تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 168 إلى الآية 171

 من الآية 168 الى الآية 171
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخرةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ* وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(168ـ171).

* * *

معاني المفردات

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرضِ أُمَمًا}: فرقناهم جماعات.

{خَلْفٌ}: بسكون اللام: قوم لاحقون أشرار، وبفتحها أخيار.

{عَرَضَ}: العرض: الشيء الزائل الذي لا ثبات له.

{وَدَرَسُواْ}: قرأوا.

{يُمَسِّكُونَ} بالشيء: يعملون به، ويعتصمون.

{نَتَقْنَا}: رفعنا أو قلعنا.

{ظُلَّةٌ}: كل ما أظلّك فهو ظُلَّة بضمّ الظاء.

* * *

بنو إسرائيل يتفرقون في الأرض جماعات

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرضِ أُمَمًا} وتفرقوا في الأرض جماعاتٍ، ففي كل بلدٍ جماعة، وتفرقوا في الاتجاهات، فلكلٍ اتجاهٌ في طريق الخير والشر وفي خط الصلاح والفساد. {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ} الذين أصلحوا أمرهم في العقيدة وفي العمل {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ}، أي في المرتبة السفلى، وهم غير المؤمنين، ممن أفسدوا على أنفسهم أمر الحياة في الفكر والأسلوب والممارسة...

{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فعاشوا الصحة والمرض، والشدّة والرخاء، والأمن والخوف، والنعماء والضرّاء، من أجل أن يرجعوا إلى الله ويلجأوا إليه في أوقات البلاء، ويعرفوا نعمه وألطافه في أوقات العافية، فيعمّق ذلك إيمانهم، ويقوّي إرادتهم في اتجاه الخير، ولكن الحال بقيت على ما هي عليه، حتى جاء الجيل الجديد الذي يحمل الكتاب، لا كرسالةٍ للحياة من أجل رفع مستواها وتحقيق أهدافها الكبرى، بل كسلعةٍ من سلع التجارة من أجل تحقيق الربح المادي، ولذلك فهم يستغلّون بعض المفاهيم الغائمة ليستفيدوا منها في عمليات التضليل، ويحرّفون بعض المفاهيم عن مواقعها الحقيقيّة ليصلوا من خلالها إلى أطماعهم وغاياتهم المنحرفة...

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدنَى} من مالٍ وجاهٍ وشهواتٍ وغير ذلك من متاع الحياة الدنيا، ويسخّرونه في معصية الله، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} لأننا شعب الله المختار، فلا يمكن أن يعذّبنا الله بذنوبنا، أو يؤاخذنا على أعمالنا، لأنّ الله لا يعذب شعبه. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} لأنهم يعيشون حياتهم من أجل الحصول على هذا العرض الزائل، فلا يكتفون بفرصةٍ واحدة في سبيل تحقيق غاياتهم، بل يعملون على انتهاز أيّة فرصةٍ جديدة في الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب المادية.

* * *

الله يناقش الأوضاع المنحرفة لليهود

وينطلق القرآن ليناقش أوضاعهم المنحرفة التي لا تتفق مع المواثيق والعهود الإلهية، التي ألزم بها عباده من أجل الالتزام بالمنهج الحكيم الذي يركز الحياة على قاعدةٍ ثابتة من الحق والعدل والاستقامة على الطريق السويّ... {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}؟! فكيف التزموا بالباطل وأعلنوه ودعوا إليه، ونسبوه إلى الله بغير علمٍ ولا هدى؟! هل يمكن أن ينسبوا أنفسهم إلى الجهل، وهم قد أخذوا الكتاب {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} وفهموا أحكامه وقضاياه؟ فما معنى هذا السلوك المنحرف، وهم يدَّعون الإيمان بالله وبالكتاب؟ ولكنّ القضية ليست قضية علمٍ أو جهل، بل هي قضية أطماع وشهواتٍ تختفي وراء كثير من الأقنعة والواجهات، بعيداً عمّا هو العهد والميثاق والكتاب...

{وَالدَّارُ الآخرةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ويلتزمون بعهد الله وميثاقه، ويعملون بكتابه. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وتفكرون في النتائج السلبية والإيجابية على مستوى الدنيا والآخرة، فإنكم لو انطلقتم مع العقل في موازينه ومقاييسه، لاستطعتم اكتشاف كثيرٍ من السلبيات في ما تعملون، وكثير من الإيجابيات في ما ينبغي أن تعملوه مما تركتموه وراء ظهوركم. وذلك هو نموذج هؤلاء الذين أضاعوا الكتاب. {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ} وهم الذين يحوّلون مفاهيمه إلى عقيدةٍ وحركة حياةٍ، ويقيمون الصلاة كتعبيرٍ عن عبوديتهم لله وخضوعهم له، فإنّ الله سيجزيهم أفضل جزاء المحسنين المصلحين في الدنيا والآخرة. {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} الذين انطلقوا في الحياة من موقع الصلاح والإصلاح في حياة أنفسهم وفي حياة الآخرين.

* * *

الله يرفع الجبل فوق اليهود كالغمام

{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، أي قلعناه ورفعناه فوقهم تماماً كما لو كان غماماً يُظِلّهم. {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}، لأنهم لم يجدوا شيئاً يمسكه ويمنعه من الوقوع عليهم، ولكنها قدرة الله التي لم ينتبهوا إليها. وتلك هي المعجزة التي جمعت جانب التخويف إلى جانب إظهار عظمة الله وسرّ قدرته، من أجل أن يأخذوا الكتاب في عقيدته وشريعته بقوّة الالتزام والممارسة والدعوة... {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} من هدايةٍ وخيرٍ وصلاح، ولا تضعفوا أمام التحديات الصعبة التي تواجهكم من قِبَل الأعداء، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في ما تنطلق به القوّة من جهةٍ والوعي من جهةٍ أخرى، من موقف التقوى الذي يدفع الإنسان إلى اللقاء بالله على أساس متين.