من الآية 175 الى الآية 176
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتــان
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (175ـ176).
* * *
معاني المفردات
{نَبَأَ}: خبر له شأن.
{فَانْسَلَخَ منها}: تجرّد منها.
{أَخْلَدَ}: سكن وركن.
{يَلْهَثْ}: يخرج لسانه وهو يتنفّس بشدّة نتيجة العطش أو الإعياء.
* * *
مثل الذي أخلد إلى الأرض كمثل الكلب
وهذا حديثٌ عن شخصٍ من بني إسرائيل، قيل إن اسمه بلعم بن باعورا كان يملك الاسم الأعظم، وقيل إنه شخصٌ معاصرٌ للدعوة الإسلامية، كان يعرف الكثير من آيات الله وتعاليمه، ولكن هذا الشخص انحرف عن الخط المستقيم، فلم ينتفع بما يملك من المعرفة، ولم ينفتح على الآفاق الرحبة العالية التي ترفعه إلى الله في عملية سموٍّ وطهرٍ وإيمانٍ، بل هوى إلى الأرض في حالة انحطاط روحيٍّ وفكريّ، فلم يتطلّع إلا إلى الأجواء السفلى التي تربط مطامحه بالتراب ولا شيء إلا التراب... وهذا ما نريد أن نتابعه مع هاتين الآيتين:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ} في ما رزقناه من وسائل المعرفة، في ما يهدي إليه العقل أو الوحي، {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} وابتعد عنها في عملية رفض وانحراف؛ {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، لأن الفكر الذي تمثّله هو فكر الذرى الشمّاء الذي ينظر إلى أعالي الأمور ولا يتطلع إلى أسافلها، حيث الروحية المنفتحة على الله في آفاق المطلق.
{وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرضِ} والتصق بها، وأقبل عليها في عبادةٍ وخضوعٍ ونهمٍ إلى التراب. والالتصاق بالأرض، يعني الانغماس في القيم المادية التي لا تنبض فيها خفقةٌ من قلب، ولهفةٌ من روحٍ، ونبضةٌ من وحيٍ، بل تتجمّع فيها كل أنانيّة النفس الأمّارة بالسوء، وشهوات الجسد الباحث أبداً عن المتعة الحسية، وأطماع الذات التي لا تفكّر إلاّ بمطامعها ولو على حساب الآخرين... وبذلك يسترخي الإنسان مع أجواء السعادة الحسية المادية، ويستريح للخطوات اللاهثة وراء الرغبة، ويبتعد رويداً رويداً عن كل آفاق الروح الباحثة أبداً عن المطلق في رحاب الله، حيث يعيش الإنسان إنسانيته في أريحية القيم {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}، فجعله القاعدة التي ينطلق منها في كل أقواله وأعماله وعلاقاته وانتماءاته، وإذا كان الهوى هو القاعدة، فمعنى ذلك أن الضياع هو الأفق، وأن الرمال المتحركة هي الأرض، وأن الضباب هو خط الرؤية للحاضر والمستقبل، وبذلك يختلط عليه الحق والباطل، والخير والشر، ويعيش الاهتزاز في الموقف، فلا يسكن إلى فكرٍ، ولا يستريح إلى موقع، ففي كل يومٍ هوىً يشدّه إلى طمعٍ، ويهوي به إلى الحضيض، وينقله من القمة إلى أعماق الهوّة في لحظات. إنه المزاج الذي يحرّك صاحبه تبعاً للحالات الطارئة، في ما تتفتح عنه من غرائز، وما تستجيب له من شهوات، وما تتّجه إليه من نزواتٍ وأطماع.
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} لأن هذا اللهاث الذي يتصاعد منه ليس وليد موقف دفاعيٍّ، أو نتيجة حركةٍ عقلانيّةٍ، بل هو حالةٌ جسديةٌ تخضع لحاجات الجسد، وتلتقي بجانب الغريزة، ولهذا فإن تذكيره بجوانب المعرفة عنده لا يجديه شيئاً، لأنه قد أغلق قلبه عن كل إيحاءاتها، وجمّد مشاعره عن كل أحاسيسها، واتجه بكل كيانه إلى هذا اللهاث في أحاسيس الشهوة، وإيحاءات الطمع والنزوة.
{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بآياتِنَا} وانحرفوا عنها، وساروا ـ من خلال ذلك ـ في طريق الضلال... إنهم القوم الذين لا يريدون أن ينتفعوا بما يعرفون، ولا يحاولون أن يتطلعوا في آفاق المعرفة إلى ما لا يعرفون، فالمعرفة عندهم ترفٌ يتحركون فيه من مواقع الحاجة إلى الترف، وليست رسالةً للحياة يحرّكونها من أجل بناء النفس على ما يخدم رسالة الحياة. {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} على هؤلاء الذين تدعوهم إلى الحق، ليعيشوا تجارب الآخرين من خلال القصة، لا ليستهلكوها لتكون مجرد كلماتٍ لاهيةٍ تملأ لديهم أوقات الفراغ. {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }، فيقارنون بين حياتهم وحياة أولئك الذين عاشوا في أحداث تلك القصص، ويعرفون النتائج السلبية في حياتهم المستقبلية إذا ساروا على النهج الذي سار عليه أولئك، من خلال دراستهم للعاقبة السيّئة التي انتهى إليها أمرهم في الماضي.
تفسير القرآن