة؛ ولكل مرحلةٍ مشاكلها وتحدياتها وآلامها، فلا بد من الصبر من أجل مواجهة ذلك كله، من أجل عدم الوقوع في قبضة الانفعال الذي يشلّ عقل الإنسان وتفكيره، ويقوده في النهاية إلى الهاوية، فلا تتجمّدوا أمام المرحلة الحاضرة، لتعتبروها خاتمة المطاف، بل حاولوا التطلع إلى ما قبل هؤلاء الذين يحكمون هذه المرحلة ويسيطرون عليها، فهم لم يكونوا شيئاً في الوجود، ولا في السلطة، بل كان هناك قوم آخرون أورثهم الله الأرض طبقاً لسننه في الكون، ومضوا كما مضى الذين من قبلهم، وجاءت بهؤلاء إلى السلطة ظروفٌ موضوعية هيّأت لهم وراثة الأرض، وسيزولون كما زال غيرهم ـ إن آجلاً أو عاجلاً ـ ويبقى الأمر كله لله... {إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} تبعاً لتطور مراحل التاريخ التي تنقل الحكم من جيل إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، فقد ينتصر الظالمون في معركة، وقد ينهزم المستضعفون في أخرى... وهكذا تتحرك سنة الله في الكون على أساس حكمته وتدبيره في ربط المسبّبات بأسبابها، ولكنّها مجرد مراحل تبدأ وتنتهي دون عمق وامتداد.
* * *
العاقبة للمتقين
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الذين يجسّدون إرادة الله في إصلاح أمر الحياة في الحكم والشريعة والعقيدة، على قاعدةٍ صلبةٍ تؤكد للإنسان مفاهيمه الواسعة الثابتة، وأوضاعه المستقيمة الهادفة، وتتحرك التقوى في داخله لتستوعب ذلك كله في خطّةٍ حكيمةٍ ممتدة، يحكم مراحلها الوعيُ والصدقُ والأمانة والإخلاص... وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يعملوا على السير في خط التقوى في حياتهم، من أجل أن يجعلوا من أنفسهم القيادة الواعية الملتزمة التي تتحمل الصعاب والمشاق والتحديات بروحٍ قويّةٍ صابرة، لأن مسألة حكم الأرض، في مواجهة التيار الكافر الضاغط، ليست مسألة كلمات تقال، وليست انفعالاً يتشنّج ويصرخ، أو عبادةً تبتهل وتخشع، ولكنها المواقف التي تفكّر وتتقدّم وتصبر وتواجه التحديات بروح العزيمة والقوة، وبإرادة الإيمان والإخلاص الباحث دائماً عن لطف الله وروحه ورضوانه في كل خطوةٍ من خطوات الطريق.
* * *
انهزاميّة قوم موسى(ع)
ولم يكن قوم موسى قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الذي يفهم معنى المرحلة في خطّ الهدف، ومعنى الصبر في الوصول إلى الغاية، ومعنى التوكل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوة، فكانوا يتألمون مما يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى، ويرون أن الحال لم يتغير، فقد كانوا يعيشون الآلام من قبل موسى، وها هي الآلام تمتد بهم معه، فماذا انتفعوا به؟ فلا تزال المشكلة هي المشكلة والواقع هو الواقع. {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} إنه منطق الضعفاء الذين لا يعرفون معنى حركة القوة في الداخل من أجل تنمية روح التحدي في الواقع، فهم لا يتعاملون مع القضايا التي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف البعيدة للحياة، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات في ما تختزنه من هموم وآلام. إنهم يعيشون في جوّ الإحساس دون التفكير في مضمون المشكلة، إذ يجب أن يعرفوا أن هناك فرقاً بين الإيذاء الذي يتعرض له الإنسان وهو لا يحمل قضيّة، فيزيده الأذى شعوراً بالانسحاق، لأنه يحجز إحساسه بالألم الذي لحق به في اللحظة الحاضرة، وبين الإيذاء الذي يتعرض له وهو يحمل قضيةً ويتحرك من أجل رسالة، فيزيده الأذى شعوراً بالقوّة، لأنه يضاعف معنى التحدّي في مشاعره وأحاسيسه في عمليّة إيمانٍ بالقضية الكبيرة التي لا بدّ لها أن تستمر لتحل المشكلة من جذورها بعيداً عن كلّ عوامل التخدير...
* * *
موسى يزرع الأمل في قلوب قومه
ولهذا، فإن مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعملية التهدئة، بل ينطلق دائماً في أجواء التثوير، لأنّ المسألة ليست مسألة ذاتٍ تريد أن تستريح، بل هي مسألة أمَّةٍ تريد أن تتحرّر وتتقدم، ومسألة واقعٍ يريد أن يتغير، وهذا ما أراد موسى أن يثيره في الانفتاح على الله في أوقات الشدّة، وفي الثقة بوعده في حالات الضيق، فذلك هو الذي يجدّد في الإنسان روح القوة، ويبعث في روحه معنى الأمل... {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة، فقد أعدّ الله للطغاة مصيراً لا يستطيعون الهروب منه، ولكنّ لكلّ شيءٍ وقتاً لا يتعداه تبعاً لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته، فليكن أملنا بالله كبيراً، ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظروف التي تتحقق فيها إرادته بالنصر.
{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرضِ}، فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض، والله لا يخلف وعده، ولكنّ قضية الاستخلاف في الأرض ليست امتيازاً لأحد، بل هي المسؤولية الواعية من أجل تغيير الواقع على الأسس الإيمانية التي تُصلحُ أمر البلاد والعباد، بعيداً عن الأسس الاستكبارية الكافرة التي تفسد الحياة كلها بخطط الكفر والضلال، ولهذا فإن المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار، لما تحملون من عقيدةٍ، ولما تعيشونه من مفاهيم، ولما تتحركون به من خططٍ وأهداف، ليُعْرَفَ الصادقون من الكاذبين، والمخلصون من المنافقين.... {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في ما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون الناس والحياة... وتلك هي قصة الحكم في المفهوم الديني للإنسان؛ إنها قصة التغيير، وتحويل المسيرة من خطّ الظلم إلى خطّ العدل، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان، وليست عملية تبديل أسماءٍ وتغيير واجهاتٍ، لنبرّر الظلم باسم العدل، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان. من الآية 127 الى الآية 129
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءهُمْ وَنَسْتَحْيِـى نِسَآءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ* قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(127ـ129).
* * *
معاني المفردات
{أَتَذَرُ}: أتدع، أتترك.
* * *
موسى في حواره مع قومه بعد تهديد فرعون
وبدأ عرش فرعون يهتزّ أمام هذه الصدمة العنيفة، واستطاع موسى أن يستوعب قومه في أجواء عاطفيّةٍ تثير الأمل في نفوسهم، وتوحي بالإيمان بأفكارهم. وربما بدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء، وربما رأى قوم فرعون بعضاً من هذا الالتفاف العاطفي الجديد، وربما سمعوا عنه شيئاً من جواسيسهم، إن لم يكونوا قد رأوه، وأخذوا يفكرون ماذا يفعلون بهذا التطور المخيف، وكيف يواجهونه ليقضوا عليه في بداياته الأولى؟ وكان هناك حديثٌ بينهم وبين فرعون لإثارته ضدَّ موسى وقومه، وقد لا يكون بحاجةٍ إلى مثل هذه الإثارة، لأن صدمته العنيفة كانت كفيلةً باستثارته على المدى الطويل.
* * *
منطق الطغاة من الحاكمين
{وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ في الأرضِ}؟ وذلك هو منطق الطغاة من الحاكمين في ما يثيرونه من قضايا الإصلاح والإفساد، فينظرون إلى كل عمل يدعم حكمهم أو نظامهم، ويهيّىء له سبل الاستقرار والاستمرار، على أنه من أعمال البناء والإصلاح، وينظرون إلى أيِّ عمل ينقضه ويعمل على تغييره، ويساهم في إثارة الأجواء ضده، ويتحرك باتجاه زلزلة قواعده وهزِّ أركانه، على أنه من أعمال الهدم والإفساد… وفي ضوء هذا، كان هؤلاء القوم يعتبرون الدّعوة إلى توحيد الله، ونبذ الشرك، ومحاربة الطغيان، والقضاء على الظلم، وغير ذلك من المفاهيم الرسالية التي يدعو إليها موسى، ويسير عليها مع المؤمنين من قومه، إفساداً في الأرض، لأنه إطلاقٌ من أجل التغيير الذي لا يبقى معه أحدٌ من أصحاب الامتيازات الزائفة الظالمة، ولا يذر أيّ إله في الأرض غير الله، سواءٌ كان فرعون، أو ما كان يعبده من آلهة وأصنام. وهذا ما أراد قومه أن ينذروه به. {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} في وحدة موحشة قاتلةٍ، ليس معك أحد من هؤلاء الذين كانوا يتّبعونك، ويتعبدون لك ولآلهتك.
وجاء المنطق الفرعوني الذي هو منطق الطغاة، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءهُمْ} فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة وحمل السلاح، لأن الذكور هم وقود الحرب عادةً، {وَنَسْتَحْيِـى نِسَآءهُمْ} فنبقيهنّ كإماءٍ وخدم. وماذا تغني النساء شيئاً لموسى ولأخيه؟ ولن يبقى هناك أحدٌ في هذا الاتجاه، ولن يبقى إلا نحن، نحن الأقوياء الحاكمون. {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} فنحن نملك القوة القاهرة من السلاح والمال والملك والرجال، فأين يكون هؤلاء المستضعفون، وكيف يمكنهم أن يثبتوا أمام كلّ هذه القوة، وكل هذا الجبروت؟!
* * *
موسى(ع) يحث قومه على الصبر والثبات
وربما ترك مثل هذا التهديد أثره السلبي في نفوس قوم موسى، الذين كانوا في موقع التجربة الأولى، فلم يتصلّب إيمانهم بعد، ولم تقو عزيمتهم، بل كانوا يهتّزون أمام كل وعيد، فوقف موسى ليشدّ من عزمهم، وليقوي إيمانهم بالله، وليبعث فيهم روح الصبر والثبات، وليفتح لهم نوافذ الأمل وأبواب الرجاء... {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ}، فإن الوصول إلى الغايات التي يسعى إليها الإنسان يمر بأكثر من مرحلة؛ ولكل مرحلةٍ مشاكلها وتحدياتها وآلامها، فلا بد من الصبر من أجل مواجهة ذلك كله، من أجل عدم الوقوع في قبضة الانفعال الذي يشلّ عقل الإنسان وتفكيره، ويقوده في النهاية إلى الهاوية، فلا تتجمّدوا أمام المرحلة الحاضرة، لتعتبروها خاتمة المطاف، بل حاولوا التطلع إلى ما قبل هؤلاء الذين يحكمون هذه المرحلة ويسيطرون عليها، فهم لم يكونوا شيئاً في الوجود، ولا في السلطة، بل كان هناك قوم آخرون أورثهم الله الأرض طبقاً لسننه في الكون، ومضوا كما مضى الذين من قبلهم، وجاءت بهؤلاء إلى السلطة ظروفٌ موضوعية هيّأت لهم وراثة الأرض، وسيزولون كما زال غيرهم ـ إن آجلاً أو عاجلاً ـ ويبقى الأمر كله لله... {إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} تبعاً لتطور مراحل التاريخ التي تنقل الحكم من جيل إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، فقد ينتصر الظالمون في معركة، وقد ينهزم المستضعفون في أخرى... وهكذا تتحرك سنة الله في الكون على أساس حكمته وتدبيره في ربط المسبّبات بأسبابها، ولكنّها مجرد مراحل تبدأ وتنتهي دون عمق وامتداد.
* * *
العاقبة للمتقين
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الذين يجسّدون إرادة الله في إصلاح أمر الحياة في الحكم والشريعة والعقيدة، على قاعدةٍ صلبةٍ تؤكد للإنسان مفاهيمه الواسعة الثابتة، وأوضاعه المستقيمة الهادفة، وتتحرك التقوى في داخله لتستوعب ذلك كله في خطّةٍ حكيمةٍ ممتدة، يحكم مراحلها الوعيُ والصدقُ والأمانة والإخلاص... وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يعملوا على السير في خط التقوى في حياتهم، من أجل أن يجعلوا من أنفسهم القيادة الواعية الملتزمة التي تتحمل الصعاب والمشاق والتحديات بروحٍ قويّةٍ صابرة، لأن مسألة حكم الأرض، في مواجهة التيار الكافر الضاغط، ليست مسألة كلمات تقال، وليست انفعالاً يتشنّج ويصرخ، أو عبادةً تبتهل وتخشع، ولكنها المواقف التي تفكّر وتتقدّم وتصبر وتواجه التحديات بروح العزيمة والقوة، وبإرادة الإيمان والإخلاص الباحث دائماً عن لطف الله وروحه ورضوانه في كل خطوةٍ من خطوات الطريق.
* * *
انهزاميّة قوم موسى(ع)
ولم يكن قوم موسى قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الذي يفهم معنى المرحلة في خطّ الهدف، ومعنى الصبر في الوصول إلى الغاية، ومعنى التوكل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوة، فكانوا يتألمون مما يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى، ويرون أن الحال لم يتغير، فقد كانوا يعيشون الآلام من قبل موسى، وها هي الآلام تمتد بهم معه، فماذا انتفعوا به؟ فلا تزال المشكلة هي المشكلة والواقع هو الواقع. {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} إنه منطق الضعفاء الذين لا يعرفون معنى حركة القوة في الداخل من أجل تنمية روح التحدي في الواقع، فهم لا يتعاملون مع القضايا التي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف البعيدة للحياة، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات في ما تختزنه من هموم وآلام. إنهم يعيشون في جوّ الإحساس دون التفكير في مضمون المشكلة، إذ يجب أن يعرفوا أن هناك فرقاً بين الإيذاء الذي يتعرض له الإنسان وهو لا يحمل قضيّة، فيزيده الأذى شعوراً بالانسحاق، لأنه يحجز إحساسه بالألم الذي لحق به في اللحظة الحاضرة، وبين الإيذاء الذي يتعرض له وهو يحمل قضيةً ويتحرك من أجل رسالة، فيزيده الأذى شعوراً بالقوّة، لأنه يضاعف معنى التحدّي في مشاعره وأحاسيسه في عمليّة إيمانٍ بالقضية الكبيرة التي لا بدّ لها أن تستمر لتحل المشكلة من جذورها بعيداً عن كلّ عوامل التخدير...
* * *
موسى يزرع الأمل في قلوب قومه
ولهذا، فإن مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعملية التهدئة، بل ينطلق دائماً في أجواء التثوير، لأنّ المسألة ليست مسألة ذاتٍ تريد أن تستريح، بل هي مسألة أمَّةٍ تريد أن تتحرّر وتتقدم، ومسألة واقعٍ يريد أن يتغير، وهذا ما أراد موسى أن يثيره في الانفتاح على الله في أوقات الشدّة، وفي الثقة بوعده في حالات الضيق، فذلك هو الذي يجدّد في الإنسان روح القوة، ويبعث في روحه معنى الأمل... {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة، فقد أعدّ الله للطغاة مصيراً لا يستطيعون الهروب منه، ولكنّ لكلّ شيءٍ وقتاً لا يتعداه تبعاً لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته، فليكن أملنا بالله كبيراً، ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظروف التي تتحقق فيها إرادته بالنصر.
{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرضِ}، فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض، والله لا يخلف وعده، ولكنّ قضية الاستخلاف في الأرض ليست امتيازاً لأحد، بل هي المسؤولية الواعية من أجل تغيير الواقع على الأسس الإيمانية التي تُصلحُ أمر البلاد والعباد، بعيداً عن الأسس الاستكبارية الكافرة التي تفسد الحياة كلها بخطط الكفر والضلال، ولهذا فإن المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار، لما تحملون من عقيدةٍ، ولما تعيشونه من مفاهيم، ولما تتحركون به من خططٍ وأهداف، ليُعْرَفَ الصادقون من الكاذبين، والمخلصون من المنافقين.... {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في ما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون الناس والحياة... وتلك هي قصة الحكم في المفهوم الديني للإنسان؛ إنها قصة التغيير، وتحويل المسيرة من خطّ الظلم إلى خطّ العدل، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان، وليست عملية تبديل أسماءٍ وتغيير واجهاتٍ، لنبرّر الظلم باسم العدل، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان.
تفسير القرآن