تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 138 إلى الآية 141

 من الآية 138 الى الآية 141
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هَـؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ* وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}(138ـ141).

* * *

معاني المفردات

{وَجَاوَزْنَا}؛ المجاوزة: الآخراج عن الحدّ. وجاز الوادي: قطعه وخلّفه وراءه.

{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ}: يواظبون عليها ويلزمونها. ومنه الاعتكاف، وهو لزوم المسجد للعبادة فيه.

{مُتَبَّرٌ}: من التّبار، وهو الهلاك والدمار.

* * *

موسى(ع) في نظر بني إسرائيل

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ} ليبدأوا حياةً جديدة، يبتعدون فيها عن الأجواء الفاسدة التي كانوا يتنفسون فيها الذلّ والعبودية والقهر والاستغلال، ويعيشون الكفر والضلال والعصيان، وقد شاهدوا المعجزة الكبرى في انفلاق البحر بضربة عصا موسى، وكيف جعل منه اثني عشر طريقاً يبساً، وكيف انطبق البحر على فرعون وجنوده حتى غرقوا عن آخرهم، وكيف وصلوا إلى الشاطىء الثاني من البحر سالمين بعد أن تخلّصوا من ذلك الكابوس الجاثم على صدورهم مدّةً طويلةً، فهل استوعبوا ذلك كله، فعمّقوا إيمانهم، وانفتحوا على عبادة الإله الواحد، وأغلقوا قلوبهم عن كل شيء غيره من آلهة الحجر والبشر الذين يعبدهم فريقٌ من الناس من دون الله؟ والظاهر أنهم لم يستوعبوا ذلك كله، فلم تكن رحلتهم مع موسى رحلة إيمان يبحث عن الحقيقة، بل كانت رحلة اضطهادٍ يبحث عن الخلاص. كان الإيمان مجرد واجهةٍ، وكانت الرسالة مجرد وسيلةٍ للوصول إلى الحرية. وكان موسى نبيّاً، ولكنهم كانوا يتحركون معه من موقع القائد الذي يريدونه أن يربح المعركة ضد العدوّ، لا من موقع الرسول الذي يريد أن يحقق من خلالهم ـ في الانتصار على العدوّ المتألّه الطاغي ـ أهداف رسالته في تغيير الحياة والإنسان على أساس وحي الله.

* * *

بنو إسرائيل يسألون موسى أن يجعل لهم أصناماً

كانوا يشعرون ـ في ما يبدو ـ أن النبوّة سلاح في المعركة ضد فرعون، لا حقيقةٌ إلهيّة في الحياة ضد كل ما هو زيفٌ في الفكر وفي الواقع، وهذا ما واجهه موسى في بداية التجربة الأولى في الأجواء الجديدة، حيث استيقظت كل رواسب الصنميّة في الأعماق، وبدأت تتحرك على السطح لتتحول إلى نداءٍ متوسّل إلى موسى في القيام بصناعة أصنام لهم لتكون آلهة يعبدونها، كما للآخرين آلهة.. {فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} فيقبلون عليها ويلازمونها في عبادةٍ وابتهالٍ وخشوع، فأحسّوا بالحرمان الذي يحسّ به كل من يفقد شيئاً يملكه الآخرون.

{قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـهًا} على شكل آلهة هؤلاء، فقد ابتعدنا عن مصر وعن معابد الآلهة التي اعتدنا العبادة فيها للأصنام، فكيف لا يكون لنا آلهة {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}؟! إننا نتوسل إليك أن تنقذنا من هذا الحرمان الروحي، كما أنقذتنا من ظلم فرعون؟ وتلك هي الروحيّة التي كانت تحكم طريقتهم في التفكير، وآفاقهم في الإحساس، وخطواتهم في الممارسة... وشعر موسى بالمرارة، ولكنها ليست مرارة الخيبة التي تقود إلى الإحباط وتدفع إلى اليأس، بل هي مرارة الرسول الذي يشعر بأن ما تحتاجه المرحلة من جهدٍ وتوعيةٍ وتربيةٍ لا زال كبيراً، لأن القوم لم يأخذوا قضية الإيمان كقضيةٍ للفكر وللحياة، بل أخذوها كوسيلةٍ للخلاص من العبودية، فإن التاريخ الطويل الذي عاشوه في أجواء الظلم والطغيان والشرك، قد ترك تأثيره الكبير على الملامح الداخلية والخارجية لشخصيتهم، مما يقتضي وضع خطةٍ جديدة، تختلف في وسائلها، وتتنوّع في أساليبها وأشكالها.

* * *

موسى(ع) وجهالة قومه

{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، لأنكم لم تعرفوا حقيقة الألوهية في معناها المطلق، من حيث إن الله يخلق كل شيء، ويحيط بكلّ شيء، وليس كمثله شيء، وليس بينه وبين أحدٍ من عباده قرابةٌ ليكون واسطةً بينه وبينه، فلا معنى لأن يعبد أحدٌ أحداً ليقرّبه إلى الله زلفى، لأن العمل المتحرك في خط الإيمان، هو الذي يقرب العبد من ربه، وبذلك لا معنى لإعطاء هذه التماثيل الحجرية والخشبية والذهبية والنحاسية والفضية معنى الألوهة، فهي مخلوقة لله بمادتها، ومصنوعة للإنسان بشكلها، فكيف تحمل سرّ الألوهة؟ ومن أين تحصل على القوة والقدرة؟ إنه الجهل والغفلة والسذاجة، ذلكم هو عذركم في هذا العرض وفي هذا التمني الآخرق. إنكم تتمنون أن تكونوا كهؤلاء تعبدون مثل ما يعبدون، ولكن هل عرفتم مستوى هؤلاء وقيمتهم في ما يفكرون ويعملون؟

{إِنَّ هَـؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} فإن واقعهم الذي يتخبّطون فيه يسير بهم إلى الهلاك والدمار، لأنهم يفقدون القاعدة الفكرية والروحية التي تركّز لهم منهج الحياة الشامل الواسع، الذي يحرّك طاقاتهم في الآفاق الرحبة للكون، فيشعرون معه بالحكمة التي تحكم الحياة وتدبرّها في ظل نظام دقيق تلتقي فيه حركة الكون بحركة الإنسان. وإذا تحرك الإنسان دون قاعدةٍ ثابتةٍ، ودون منهجٍ متكامل، يبقى في مهب الرياح، فلا يسكن إلى ملجأ ولا يستريح إلى أرض، وربما ترميه الرياح الهوجاء في هاوية سحيقة، حيث الهلاك والدمار في الدنيا والآخرة... {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لأنهم لا يرتكزون في عملهم هذا على حجّةٍ. وتلك هي قصّة الحق والباطل، فللحقّ سلطانه من خلال قوّة العناصر الفكرية والعملية التي تدعم مضمونه، وللباطل أهواؤه وشهواته التي تفقده الثبات، وتجعله في قبضة الاهتزاز الدائم، تبعاً لاختلاف الأهواء والشهوات التي لا تشتعل إلا لتتبخر في الهواء، كما الزبد الذي يذهب جفاءً ولا يبقى منه شيء ينفع الناس. وهذا ما أراد موسى أن يعمّقه في ذواتهم من أسلوب الإنكار على هذه الرؤية المظلمة للأشياء، ليدرسوا واقعهم المستقبليّ في نتائجه السلبية، على هدى واقع هؤلاء في النتائج السلبية الحاضرة.

ثم عاد ليربطهم بالله من خلال النعمة، {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، في ما منحكم من نعمه الكثيرة، وما ميّزكم به على فرعون وقومه من اختصاصكم برحمته وبآياته وبغير ذلك من نعمٍ كبيرةٍ في كل مجالات حياتكم... إنه تفضيل النعمة التي يختص الله بها بعض عباده لحكمةٍ هناك، لا تفضيل القيمة التي يرفع بها بعض عباده على بعض درجات في قربهم منه ومن رضوانه ورحمته، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير سورة البقرة. إنه يذكرهم بهذه النعم ليفكروا ويقارنوا، ليأخذوا النتيجة الحاسمة، وهي أن لا شيء غير الله يمكن أن يعطي الإنسان أيّة نعمة في حياته، لأنه لا يملك ـ حتى لنفسه ـ نفعاً ولا ضراً.

* * *

موسى يذكّر قومه بنعم الله عليهم

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}. هل فكرتم في هذه النعمة العظيمة، وهي نعمة الحرية التي عدتم بها أحراراً، تملكون تفكيركم وإرادتكم وحركتكم في الحياة بعد أن كنتم عبيداً لال فرعون يمارسون ضدكم كل ألوان العذاب القاسي، فيقتلون كل مولودٍ ذكر يولد لكم، ويبقون نساءكم إماءً لهم، وهذا هو البلاء العظيم الذي أنقذكم منه، بطريقةٍ معجزةٍ غير عاديّة. فهل يملك غير الله، من آلهة هؤلاء، أو من الالهة التي تريدون صنعها، أن ينقذكم من ذلك؟! فكروا جيداً وستعلمون ما معنى أن يكون الإنسان مؤمناً بالله الواحد الذي لا شريك له، وستكتشفون أنكم كنتم تقولون ما لا تعلمون وما لا تعقلون.

* * *

وقفةٌ تأمليّةٌ أمام هذه الآيات

ما معنى هذا الطلب من هؤلاء الذين جاهد موسى ليحرّرهم من فرعون على أساس رسالة الله وكلمة التوحيد، ليكونوا القاعدة القوية لحركة الرسالة الممتدة نحو تحرير المجتمع كله؟! فنحن نعلم أن جهاد موسى لم يندفع من موقعٍ عائليٍّ أو قوميٍّ، بل ارتكز على الموقع الرساليِّ الذي يجد في المستضعفين قوةً صالحةً للتحرك، ويجد ـ إلى جانب ذلك ـ في بني إسرائيل آنذاك، جماعةً قريبة الصلة بالإيمان، وبما يمثّله من قيم، لأنهم يشكّلون الطرف المضطهد المعارض للعقليّة الفرعونية وما تمثله من انحرافٍ.

ومن هنا نعرف مأساة موسى مع قومه، ومدى ما كان يحسُّه من خيبة الأمل، بعد الصراع العنيف الذي خاضه ضدَّ فرعون، والمواقف الهائلة التي واجهها، من ملاحقة القوم الكافرين له، ومن خوضه البحر ببني إسرائيل في معجزةٍ إلهيّةٍ عظيمةٍ، فأيّ طلبٍ هو هذا الطلب؟! فأين الرسالة، وأين التوحيد؟ وماذا عن إله موسى الذي كانت الدعوة إلى توحيده سبباً في كل ما حدث؟ ألم تكن تلك المعجزات والخوارق كافيةً لتركيز هذا الإيمان، كما آمن السحرة في موقف التضحية الرائعة من أجل إعلاء كلمة الله، والانسجام مع رسالته؟

ليس هناك تفسيرٌ لهذا الطلب إلاّ أنه تعبيرٌ عن الطفولة الفكرية التي يعيشونها، فربما لم يشاهد قوم موسى الأصنام الحجرية في بلادهم من قبل، حتّى إذا شاهدوها كانت الصورة مشوّقةً لهم في أن يكون لهم إلهٌ يلمسونه ويرونه في لعبةٍ عباديّةٍ حالمة، أو أنهم تذكّروا أصنامهم التي كانوا يعبدونها في ظل فرعون، عندما رأوا أصنام الآخرين.

ولم يفقد موسى هدوء الرسول، فقد كان مزاج الرسالة هو الذي يحدّد له مشاعره، لا مزاج الإنسان العادي، فكان جوابه مزيجاً من عنف الحكم على عَبَدة الأصنام بالهلاك والضلال وبطلان العقيدة والعبادة، ومن العقاب المرير لقومه، والتذكير بفضل الله عليهم، حيث أخرجهم من ظلمة الاضطهاد والعبودية إلى نور الطمأنينة والحرية، والإعلان لهم بأن قضية الإله ليست موضوعاً يمارس فيه الإنسان دوره في الاختيار والتغيير والتبديل، بل هو الحقيقة التي تهزّ أعماق الإنسان وتنير حياته، لتفرض نفسها في وعيه ووعي الكون كله.

* * *

استيحاء الفكرة في الحاضر

ولعلّنا نجد في بعض مجتمعاتنا الإسلامية ما يشابه هذه الطفولة الفكرية، ولكن في مجال آخر، فقد يكتشف بعض الناس من الحاكمين أو المحكومين، تقليعةً جديدةً من تقاليع الكفر والضلال، أو شكلاً معيَّناً من أشكال الحياة، أو تفكيراً خاصاً مطروحاً في الساحة الفكرية، من قبل تيارات الشرق والغرب، فيواجهونه، كما يواجه الإنسان الأشياء الجديدة في حياته، بالإعجاب والدهشة والتمنّي الطفوليّ باقتناء مثله أو احتذائه، لا لشيء إلا للشعور بالغيرة، أو حب التقليد والمحاكاة ومشاركة الآخرين أوضاعهم وأفعالهم، ممّا يسبّب وقوعهم في كثيرٍ من الأخطاء والانحرافات والارتباكات في حياتهم العامّة والخاصة، عندما تتحول إلى قطعٍ منفصلةٍ ترتبط كل قطعةٍ منها بفكرةٍ تختلف في جذورها ومعطياتها وأشكالها عن فكرةٍ أخرى، فيتحول الإنسان إلى مسخٍ مشوّهٍ، وتضيع الشخصية لتتوزّع بين عدّة شخصيّاتٍ متنوعةٍ في الشكل والجوهر، كما نشاهد ذلك في واقع المجتمعات الإسلامية التي تفكر على أساسٍ إسلاميٍّ في بعض جوانب الحياة، وتفكر على قاعدةٍ غير إسلاميّة في جانبٍ آخر، فتختلف ممارساتها العملية في السلوك الاجتماعي عن ممارساتها في السلوك الاقتصادي والسياسي أو غير ذلك، انطلاقاً من عقليّة بني إسرائيل، التي تجعلهم يتوجّهون إلى قادتهم بأسلوب التمنّي أو الضغط، في أن يجعلوا لهم تخطيطاً يشابه تخطيط الآخرين، وسلوكاً يماشي طريقتهم في السلوك، كما رأيناهم ـ في الآيات المتقدمة ـ يطلبون من موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لغيرهم آلهة، ولكن المنطق الرسالي الذي يفرض خطأ ذلك التفكير هو الذي يفرض خطأ تفكيرنا الجديد، لأن القضية واحدة في جذورها وإن اختلفت في شكلها، فالحقيقة واحدة لا تخضع للرغبات والنوازع الذاتية، بل للظروف الواقعية الموضوعية التي شاركت في وجودها، فهي التي تقرر أمر بقائها وزوالها.