من الآية 155 الى الآية 158
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاي أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ* وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرهُمْ وَالأغلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (155ـ158).
* * *
معاني المفردات
{وَاخْتَارَ}: آثر وأراد ما هو خير.
{فِتْنَتُكَ}: الفتنة: العذاب، وقيل: الكشف والاختبار.
{هُدْنَـآ إِلَيْكَ}: تبنا إليك.
{إِصْرَهُمْ}: الإصر: الثقل الذي يمنع حامله من الحركة.
{وَالأغلالَ}:القيود. وتوضع في يدي الأسير أو عنقه.
{وَعَزَّرُوهُ}: قال الزجّاج: اختلف أهل اللغة في معنى قوله: {وَعَزَّرُوهُ}، وفي قولهم: عزرت فلاناً أعزره عزراً، فقيل: معناه رددته، وقيل معناه: أعنته، وقيل معناه: لمته، ويُقال: عزّرته بالتشديد: نصرته[1]. وقيل: التعزير هو الإعانة والتوقير.
* * *
موسى يختار سبعين رجلاً لميقات الله
ويستمر الحديث عن قوم موسى؛ فقد اختار موسى سبعين رجلاً ليكونوا معه في الموعد الذي ضربه الله له. ولم تفصّل السورة المسألة حول طبيعة هذا الموعد؛ هل هو الموعد الذي ذهب إليه موسى ليكلّم الله ويعود إلى قومه بالتوراة، أم أنّ هناك موعداً آخر لمناسبةٍ أخرى؟ لقد اختلف المفسرون في تحديد ذلك، انطلاقاً من شواهد قرآنية تعرّضت لما يقترب من هذه القصة، وفصّلت بعض التفصيل أسباب العذاب الذي أوقعه الله عليهم، حيث أرادوا أن يروا الله جهرةً... ورأى بعضهم أنّ هذا ما جعل موسى يطلب من الله أن يمكِّنهُ من النظر إليه استجابةً لطلبهم منه ذلك، فإذا استجاب الله ذلك فسيرونه معه، لأنهم كانوا حاضرين هناك. وحاول البعض مناقشة بعض تفاصيل ذلك، وحملها بعض على المحامل الأخرى البعيدة لبعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، ولكنّنا لا نجد كبير فائدةٍ من الدخول في مثل هذه التفاصيل، لأن القرآن أجمل القصة لابتعاد خصوصياتها عما يريده من أغراض، وهو تأكيد العقاب الإلهي لمن تمرّد وانحرف، وتقرير الفكرة التي تربط الحاضر بالماضي في قضايا الإيمان والانحراف.
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} التي أنزلها الله بهم، فماتوا بها أو أغمي عليهم عندما أخذتهم الصاعقة، كنتيجةٍ لبعض مواقفهم أو طلباتهم أو أقوالهم {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاي} فقد عقلت لسانه المفاجأة، وأخذته الدهشة، وعاش في جوٍّ ضاغطٍ من الحيرة، وربما فكر بالطريقة التي يواجه قومه بها بنبأ هلاك سبعين رجلاً منهم دفعة واحدة، فقد يثير ذلك الكثير من حالة البلبلة والارتباك في المجتمع هناك، ولم يجد لديه إلا أن يرفع الأمر إلى الله ليعبر عن هذه الحيرة وهذا الخوف، وعن التمني الحائر لو أن الله أهلكه معهم قبل هذه التجربة الصعبة... ولكنه يرجع إلى روحية الابتهال والخشوع لله والتوسل الصادق إليه {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ}؟! فنحن لا نتحمل مسؤوليتهم، لأننا لم نشاركهم أعمالهم وأقوالهم، ولم نرض بها من قريبٍ أو بعيد {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ}.
* * *
من هم السفهاء الذين عناهم موسى(ع)؟
ولكن من هم السفهاء الذين عناهم موسى بقوله، هل هم هؤلاء السبعون، أم أنّ هناك أناساً آخرين؟ وهل كان موسى في موقف الحديث عن هلاك هؤلاء بما فعله السفهاء من غيرهم أو بما فعلوه هم، أم كان في موقف الخوف من هلاكٍ مستقبليٍّ للمجتمع، كنتيجةٍ لانحراف سفهاء بعض الأفراد فيه؟ هناك أكثر من احتمال، ولكن الظاهر أنه كان في موقف طلب الرحمة من هلاكٍ محتملٍ من خلال انحراف المنحرفين هناك، والرجاء بأن لا ينزل عقابه عليهم جميعاً لانحراف بعض الأفراد من السفهاء على طريقة: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّة..} [الأنفال:25] {أَنتَ وَلِيُّنَا} وراعينا وناصرنا في جميع أمورنا، فإذا صدر منا الذنب فإننا نرجو المغفرة منك، وإذا عشنا الخطأ فإننا نتطلع إلى الرحمة لأنك وليُّ ذلك كله.
* * *
موسى(ع) يسأل الله المغفرة
{فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} فنحن نلجأ إليك ولا نلجأ إلى غيرك، ونتحرك في اتجاه الإخلاص إليك في العمل ليكون لنا بذلك النجاح في الدنيا والنجاة في الآخرة... وتلك هي حسنة الدنيا، وحسنة الآخرة {وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ} أي رجعنا إليك وأنبنا بقلوبنا وأرواحنا وخطواتنا العملية…
وتلك هي التطلعات الروحية التي عبّر بها موسى عن تطلعات كل مؤمنٍ يعيش خوف الله، فكيف أجابه الله؟ {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} تبعاً للحكمة التي تفرض العذاب على من يستحقه حيث لا مجال لمغفرة أو رحمة. {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ففي كل مظهرٍ من مظاهر الوجود، مظهرٌ للرحمة التي أفاضها على الحياة فتحوّلت إلى حركةٍ واسعةٍ تنتج الخير والبركة لكل شيءٍ، وفي كل نعمةٍ من نعم الحياة على الناس في ما يأكلون ويشربون ويلبسون ويستمتعون ويتقلّبون في رزقه... منطلقٌ للرحمة لمن يؤمن به ويطيعه، ولمن لا يؤمن به ويعصيه. وغداً إذا وقف الناس بين يديه، من المذنبين المسيئين والمطيعين والمحسنين، فسيجدون رحمته بانتظارهم، فيغفر لهؤلاء ما قدموا من خطايا، ويرفع درجة أولئك لما قدّموا من حسنات. وستتحرك رحمته في كل اتجاه، لتمنح الناس من رضوانه ومغفرته ما يوحي لهم بأن رحمته سبقت غضبه.
ولكنّ هناك من لا يستحقّ الرحمة من الله، لأنه قطع على نفسه كل طرق الإمداد، وأغلق عن حياته كل منافذ المغفرة، لأنه أساء كما لم يُسِيء أحد، فكفر بالله وأشرك به ما لم ينزل به سلطاناً، ولهذا فقد أخذ الله على نفسه أن لا يغفر لمن أشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولن يشاء المغفرة إلا لمن كان في قلبه نبضٌ من رحمةٍ، وحركةٌ من محبة، وانطلاقة من إيمانٍ... أمَّا القلوب السوداء بالقسوة، الجامدة بالحقد، المختنقة بالكفر، فلن تنال المغفرة، لأنها لم تنفتح على الله في شيء، فكيف يمكن أن تأمل بانفتاح الله عليها بالرحمة؟!
* * *
المتقون هم الذين يتبعون النبي الأمي
{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ويعيشون الخوف من الله، كمنهجٍ للسير في خط الفكر والعمل في الحياة، فيمنعهم ذلك من التمرد عليه بمعصيته، ويدفعهم إلى الانقياد له بطاعته، وذلك في ما تمثله التقوى من التزامٍ روحيٍّ وعمليٍّ بالله. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ} في ما تمثّله الزكاة من حركة الرحمة في حياة الإنسان، بما توحي به من روحية العّطاء، وحيويّة المحبّة، وفاعلية الإيمان… {وَالَّذِينَ هُم بِـَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} في ما يثيره الإيمان بآيات الله من انفتاح للعقل على الآفاق الرحبة للمعرفة، وإذعان منه بالحقيقة الواضحة في أجواء الله، فإنّ الله يحب العقل المنفتح، والروح المؤمنة التقية المذعنة للحق.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} فينفتحون على ما تُقدّمه إليهم التوراة والإنجيل من دلائل وبراهين على صدق نبوّته ورسالته، فيؤمنون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله... {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الأمر الذي يحقّق الانضباط لحركة المجتمع في علاقاته ومعاملاته وتصرفاته العامة، بحيث يكون الطابع العام للمجتمع هو الرقابة على بعضه البعض في تأكيد الخطّ المستقيم في جميع الاتجاهات، وذلك بطريقةٍ عفويةٍ إيمانيةٍ، لا تكلّف فيها ولا ارتباك. {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} في ما يريد تحقيقه للإنسان في حياته من الاستمتاع بطيباتها في ما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه ويتلذّذون به، ومن الابتعاد عن خبائثها التي تسيء إلى أجسادهم وأذواقهم وأرواحهم، لأنّ الله لم يمنح الإنسان الحرية في الإساءة إلى نفسه، ولذلك حرّم عليه ما يؤدي إلى ذلك. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرهُمْ} الذي يثقل عليهم في حياتهم وأوضاعهم من تشريعاتٍ سابقةٍ أو لاحقةٍ، {وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} في ما كان يقيّدهم به في شرائعهم من الأشياء الشاقة. ويمثلون لذلك باشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك من الأمور التي قيل إنها كانت من التشريعات الصعبة في التوراة...
* * *
الخطوط العامة التي تميز الشريعة الإسلامية
وهذه الخطوط العامة هي ما يميّز الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد(ص)، وهي تتحرك في حياة الناس في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى؛ هي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. فليس هناك عمل يأمر به الإسلام، إلا وهو خاضعٌ لعنوان المعروف، ويعني ما يعرفه الناس في وجدانهم لانسجامه مع المبادىء الخيّرة والقيم الروحية، وارتكازه على قاعدة المصلحة الإنسانية، أو ما لو عرف الناس أساسه التشريعي لأصبح قريباً ممّا يعرفونه أو يألفونه في ما يرتبط بحياتهم المستقبلية... وليس هناك عمل ينهى عنه الإسلام إلاّ وهو خاضعٌ لعنوان المنكر الذي هو ما ينكره الناس في فطرتهم الإنسانية لنتائجه السلبية على حياتهم، ولارتكازه على قاعدة المفسدة والمضرة التي تسيء إلى حركة التوازن في الحياة. وربما كان لهاتين الكلمتين «المعروف» و «المنكر» بعض الإيحاء بأن التشريع ينسجم مع الخطّ الوجداني للفطرة الإنسانية السليمة التي لا تعرف ولا تألف إلاّ الخير، ولا تنكر أو ترفض إلاّ الشرّ، فإذا عرفت الشر، وأنكرت الخير، فإن ذلك يعني الانحراف عن الاستقامة في الفكر والوجدان والشعور.
النقطة الثانية؛ تحليل الطيّبات وتحريم الخبائث، فليس في ما أحلّه الله إلا الطيّب الذي يرتاح إليه الذوق الإنساني، في ما يتذوّقه الناس من الأشياء الطيّبة، أو الذي يلتقي بالمنفعة لحياتهم في أرواحهم وأجسادهم، وليس في ما حرّمه الله إلا الخبيث الذي تعافه النفس، ويستقذره الذوق، وترفضه الفطرة... وإذا كان الناس يستطيبون بعض المحرّمات أو يعافون بعض المحللات، فلأنهم كانوا لا ينظرون إلا إلى الجانب السطحي من تلك الأشياء، ولا يتطلّعون إلى أعماقها ليكتشفوا الجانب الخبيث في عناصرها الذاتية التي يستطيبون، وليعرفوا الجانب الطيب في أعماق الأشياء التي يعافونها، لأنّ المقياس في ذلك كله هو في الخصائص الذاتية للأشياء وللأعمال وليس في الجوانب الظاهرية منها.
النقطة الثالثة؛ الإصر وهو الثقل والأغلال، فليس في الإسلام حكم يثقل على الإنسان القيام به، إلا بما يفرضه التكليف في ذاته من ثقلٍ طبيعيٍّ يمارسه الإنسان بطريقةٍ عاديّة... وقد رفع القيود التي فرضتها بعض الظروف والأوضاع السلبية لدى الشعوب الماضية، مما اقتضى الشدّة في التشريع والصرامة في التحريم. وبذلك كانت الشريعة الإسلامية شريعة التخفيف والتسهيل والتسامح في كل أحكامها المتعلّقة بالفرد أو بالمجتمع.
* * *
الإسلام يختزن في داخله آفاق حركة الحياة
وهكذا نجد أنّ الإسلام يختزن في داخله، في ما يحمل من مفاهيم وما يخطط من وسائل وأهداف، أو يشرّع من أحكام، آفاق حركة الحياة، على أساس تحقيق المعروف وإبعاد المنكر، وتحليل الطيّب، وتحريم الخبيث، ورفع الأثقال، وتحرير الإنسان، ليكون الإسلام هو الدّين الذي يلتقي بالفطرة السليمة للإنسان، وليتحقق له بذلك سلام الحياة في قضاياها الكبيرة والصغيرة، لأن ذلك هو السبيل الذي أراد الله للسائرين فيه أن يحققوا من خلاله إنسانيتهم على أساسٍ من الشعور العميق بالحاجة إلى الحرية والوعي والإيمان، ليصلوا ـ من خلال ذلك ـ إلى هدف الفلاح في الدنيا والآخرة.
* * *
المؤمنون هم المفلحون
{فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ} فأعانوه في تأدية رسالته، وعرفوا عظمته فاحترموا مكانته، {وَنَصَرُوهُ} في جميع معاركه ضد الكفر والشرك والضلال، {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} فانطلقوا مع القرآن في جميع مفاهيمه وتشريعاته التي تضيء للحياة طريق الفلاح والنجاح، واتّبعوا ذلك كله، وحوّلوه إلى برنامجٍ كاملٍ للفكر وللحياة... {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الذين أفلحوا في حياتهم الدنيا، لأنهم أقاموها على قاعدةٍ ثابتةٍ من الإيمان والفكر والصلاح، وأفلحوا في حياتهم الآخرى، لأنهم انفتحوا عليها انفتاح المؤمن الذي يعي جيداً أن طريق الجنة يمر بالإيمان والتقوى والعمل الصالح، لأن ذلك هو موضع رضى الله سبحانه في الحياة.
وقد نستوحي من هذه الآية أن الله سبحانه يريد لهؤلاء الذين عرفوا الكتاب الذي أنزله على رسله، أن يتعرفوا صدق النبي محمد(ص) من خلال دراسة رسالته في ما تأمر به وتنهى عنه، وما تحلّه وتحرّمه، وما تقدمه للناس من تشريعاتٍ تساعدهم في التخلص ّمن أثقال الحياة التي تقيّد حريتهم وإنسانيتهم... وربّما يوحي ذلك بأن الرسالات تتشابه في خطوطها التشريعية في ما تتحرك به من مبادىء عامّةٍ، فيمكن للإنسان أن يتعرف صدق أيّة دعوةٍ رساليّةٍ من خلال دراسة العناصر الحية البارزة التي تكمن في خط الرسالات، من دون انتظارٍ لمعجزةٍ خارقةٍ أو نحو ذلك، مما يدلّ على أن العقل الواعي هو الحجة القوية التي يرتكز عليها الإيمان.
* * *
محمد رسول للعالمين
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، فلست رسولاً محلياً أو قومياً، بل أنا رسولٌ عالميّ يواجه مشاكل الناس كلّهم بالحلول الواقعية المرتكزة على أساس مصالحهم في دنياهم وآخرتهم... وهذا النداء الصادر في مكة ـ لأن الآية مكية ـ يؤكد عالمية الرسالة الإسلامية، خلافاً لبعض آراء المستشرقين الذين يرون أن دعوة محمد(ص) كانت محليةً في البداية، قبل أن تنطلق خارج النطاق المحلي في المدينة. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ} فإذا كانت له هذه السيطرة المطلقة على السموات والأرض والحياة والموت، وإذا كان هو الإله الذي لا إله غيره، لأن كل من عداه مخلوقٌ له، فلا بد من أن يُخضع له في اتّباع رسوله في رسالته وإطاعة أمره ونهيه، لأن ذلك هو مظهر الإقرار بوحدانيته والاعتراف بالعبودية له. وقد استوحى العلاّمة الطباطبائي في الميزان أنها «بمنزلة تعليلٍ يبين بها إمكان الرسالة من الله في نفسها أولاً، وإمكان عمومها لجميع الناس ثانياً، فيرتفع به استيحاش بني إسرائيل أن يرسل إليهم من غير شعبهم وخاصةً من الأميين، وهم شعب الله، ومن مزاعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، وهم خاصة الله وأبناؤه وأحباؤه. وبه يزول استبعاد غير العرب من جهة العصبية القومية أن يرسل إليهم رسولٌ عربيٌ. وذلك أن الله الذي اتخذه رسولاً هو الذي له ملك السماوات والأرض، والسلطنة العامة عليها، ولا إله غيره حتى يملك شيئاً منها، فله أن يحكم بما يشاء من غير أن يمنع عن حكمه مانع يزاحمه، أو تعوق إرادته إرادة غيره، فله أن يتخذ رسولاً إلى عباده وأن يرسل رسوله إلى بعض عباده أو إلى جميعهم كيف شاء. وهو الذي له الإحياء والإماتة، فله أن يحيي قوماً أو الناس جميعاً بحياة طيبة سعيدةٍ، والسعادة والهدى من الحياة، كما أن الشقاوة والضلالة موت..»[2] .
ولكننا نتحفّظ في استيحاء ذلك من هذه الفقرة، لأن الظاهر منها، بدليل الفقرات التالية، أنها واردةٌ في مجال تأكيد القوة المطلقة والهيمنة الكلية لله، كأساسٍ للدعوة إلى الإيمان به والاستجابة لرسوله...
* * *
دعوة للإيمان بالله ورسوله
{فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} وهذا التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة، فلم يقل آمنوا بي، امتداداً لما سبق من كلامه، لأنه يريد أن يؤكد لهم الصفة التي تفرض عليهم موقف الإيمان والالتزام، ويوحي إليهم بأن الرسول الذي يدعوهم إلى الإيمان، هو أوّل من يركّز عقيدته على هذا الأساس، فهو {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلماتِهِ} في كلّ ما أوحى به من كتبه ورسالاته، كإنسان يعيش الفكرة ويدعو لها، فهو يتحرك من موقع المعاناة الروحية التي انطلقت من الرسالة، فتحولت إلى تجربةٍ حيةٍ رائدةٍ. وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في تأكيد إيمان الرسول بما يدعو إليه، للإيحاء بأن صاحب الدعوة لا بد له من أن يؤمن بها ويلتزم قبل أن يدعو الآخرين إليها، لا كمن يقود الناس نحو مسؤوليةٍ معينةٍ ثم يكون أوّل الهاربين منها. {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لأنه لن يقودكم إلا إلى الطريق المستقيم الذي يوصلكم إلى النهايات السعيدة المشرقة في أقرب وقت. وربما كان التعليل بـ «لعلّ» التي لا تفيد معنى الحسم في النتائج، للإيحاء بأن الاتّباع يحمل للنفس الحائرة روح الأمل والرجاء الكبير، الذي يدفع الإنسان للامتداد في هذا الاتجاه كوسيلةٍ عمليّةٍ للوصول إلى الهدى الواضح المشرق في نهاية المطاف.
ـــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:748.
(2) تفسير الميزان، ج:8، ص:289.
تفسير القرآن