تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 164 إلى الآية 167

 من الآية 164 الى الآية 167
 

بسم الله الرحم نالرحيم

الآيـات

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ* فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ* وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(164ـ167).

* * *

معاني المفردات

{مَعْذِرَةً}: عذراً.

{بَئِيسٍ}: شديد.

{عَتَوْاْ}: عصوا، وخرجوا إلى أفحش الذنوب.

{خَاسِئِينَ}: صاغرين ومبعدين.

{تَأَذَّنَ}:من الأذان وهو الإعلام.

{يَسُومُهُمْ}: يذيقهم.

* * *

اختلاف المؤمنين من بني إسرائيل في الموقف من المتمردين منهم

وتعاظم التمرّد على الله في وسط بني إسرائيل، واختلف المؤمنون الطائعون لله في تحديد الموقف من أولئك المتمردين، وفي طريقة مواجهتهم، فكان بينهم اليائسون الذين يرون عدم الجدوى في أساليب الوعظ والإرشاد، لأن القوم قد تجاوزوا الحدود الطبيعية في الفسق والعصيان، وقطعوا شوطاً بعيداً في هذا الاتجاه، وأغلقوا آذانهم وقلوبهم عن أيّة كلمةٍ هاديةٍ ناصحةٍ، وكان بينهم الرساليون الذين يشعرون بأن الدعوة يجب أن تحرَّك في كل أفق، لتشرق فيه مهما كانت أوضاع الظلام في أجوائه، وأن الكلمة الواعظة الناصحة يجب أن تقال لكل إنسان، لتبعث فيه الإيمان والصلاح، مهما كانت قوة عناصر الفساد والضلال في داخله، لأن هناك جانباً من الخير يتحرك دائماً في قلب الإنسان إلى جانب العوامل الأخرى، فلا بد لنا أن نرعاه ونقويه، ونستفيد من كل فرصةٍ ممكنةٍ في إيقاظه وتنميته، من أجل إفساح المجال له لدفع الإنسان إلى الاتجاه الصحيح. ولا مجال لليأس في حركة الرسالة في الحياة، لأن عملية النمو والتحرك، لا تواجه الساحات الخالية من التعقيد، بل تواجه الساحات المعقّدة التي تتشابك فيها المشاكل وتتعقد فيها الأوضاع، وتتمرّد فيها الأفكار، لتفتح طريقاً هنا، ونافذةً هناك، وتثير في موقعٍ آخر كثيراً من التساؤلات التي تفتح في حركة الوجدان بعض الانفتاح على الحقيقة، من خلال ما تحدثه من الاهتزاز الداخلي في الإنسان، وربما كان السرّ في ذلك أنّ الإنسان ليس كياناً جامداً لتتجمّد فيه المواقف، أو تتحجّر لديه الأفكار، بل هو كائنٌ متحركٌ قابل للتأثر بعوامل التغيير التي قد تنفذ إلى تفكيره أو أحاسيسه، وتوحي له بضرورة استبدال اتجاه حركته باتجاه آخر.. وهكذا ينبغي للعاملين أن يرصدوا الحالات الفكريّة والشرعيّة والاجتماعيّة للانطلاق منها إلى آفاق جديدة في حركة الرسالة في الحياة الإنسانية.

* * *

الإصرار على الإصلاح معذرة إلى الله

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} لأمة أخرى كانت تقوم بمهمة الوعظ والإرشاد للمتمردين العاصين {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا}، لأنهم تجاوزوا كل الحدود المعقولة في ضلالهم وعصيانهم، مما يجعل من الوعظ شيئاً عقيماً لا جدوى منه؟! فقد ساهمت تصرفاتهم في غضب الله عليهم بالمستوى الذي لا مجال فيه إلا لهلاكهم وتعذيبهم عذاباً شديداً.

{قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}، لنعذر إلى الله بأننا قد قمنا بواجبنا في تجربة الدعوة إليه، وفي الإعلان عن رفضنا لهذا الخط المنحرف بطريقة إيجابيّة في سبيل التغيير... وربما كان في كلمة «ربكم» بدلاً من كلمة «ربنا» بعض الإيحاء لهؤلاء المعترضين بأن المسألة ليست مسألتنا، فلا بد لكم أن تقدموا العذر إلى ربكم في الموقف، كما يجب أن نقدمه إليه في أسلوبنا العملي، لأنه ربنا وربكم.

{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فإذا كان هناك احتمالٌ واحدٌ للوصول إلى نتيجةٍ إيجابيةٍ في خط التقوى لديهم، فيجب أن يُلاحَقَ في تجربةٍ عمليةٍ واعيةٍ، لأن من الممكن أن تنجح التجربة الأخيرة في ما لم تنجح فيه التجارب السابقة، مما لا يجعل مجالاً لليأس... ثم ما معنى أن يفكر الدعاة إلى الله في الانسحاب من الساحة أمام عوامل اليأس، في الوقت الذي تفرض عليهم فيه الدعوة محاربة كل هذه العوامل السلبيّة، ومواجهتها بصبرٍ وثبات، ليفتحوا في داخلها عناصر الأمل.

* * *

الله يمسخ المصرّين على الكفر قردة

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} ولم يفتحوا قلوبهم على الذكرى الواعية التي تفتح القلوب على الله، وواجهوها بطريقة اللامبالاة، بعيداً عن أيّة مسؤولية عامّةٍ أو خاصة، {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} من العذاب الذي حل بهؤلاء، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والضلال {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}، وذلك هو جزاء الفاسقين الذين لا ينفتحون على الموعظة، ولا يلجأون إلى الفكر والتأمُّل في قضايا العقيدة والحياة... {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ}، وتمرّدوا على الله، فعصوا أوامره ونواهيه، وبالغوا في ذلك، مسخناهم و{قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، وذلك هو غاية عقاب الدنيا قبل عقاب الآخرة.

* * *

عذاب بني إسرائيل إلى يوم القيامة

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي أعلم رسله {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} في إيحاءٍ بالقسم، في استمرار العذاب ما داموا مستمرين على هذا الخط المنحرف البعيد عن الله {مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} فيعذّبهم ويواجههم بكل وسائل الضغط والإذلال والتعذيب... وليس معنى ذلك أن لا تكون هناك مرحلة من المراحل تعطيهم بعض الأمن أو الراحة، لأن قضية الامتداد إلى يوم القيامة تعني الامتداد في حجم الظاهرة العامة، بالمستوى الذي يوحي بالاستمرار الذي لا تقف فيه الراحة عند حدٍّ عنصريٍّ ضد الآخرين من غيرهم، انطلاقاً من شعورهم بالتفوّق الذاتي على كل الناس، مما يخلق في داخلهم شعوراً دائماً بالاضطهاد في أيّ موقعٍ من مواقع الامتيازات المادية أو المعنوية التي يملكها الآخرون، باعتبار أنها مسلوبةٌ منهم، لأنها من حقوقهم ولأنّ الحياة لهم بأجمعها، في ما تمثّله شخصية شعب الله المختار.

وقد يغريهم ذلك بالتخطيط العدواني ضد الشعوب التي يعيشون بينها، بما يملكون من وسائل دقيقةٍ خفيّةٍ تهيّىء لهم السيطرة على مرافق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة، مما يمكّنهم من الاعتداء على حرية هذه الشعوب وتقدّمها في جميع المجالات. ومن الطبيعيّ أن مثل هذه المخططات لا بد من أن تثير الكثير من عوامل الحقد المضادّ، ومن ردود الفعل الأخرى في اتجاه مواجهة العدوان بمثله، ومن المشاعر السلبية ضد اليهود في شعور خفيٍّ بالعداوة التي تبحث عن متنفّسٍ لها في الممارسات العملية على مستوى العلاقات العامة والخاصة، وبذلك يتحول هذا الصراع النفسي إلى صراعٍ حادٍّ متحرك في اتجاه القضاء على هذه الروح العنصرية الحاقدة، ما دامت مستمرةً في تآمرها وعدوانها... وربما كان للتربية المعقدة التي تخضع لها عملية التوجيه الداخلي للإنسان اليهودي، وللقوانين الصارمة التي تتحرك فيها مبادىء الانتماء إلى الشخصية اليهودية، الأثر الكبير في استمرار المجتمع اليهودي المنغلق على نفسه، مما يمنع من ولادة جوّ منفتحٍ على الحياة من خلال المبادىء الإنسانية والروحية في قيم الدين والحياة، لأن تلك المبادىء لم تنطلق لديهم كقيمةٍ روحيةٍ إيمانية، بل انطلقت كوجهٍ من وجوه النشاط الذي يتيح لهم إمكانية استغلال الشعوب الأخرى التي تؤمن بها إيماناً حقيقياً من أقرب طريق... وهكذا يستمرون في إثارة عداء الشعوب لهم، حتى في أوج قوتهم وسيطرتهم، فتذيقهم تلك الشعوب العذاب بطرقٍ مختلفة، وذلك هو عذاب الله الذي يذيقه للمتمردين الحاقدين بما كسبوا من جرائم وأعمال. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} في موضع العذاب والنقمة، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }في موضع العفو والرحمة.