من الآية 130 الى الآية 137
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـــات
{وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ* وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ* فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ* وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}(130ـ137).
* * *
معاني المفردات
{أَخَذْنَآ}: الأخذ هو التناول باليد، والمراد به هنا الابتلاء.
{بِالسِّنِينَ}: السنون جمع سنة، وهي القحط والجدب، وكان أصله سنة القحط، ثم قيل السنة إشارة إليها، ثم كثر الاستعمال حتى تعينت السنة لمعنى القحط والجدب[1].
{يَطَّيَّرُواْ}: يتشاءموا.
{طَائِرُهُمْ}: نصيبهم الذي قدّر لهم.
{الطُّوفَانَ}: السّيل الذي يعمّ بتغريقه الأرض.
{وَالْقُمَّلَ}: كبار القردان.
{الرِّجْزَ}: أصله الانحراف عن الحق، وقد أريد به العذاب هنا باعتبار أنه مسبَّبٌ عنه، من إطلاق السبب على المسبب.
{يَنكُثُونَ}: ينقضون العهد.
{الْيَمِّ}: البحر.
{غَافِلِينَ}: الغفلة: حالٌ تعتري النفس تنافي الفطنة واليقظة.
{يَعْرِشُونَ}: يبنون.
* * *
نهاية فرعون
وجاء العذاب الذي يمثّل بداية النهاية لفرعون وقومه، ويفتح المجال لبداية أخرى في اتجاهٍ معاكسٍ وهي انتصار موسى وقومه، فكيف كانت البداية؟ {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ}، وهي كناية عن الجدب الذي يتوالى في كل سنة، أو يتنوّع ضعفاً وقوّةً بين سنةٍ وأخرى، مما يربك الوضع الاقتصادي على مستوى التغذية والتنمية، ويضعف بالتالي قدرة الحكم على مواجهة المشاكل بطريقةٍ سهلةٍ عمليةٍ، ويؤدي إلى ضعف السلطة وعدم الثقة بها، ويدفع الناس الذين يعيشون مشاكل الجدب في الزراعة والنقص في الثمرات، للجوء إلى الله في رفع ذلك عنهم وإنقاذهم منه، لأن قضايا الخصب والجدب لا تخضع ـ دائماً ـ للأسباب العادية التي يملك الناس أمر التحكم فيها سلباً وإيجاباً.
وقد لا يكون من الضروريّ أن يكون هذا البلاء عقاباً مباشراً لهؤلاء بالمعنى الغيبيّ للعقاب، فقد يكون الأمر خاضعاً لأوضاع طبيعية كونية، ولكنّ الله سبحانه يريد لعباده في هذه الأمور أن يرجعوا إليه، ويلجأوا إلى رحمته، ويعرفوا بأن الله القادر على أخذ الناس بهذا البلاء من خلال قوانينه وسننه، هو القادر على إنقاذهم من ذلك بقوانينه وسننه، في ما يعرفه الناس منها مما أعطاهم سرّ معرفته، وفي ما لم يعرفه الناس مما اختص الله بعلمه. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، فيتراجعون عن تمرّدهم وعتوّهم واستكبارهم، وينسجمون مع نداء رسله للسير على خطّ رسالاته الداعية إلى عبادته وحده في كل مجالات الحياة الخاصة والعامة، ولكنهم لم يتذكّروا، بل كانوا يواجهون الموضوع بطريقةٍ أخرى.
{فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ} ونحن مستحقّون لها لكرامتنا على الله، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} فيعتبرونه مصدر الشؤم، في ما يتشاءم به الناس من الأشخاص والأوضاع، ولكنّ الله يردّ عليهم هذا المنطق {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} فهو الذي أنزل عليهم ذلك كله، وهو الذي ترجع إليه أمور العافية والبلاء {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم في غفلةٍ عن آفاق العقيدة الإلهية، في أفكارها وإيحاءاتها وامتداداتها في قضايا الإنسان والحياة، فلا يعرفون كيف يخضع الكون كله لإرادة الله في كل شيء، فلا مغلق لما فتح ولا فاتح لما أغلق، ولا رادّ لما أعطى... ووقفوا أمامه وقفة المتحدّي الذي يرفض كل آية للإيمان، مهما بلغت من القوة في الحجة والبرهان، {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}. وهكذا أعطوا الآيات التي قدّمها إليهم صفة السحر، لأنهم كانوا يبحثون عن مبرر للكفر وللتمرّد، تماماً كما هو شأن القوى المستكبرة في كل زمانٍ ومكان، عندما تحاول ضرب كل داعية للحق وللعدل، أو تشويه صورته أمام الناس؛ فتلصق به أو بدعوته بعض الصفات السلبية التي توحي بالمعاني المتخلفة البعيدة عن كل خيرٍ وصلاحٍ، ليكون ذلك مبرّراً لهم للوقوف ضده بكل ما يملكون من قوة البغي والعدوان.
* * *
الطوفان أول العقاب
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} فأغرق كل شيء من الزرع والماشية وغيرهما {وَالْجَرَادَ} الذي أكل كل ثمراتهم {وَالْقُمَّلَ} ـ بضم القاف وتشديد الميم، وهي دوابّ صغار كالقردان تركب البعير الهزيل، وبفتح القاف وتخفيف الميم وهي الحشرة المعروفة ـ وكلاهما ينزل البلاء والوباء... {وَالضَّفَادِعَ} التي يقال إنها كانت تظهر في طعامهم وشرابهم فتنغص عليهم حياتهم، {وَالدَّمَ} فقد تحوّل الماء عندهم إلى دم ـ كما يقال ـ وقيل إنهم أصيبوا بمرض الرعاف. {آياتٍ مّفَصَّلاَتٍ}َ تنذرهم وتعطيهم فكرةً عن سخط الله وعقابه. {فَاسْتَكْبَرُواْ} على الله ورسوله، في ما يعيشونه من مشاعر الكبرياء والجبروت {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} فقد تأصّلت الجريمة في أفكارهم ومشاعرهم فمنعتهم من الخضوع لأوامر الله ونواهيه.
* * *
الطغاة يعاهدون موسى على الإيمان وينكثون
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} وضاق الأمر بهم، ولم يجدوا مجالاً للاستمرار في ما هم فيه، وعرفوا أن الله هو الذي أنزل عليهم ذلك كله عقاباً لهم على أعمالهم، فلجأوا إلى موسى يتوسلون إليه أن يدعو ربه ليكشف عنهم العذاب، وعاهدوه على الإيمان وإرسال قومه معه، {قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} من كرامته ورحمته ولطفه، {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} ببركة دعائك {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فيتحقّق لك ما تريد من الإيمان الشامل برسالتك، ومن تحرير قومك من العبودية والاضطهاد... وأراد الله أن يعطيهم فرصةً للتصحيح، أو يظهر كذبهم وانحرافهم.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ} فلم يتعهد الله لهم برفع العذاب إلى ما لا نهاية، فرفعه إلى وقتٍ ما، لينظر كيف يعملون .
{إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} عهدهم وينقضونه؛ فكان الحسم الأخير، وكانت النهاية. {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} البحر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}، فكان ذلك سبب عذابهم، وهذا هو جزاء الذين لا يمنحون أنفسهم وعي الحقيقة، بل يعيشون في حالة استرخاءٍ وغفلةٍ، فينتهي بهم ذلك إلى الكفر والضّلال.
* * *
المستضعفون يرثون مشارق الأرض ومغاربها
وانتهى دور فرعون، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} ـ وهم قوم موسى ـ {مَشَارِقَ الأرضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ولعلّها الأرض المقدّسة {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} في رحمته ولطفه وإحسانه {عَلَى بَنِي إِسْرائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} على الاضطهاد والاستعباد، فلم يهزم ذلك موقفهم، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من طغيانٍ ومشاريع للسيطرة وللاستعباد، {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من بناءٍ وزروعٍ وكروم... وجاء دور بني إسرائيل، فكيف واجهوا الموقف في الأجواء الجديدة التي عاشوا فيها مع موسى؟ وكيف كانت طاعتهم لموسى؟
ـــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:8، ص:231.
تفسير القرآن