من الآية 172 الى الآية 174
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـذَا غَافِلِينَ* أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ* وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (172ـ174).
* * *
معاني المفردات
{ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ الذرية: سلالة الإنسان من ذكورٍ وإناث.
* * *
فطرة الإنسان تشهد لله تعالى بالربوبية
إن الله يؤكد في آياته على إقامة الحجّة على الناس، في ما منحهم من وسائل الهداية ودلّهم عليه من سُبُلها، فلا حجّة لهم في كُفرٍ أو في معصيةٍ، بالرغم من محاولتهم التعلق ببعض الأوهام التي يعتبرونها أساساً لما يسيرون فيه من طرق الضلال، أو ينحرفون به من سبيل... وفي هذه الآيات بعض الحديث عن ذلك.
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فقد أودع في أصلاب الرجال النطف التي يخلق منها الذرية بالوسائل الطبيعية، على أساس ما جعله من قوانين الخلق والإيجاد {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ}؟ ولكن هل كان هذا الإشهاد جماعياً دفعةً واحدةً، أو كان تدريجياً على أساس السنّة الطبيعية للخلق في إخراج الأبناء من أصلاب الآباء؟! ليس هناك في الآية ما يؤكد الاحتمال الأول، لأنّ مجرّد الحديث عن الموضوع بطريقة الجمع لا يدلّ على ذلك، لأن الطريقة القرآنية جرت على الحديث عن القضايا الإنسانية التي تخضع لعنوانٍ واحدٍ أو موقفٍ مشتركٍ بأسلوبٍ يوحي باعتبارها ظاهرةً واحدة، في الوقت الذي لا تكون مثل هذه القضايا مجموعةً في زمانٍ واحدٍ، لأنّ الهدف هو الحديث عن الفكرة المشتركة التي تجمع الكلَّ، بعيداً عن طبيعة الخصوصيات الفرديّة المتمثّلة فيها على صعيد وجودها الخاص، بل ربما نجد ما يؤكد الاحتمال الثاني، لأن الظاهر أن إخراج الذرية من الظهور واردٌ على سبيل الكناية عن عملية الخلق والإيجاد الفعلي، كما في الآيات التي تتحدث عن خلق الناس جميعاً من دون تفصيلٍ للطريقة التدريجية في ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، كانت المسألة ظاهرةً في تدريجية الوجود، لأن الخلق الفعلي كان على هذا الأساس.
وعلى هذا، فإنّ المراد بالإشهاد، هو الإشهاد المنطلق من عملية الخلق، في ما أودعه الله في كل واحدٍ من الدلائل والبراهين على وجوده وتوحيده، من خلال الفطرة التي أودعها في تكوين الإنسان، مما تعتبر شاهداً على قضية الإيمان في ما توحي به من أفكار، وما تثيره من مشاعر، إذا لم ينحرف بها الإنسان عن مسارها الطبيعي بسوء اختياره. وبهذا يكون كل فردٍ من بني آدم شاهداً على نفسه بفطرته التي تنطق بذلك، بنفس حركة الوجود في كيانه من دون كلام، لأن الفطرة تحس بالحاجة إلى الله في كل شيء، فالإنسان لا يملك أيّة إمكانيةٍ للوجود، أو إمكانية لاستمراره بعيداً عن الله، ممّا يجعل من وجوده وجوداً مرتبطاً بالله في كل شيء. ففي كل نبضة من نبضاته هاتف يهتف بالوحدانية. {قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} بأنك أنت الله ربّنا لا إله إلا أنت، منك الحياة، وبإرادتك تستمر بنا.
{أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـذَا غَافِلِينَ} أي لئلاّ تقولوا في حالة اختياركم للخط المنحرف في الإيمان والعمل، أو تحتجّوا بالغفلة الفكرية والروحية عن مسألة الوحدانية، لأنكم لا تملكون الأساس الذي يبعث فيكم اليقظة الوجدانية التي توحي بالحقيقة، فإنّ الفطرة الإنسانية تعتبر أساساً لحركة الوعي الإيمانيّ في كيان الإنسان. {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} أو تحتجوا بأن قضية الإشراك لم تكن حالةً ذاتيةً اختياريةً، بل كانت خاضعةً للوضع الطبيعي العفويّ الذي يخضع فيه الأبناء للسير على خط الآباء، في ما يعتقدون ويعملون، في عملية محاكاةٍ وتقليدٍ لا يملك الإنسان معها أية إرادةٍ مضادّةٍ فاعلةٍ، وبذلك يكون الآباء هم المسؤولون عن عملية الكفر والضلال، فلا مسؤولية لنا في ذلك. {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ}، فتأثّرنا بهم بما تتأثر به كلّ ذريّةٍ بالجيل السابق.
{أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} الذين اختاروا الباطل بملء وعيهم وإرادتهم، بينما كنا خاضعين في عملية الانتماء لأجواءٍ عاطفيةٍ ضاغطةٍ، لا نملك إلا السقوط أمامها في التجربة الصعبة، وكيف تهلك الذين انتموا للباطل بوحي العاطفة بسبب أفعال الذين عاشوا فيه بالإرادة والاختيار؟ {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} للناس ليفهموا كيف يواجهون المسؤولية من موقع الوعي المنفتح على حركة الإيمان في الحياة، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى الله، فيستقيموا في طريق الحق عندما يستبين لهم الجانب المشرق من الأفق الواسع.
* * *
هل ثمة عالم آخر اسمه عالم الذر؟
هذا بعض ما نستوحيه من هذه الآيات، ولكن بعض المفسرين فهموا منها معنىً آخر؛ فقد قالوا إن هناك عالماً آخر تشير إليه، وهو «عالم الذر» الذي تحدثت عنه بعض الروايات، واعتبرت الآية الأولى دليلاً عليه. فقد جاء في هذه الروايات أن الله عندما خلق آدم، أخرج من ظهره ذريته كمثل الذر حتى ملأوا الفضاء من حوله، فأخذ الله عليهم العهد بالإيمان به، والسير على هديه، وأشهدهم على أنفسهم بأنه الله الذي لا إله إلا هو، فشهدوا بذلك وأعطوه العهد على أنفسهم به، ليكون ذلك حجةً من الله عليهم عندما ينحرفون عن خط الإيمان والطاعة، فلا يستطيعون بعد ذلك الاحتجاج بالغفلة عن الحق، وبسيطرة عقيدة الاباء عليهم.
وهكذا اعتبرت الآية دليلاً على هذا الموضوع، ولكنّ كثيراً من العلماء أنكروا ذلك، لقصور الأدلّة التي أقامها المثبتون عليه، ولأن الحجة لا تقوم على الإنسان بما كان قد اعترف به في عالم الذر، لغفلته عن أصل الموضوع وعدم تذكُّره له من قريبٍ أو بعيدٍ، مهما حاولت الآيات والأحاديث تذكيرهم به، فلا يبقى هناك فرق بين الغفلة الأصلية التي لم يسبق للإنسان فيها المعرفة، أو الغفلة الطارئة التي جاءت بعد المعرفة في عالم آخر لا ربط له بهذا العالم أصلاً. ثم إن الآية لا تنهض دليلاً على ذلك، فإن المذكور فيها أنه أخرج من ظهور بني آدم وذرياتهم، بينما تقول الروايات أنه أخرج من ظهر آدم ذريته. وقد جرت مناقشات كثيرة في هذا الموضوع، من حيث الدفاع عن فكرة «عالم الذرّ» وعن انطباق الآية عليه... وقد ذكرها صاحب تفسير الميزان[1]، فليرجع إليه من أراد، فإننا لا نجد كبير فائدةٍ في الإفاضة في هذا الموضوع.
تفسير القرآن