تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 148 إلى الآية 154

 من الآية 148 الى الآية 154
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ* وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ* وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَم الرَحِمِينَ* إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ* وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(148ـ154)

* * *

معاني المفردات

{وَاتَّخَذَ}: الاتخاذ: اجتباء الشيء لأمر من الأمور.

{حُلِيِّهِمْ}: الحُليّ بضم الحاء وتشديد الياء: هو ما اتّخذ للزينة من الذهب أو الفضة.

{خُوَارٌ}: صوت الثور.

{سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ}: وقع البلاء في أيديهم، أي وجدوه وجدان من يده فيه.

{أَسِفًا}: تأتي أسف بمعنى غضب وحزن.

{تُشْمِتْ}: الشماتة: الفرح بالمصيبة ولا تكون إلا من العدوّ.

{سَيَنَالُهُمْ}: النول: اللحوق، وأصله مدّ اليد إلى الشيء الذي يبلغه.

{سَكَتَ}: أي سكن وهدأ.

{نُسْخَتِهَا}: ما نُسِخ وكُتِب منها.

* * *

موسى في مواجهة ضلال قومه

وبينما كان موسى يتابع الوحي مع ربّه، وينظّم الألواح ليحملها إلى قومه، كان السامريّ يعمل على خداعهم وإضلالهم، مستغلاً غيبة موسى الذي كان يخافه قومه، وضعف هارون الذي كان لا يحظى بالاحترام الكبير لديهم ـ في ما يبدو ـ وتفكيرهم الطفوليّ في أن يكون لهم إله ذهبيّ جميلٌ يعبدونه، على الطريقة التي كانت مألوفة في تلك المنطقة، فجمع منهم الحلى الذهبية، وعمد إلى صنع عجل متجسّد له خوار ـ بطريقةٍ فنيةٍ خاصةٍ ـ ليعطي بذلك للعجل صفة القداسة، من خلال الصوت غير المألوف الذي ينطلق منه. وقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى. وأقبلوا عليه يعبدونه دون أن يستطيع هارون منعهم من ذلك لقلة تأثيره عليهم. هذا ما ذكرته هذه الآيات باختصار مع ردّ فعل موسى، بالإضافة إلى بعض التفاصيل.

* * *

قوم موسى يتخذون العجل إلهاً

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} صنماً يعبدونه من دون الله ويؤلّهونه في خشوع وابتهالٍ. ولم تدخل الآية في تفصيل القصة، لأن الغاية من الحديث هنا عن هذه القضايا هي رصد حالات الضلال والانحراف كظاهرةٍ متكرّرةٍ مع كل نبي، فأشارت إلى القصة، ثم تابعت الحديث للتعليق عليها، {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}؟ فكيف يمنحونه صفة الإله، في الوقت الذي لا يملك فيه أيّة صفةٍ عاديةٍ تقرِّبه من طبيعة الإنسان العاقل الذي يفكّر ليهدي الآخرين بتفكيره؟ وما معنى أن يكون الشيء إلهاً؟ هل هو في امتثاله أمامهم بجموده دون أن ينطق أو يعقل أو يتحرك، ليقفوا بين يديه خاشعين خاضعين لا يملكون إلا الأناشيد والابتهالات في جوٍّ من الخيال الروحيّ المريض الغارق في بحر الأساطير؟ {اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} لأنفسهم في ما انحرفوا به عن خط الهدى والإيمان، وشعروا بالضياع، وعاشوا الندم بعد أن هدأ كل ذلك الجو الاستعراضي الذي أثاره السامري، فرجعوا إلى الله من جديد.

{وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} تعبير كنائي عن موقف النادم الذي يشعر بالإحباط. {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} وانحرفوا عن الهدى الذي عاشوه مع موسى. {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. ولعل مثل هذه الروح التي انطلقت بهذا الابتهال الخاشع النادم، توحي بأن القوم كانوا قد وصلوا إلى مرتبةٍ جيّدةٍ من الروح الإيمانية في أعماقهم، حتى إذا انحرفت بهم الطريق في اتجاه الشيطان، سارعوا إلى الرجوع إلى الاستقامة في اتجاه الله.

* * *

موسى يرجع غضبان أسفاً

هذه هي قصّة هؤلاء، أمّا موسى فقد أخبره الله بأن السامري أضل قومه {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} حزيناً، في حالةٍ يبتعد فيها النبيّ عن الغضب الذاتي، والحزن الانفعالي، فقد غضب لله الذي أشرك هؤلاء بعبادته، بعد أن أقام عليهم الحجة تلو الحجة، وحزن للرسالة، بعد هذا الجهد الضائع الذي بذله من أجل تنميتها في حياة هؤلاء وتعميقها في داخل نفوسهم.

{بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي} فتصرفتم هذا التصرف الضال في غيابي، ولم تنتظروا الانطلاقة الجديدة التي ستتحرك في حياتكم من خلال وحي الله وأمره. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} فلم تصبروا ريثما يأتيكم بالهدى والخير والبركة في شريعته...

{وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} من يده في حالةٍ انفعالية، ثم وجّه كلامه إلى أخيه هارون، باعتباره خليفته الذي أراد أن يصلح أمرهم، ويقف ضد كل عوامل الفساد التي تنحرف بهم عن مسيرتهم في خط الإيمان.

{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} في تعبيرٍ صارخٍ عن الحالة النفسية التي كان يعيشها موسى إزاء ما حدث، وربّما تحدّث الكثيرون عن مبدأ العصمة في شخصيته كنبيٍّ، وعن التساؤل الإيمانيّ في مدى انسجام هذا التصرف الغاضب مع هذا المبدأ، ولكننا لا نجد تنافياً بينهما إذا أردنا أخذ القضية ببساطةٍ بعيداً عن التعقيد والتكلف، فموسى بشرٌ يغضب كما يغضب البشر، ولكن الفرق بينه وبينهم، أن لغضبه ضوابط، فلا يتصرف بما لا يرضي الله، ولا يغضب إلا لما يرضاه الله. وقد غضب على قومه لله، وعلى أخيه هارون للغرض نفسه.

لقد اعتبر أخاه مسؤولاً عما حدث بسبب تساهله معهم، وعدم ضغطه عليهم ومنعهم من ذلك، فقد كان تقديره، أنه إذا رفع درجة الضغط، يمكن أن يساهم ذلك في منع ما حدث ـ مما لم يقم به هارون ـ فكان موسى منسجماً مع نفسه، ومع دوره وصفته في ما اتخذه من إجراءٍ مع هارون، ولكن هارون كان له رأيٌ آخر، فقد وقف ضدّهم، وواجههم بكل وسائل الضغط التي يملكها، ولكنهم كانوا لا يهابونه كما يهابون موسى صاحب الشخصية القوية التي واجه بها فرعون بكل طاغوتيته. وكانوا يرون في فرعون القدرة التي لا حدّ لها في ما كان يتميز به من قوّةٍ بدنيةٍ وروحيةٍ وقيادية... أما هارون، فقد كان ـ في ما يبدو ـ في الظلّ مجردّ تابعٍ لموسى، فلم يظهر له دورٌ إلا في المواجهة الأولى مع فرعون. فاستضعفه القوم بالرغم من مركزه كخليفةٍ لموسى ونائبٍ له. {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ}، فلم أفعل ما أحاسب عليه، لأن الظروف كانت أقوى من قدرتي، فقاومت حتى لم يعد هناك مجالٌ للمقاومة، وجابهت حتى كدت أُقتل، فإذا تصرفت معي بهذه الطريقة، فإن ذلك سوف يكون دافعاً لشماتة الأعداء بي، لأنني قاومتهم وجابهتهم، وها هم يرونني أمامك واقفاً وقفة المذنب دون ذنب، فلا تفعل بي ذلك، {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لأني قمت بما اعتقدت أنه مسؤوليتي دون تقصير.

وشعر موسى بالحرج، وسكن غضبه، فرجع إلى الله يستغفره لنفسه ولأخيه، لا لذنبٍ ارتكباه، ولكن للجوّ الذي ابتعد فيه القوم عن الله، من خلال الفكرة التي كانت تلح عليهما. إنها وقفة الإنسان الذي يحس بالذنب أمام الله من خلال تطلّعاته الروحيّة في تجربته، وتجربة الناس معه، فإذا لم يتحقّق له ذلك، كان له مع النفس حساب كبير، يفتش فيه عن احتمالات التقصير ـ دونما تقصير ـ لمجرّد الإخلاص لله والتعبير عن محبته. {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} ما يمكن أن يكون منّا من تقصير في المقدّمات، {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ}.

* * *

تساؤلات حول فكرة العصمة

وتبقى حول فكرة العصمة بعض التساؤلات، كيف يخطىء هارون في تقدير الموقف وهو نبيّ؟ أو كيف يخطىء موسى في تقدير موقف هارون وهو النبيّ العظيم؟ وكيف يتصرف معه هذا التصرف؟ ولكننا قد لا نجد مثل هذه الأمور ضارّةً بمستوى العصمة، لأننا لا نفهم المبدأ بالطريقة الغيبيّة التي تمنع عن الإنسان مثل هذه الأخطاء في تقدير الأمور، بل كل ما هناك أنه لا يعصي الله في ما يعتقد أنه معصية، أما أنه لا يتصرف تصرفاً خاطئاً يعتقد أنه صحيح مشروع، فهذا ما لا نجد دليلاً عليه، بل ربما نلاحظ في هذا المجال أن أسلوب القرآن في الحديث عن حياة الأنبياء ونقاط ضعفهم، يؤكد القول بأن الرسالية لا تتنافى مع بعض نقاط الضعف البشري من حيث الخطأ في تقدير الأمور؛ والله العالم بأسرار خلقه.

* * *

غضب الله على الضالين وتوبته على التائبين

أما هؤلاء الذين عبدوا العجل، فهم على قسمين: أولئك الذين انحرفوا ثم تراجعوا وساروا من جديد في خط الاستقامة والإيمان، وأولئك الذين استمروا على خط الضلال. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} في ما أراده الله من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، من خلال الظروف التي تحيط بهم، ومن خلال النفسية الوضيعة التي تجعلهم يواجهون الحياة من موقع صغائرها لا من موقع الأهداف العليا. وبذلك فهم يُسقطون أنفسهم تحت أقدام الأقوياء والأغنياء، ليحصلوا على بعض الشهوات والامتيازات الذاتية، فيعيشون الذل في الموقف، والانسحاق في النفسية والروحية أمام الآخرين.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} الذين افتروا على الله الكذب، فجعلوا له شريكاً من غير حجّةٍ ولا برهان. وربما نستفيد من هذه الآية، استحقاق العذاب لهؤلاء من خلال اتخاذهم العجل إذا استمروا في هذا الاتجاه، أما الذين تراجعوا فلا عقاب لهم، لأنهم بدّلوا الموقف، وابتعدوا عن الافتراء... وقد نستوحي ذلك من الآية التالية.

{وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فقد جعل الله على نفسه قبول التوبة ممن تاب إليه بإخلاص. وقد سبقت رحمته غضبه، تماماً كما تاب على المشركين الذين تمردوا على الرسالة وحاربوها، ثم أخلصوا لله الإيمان، وساروا في الخط المستقيم، وجاهدوا في سبيله.

* * *

موسى يأخذ ألواح شريعته مجدداً

وأُغلق الستار على هذا المشهد. {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ} بعد أن ألقاها من يده.. {وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} ليبدأ الجولة الجديدة في الدعوة إلى الله، لإنقاذ الضالّين من متاهات الضياع والضلال، بالهدى الذي أوحى به الله إليه في التوراة، ولينشر الرحمة الإلهية التي تحوّلت إلى منهجٍ كاملٍ للحياة في الفكر والعاطفة والعمل، وإلى حركةٍ إيمانيةٍ واعيةٍ في نطاق الحق والعدل والجهاد... وهكذا بدأت التجربة الجديدة، لتتحرك في المواقف العامة للمبادىء، فتدخل في أجواء التفاصيل في ما تتضمنه الشريعة الإلهية من تفاصيل الفكرة والموقف، فيتحرك بها الذين يخافون الله من موقع إيمانهم به، فيطبقون تعاليمه في حياتهم للحصول على ثوابه، وللنجاة من عقابه.