تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 180 إلى الآية 186

 من الآية 180 الى الآية 186
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ* مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (180ـ186).

* * *

معاني المفردات

{يُلْحِدُونَ}: ينحرفون عن الطريق القويم.

{سَنَسْتَدْرِجُهُم}: الاستدراج من الدرجة: أي أن الله يسوقهم إلى الهلاك شيئاً فشيئاً، تماماً كمن يرقى درج السلّم.

{وَأُمْلِي}: أمهل وأؤخر.

{كَيْدِي}: مكري.

{مَتِينٌ}: شديد وقويّ.

{جِنَّةٍ}: الجنون وأصله الستر.

{مَلَكُوتِ}: الملكوت: هو الملك الأعظم للمالك الذي ليس بمملوك.

{يَعْمَهُونَ}: العمه للقلب، والعمى للعين.

* * *

لله الأسماء الحسنى

{وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى}. هل هذه الفقرة واردةٌ في مجال الإشارة إلى أن هناك أسماءً محدّدةً لله هي الأسماء الحسنى؟ لننتقل ـ بعد ذلك ـ إلى مسألة الحديث عن اسم الله الأعظم، فنفيض الحديث عن تفاصيل ذلك، في ما أفاضت به بعض الروايات من تحديد الأرقام المختلفة بين القليل والكثير.

* * *

هل أسماء الله توقيفيّة؟

وقد يثار سؤالٌ آخر، هل أن أسماء الله توقيفيةٌ، فلا يجوز لنا أن نتحدث عن ذات الله إلاّ من خلال الأسماء الواردة في الكتاب والسنّة، أم أنّ المسألة لا تتوقف عند ذلك، بل تتّسع لكلّ الصفات التي تشير إلى الذات الإلهية بما يتناسب مع عظمته وجلاله؟ وهل نستطيع اعتبار الآية دليلاً في تحديد أحد الاحتمالين؟

إننا نحسب أن الأسماء الحسنى تشير إلى الكلمات من حيث مدلولها الذي يمثّل الصفات الإلهية المستمدة ممّا قادنا العقل إلى إثباته، أو ممّا حدّثنا عنه الكتاب والسنّة من العلم والقدرة والرحمة والكرم والكبرياء والعظمة والخلق والملك وغير ذلك، من خلال ما توحيه من معانٍ تثير داخل الإنسان الثقة بالله، بحيث يشعر بالحاجة الدائمة إليه في كل قضيةٍ أو مشكلةٍ أو حاجةٍ تواجهه، لينطلق من هذه الأسماء في دعائه لله، ليحقق له كل ما يريد. وبهذا تلتقي كل الكلمات التي تعبِّر عن أيَّة صفةٍ من صفات الله، في أجواء الدعاء والعبادة، من حيث انطلاقها من الحدود الشرعية في التعبير عن مضمون الذات الإلهية، مما يجعل كل تلك الكلمات من أسماء الله الحسنى حاملةً المعنى الذي يشير إلى الله في صفات الجلال والكمال.

أمّا التوقيفية في أسماء الله، فلا نجد لها أساساً في النصوص الدينية التي بين أيدينا، في الوقت الذي لا نملك فيه أيّة دلالةٍ في الآية عليه، ولم نطّلع على ما يحدّد لنا ذلك، بل ربّما نجد في جواز ذكره بأسمائه الدالّة عليه باللغات الأخرى ما يؤكد عدم التحديد. ونحن لا نفهم وجه التحديد بلفظ معيّن في مقام التعبير عن الذات، لا سيما إذا لاحظنا أن هذه الأسماء المعروفة لا تحمل أيّ سرٍّ مخصوص يميّزها عن أيّ لفظ آخر، فليس لدينا إلا إفادتها للصفة المعيّنة في ما توحي من معانٍ عامّةٍ. وربما كان الأساس في احتمال التوقيفية هو هذه الآية، ثم توسّع القائلون بتحليل هذا الرأي في مقام البحث، ولكننا لا نجد فيها أية دلالةٍ على ذلك ـ كما ألمحنا إليه ـ بل هي واردة في مقام الإيحاء بأنّ الصفات الحسنى التي تعبِّر عنها هذه الأسماء كلها لله، مما يجعل منها منطلقاً للتوجّه إليه والتعلُّق به، فالكلمات هي التي تحمل للإنسان الإيحاء بقيمة الدعاء وجدواه، في ما تمثّله من أساسٍ للقدرة والامتداد.

* * *

مسألة الاسم الأعظم

أما الاسم الأعظم، فقد ورد الحديث عنه في أكثر من روايةٍ، في ما تحدثت به عن اختصاص بعض الأنبياء والأولياء بمعرفته، وعن تأثيره في إعطاء القدرة على القيام بأعمالٍ خارقةٍ للعادة، ولكننا لم نستطع أن نقف من ذلك على شيءٍ واضحٍ يحدّد لنا أجواء هذا الاسم وكلماته، كما لم يتّضح عند القائلين به الذين تطرف بهم الرأي، حتى قال بعضهم إنه مؤلف من حروفٍ مجهولةٍ لنا، لو عثرنا عليها أخضعنا لإرادتنا كل شيء. وربما كان لنا أن نستبعد هذه القيمة الكبيرة للحروف، في ما تنطلق به من أشكالٍ وأصواتٍ، لأن التأثير ـ كل التأثير ـ هو لله تعالى من خلال قدرته المطلقة، فإذا كان لبعض الكلمات خصوصية، فلأن مدلولها يمثل معنىً أكبر وصفةً أعظم. ونحن لا نفهم ما معنى التفضيل في اتصاف الله بصفةٍ معينة في مقابل صفاته الأخرى.

فلنجمل الكلام في ذلك ونرجعه إلى أهله الذين يعرفون منه ما لا نعرف، لا سيما أن المسألة تدور في احتمالاتٍ يكتنفها الغموض في أكثر من جانبٍ، مما يجعل أكثر الأحاديث تدور حول اختصاص الله بعلمه، فهو الذي يمنحه لبعض الناس من دون أن يبيح لهم أمر تعليمه للاخرين، فإذا كانت القضية تدخل في نطاق الأسرار الإلهية، فإنّ البحث عنها لا يفيد الباحث، لأنه يتحول إلى حلقةٍ مفرغةٍ لا تنتهي إلى شيءٍ. فلننفتح على ما نفهمه من أسماء الله، ولنفتح قلوبنا للمعاني الروحية الممتدّة في آفاق الروح والحياة، لنتقرّب إلى الله من خلال ذلك، ولنعرف أننا نلتقي بكل حاجاتنا وقضايانا عنده، فله الأسماء الحسنى {فَادْعُوهُ بِهَا}، واذكروه بها في دعائكم له وعبادتكم؛ فهذا ما يلتقي بالخط المستقيم للعقيدة والأفق الواسع للإيمان، وهو الذي يُنمّي في وعي الإنسان المؤمن العلاقة الروحية العميقة بالله، في ما توحي به الصفات الإلهية من أنّ كل الأشياء التي تحتاجها الحياة، تلتقي عنده وتخضع لإرادته، ممّا يجعل من مسألة الدعاء والعبادة، مسألةً فكريةً وروحيةً وعمليةً في تنمية علاقة الإنسان بربه، وتأكيد الإحساس بمعنى العبودية في نفسه.

* * *

كل إنسان يجزى بعمله

{وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} فيميلون عن الخطّ المتوازن في ذلك، فيسمّونه باسم غيره، فينسبون له بعض صفات مخلوقاته من الخواص المادية المحدودة، أو الصفات القبيحة، كالظلم في فعله، والجهل في حكمه... أو ينسبون إلى غيره ما يختص به، فيسمون غيره باسمه في ما يصفون به بعض مخلوقاته ببعض الصفات المختصة به، كما في حالات الصنميّة الحجرية والبشرية... فإن ذلك كله يساهم في عملية الانحراف عن الخط المستقيم للعقيدة، أو عن المعنى العميق للعبادة، ويحوّل الإنسان إلى خط الضلال في ما يمثله من كفرٍ أو عصيانٍ دون أن تكون له حجةٌ على ذلك من إحساسٍ أو فكر... فلنتركهم في مسيرتهم المنحرفة، ما داموا لم يستمعوا إلى صوت الحق، ولم ينفتحوا على أجواء الحوار... {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، لأن الله قد أقام عليهم الحجة في ذلك كله، وليس لأحد منهم الحجة على شيءٍ في ما يعمله، وسيلاقي جزاء عمله من عقابٍ وعذابٍ. تلك هي عدالة الله في حكمه، فلا يُجزي إنساناً إلا بعمله، فهو الذي يتحمل مسؤولية ذلك كله.

* * *

من الناس مَن يهدي بالحق والعدل

ولكنّ هؤلاء لا يمثّلون ظاهرةً ممتدةً شاملةً في حركة الحياة والإنسان، فهناك الذين يعيشون في حياتهم الحق كفكر، والعدل كخطٍّ للسير وللعلاقات {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} في عملية انتماءٍ ودعوة، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في حركة ممارسةٍ ومعاملةٍ، لأنهم ينطلقون من قاعدة الإيمان العميق، والوعي المنفتح، والإرادة القوية، والعقلية الجادّة... {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا} وأنكروها في الفكر والممارسة، {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}، وذلك بما يهيّىء الله لهم من نعيم الحياة ولذتها، مما يلهيهم عن التفكير، ويشغلهم عن المسؤولية والجدّية في مواجهتها، فيخيّل إليهم أنهم يمسكون بزمام الحياة، ويملكون الأمر كله، وتتضخم لديهم حالة الشعور بالأهمية في الأدوار التي يمثلونها، وفي الطاقات التي يملكونها، وفي الأجواء المحيطة بهم، في ما يؤيد المؤيّدون، ويهتف الهاتفون، وبذلك يتدرّجون من موقع ضلال إلى موقع ضلالٍ آخر، في ما يتقلبون به من نعمةٍ إلى نعمةٍ، في هذا الانحراف الكبير في وعيهم لمعنى النعمة في حساب المسؤولية.

* * *

الله يكيد بالكافرين

{وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أمهلهم وأمد لهم الحياة كما يحبون ويشتهون، فلا يعكّر صفوهم كدر، ولا يثير نفوسهم قلق، بل هو الاسترخاء لهذا الامتداد اللاَّهي للحياة. {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ }. والكيد هنا يمثّل معنى الخطة الإلهية الجارية على السنن الطبيعية للأشياء، في ما يمهّد للإنسان ساحة الاختيار بعيداً عن الضغوط التي تجعله مقهوراً في إرادته؛ فهناك الأشياء التي تشجع جانب الغفلة في نفسه، وهناك العوامل التي تفتح له باب التفكير… وله أن يقوّي هذا الجانب بالتعمُّق في النتائج السلبية والإيجابية التي تتيح له وضوح الرؤية، لما يتخذه من مواقف في هذا الاتجاه أو ذاك، فقد هيأ الله له ذلك في الاتجاهين في ما أعطاه من فكر يقوده إلى النتائج الحاسمة في حركة الإيمان.

* * *

الله ينفي الجنون عن النبي

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} في كل ما واجههم من أمر الدعوة، في شخصية الرسول الداعية، وفي ما جاء به من وحي الرسالة؟ فهل يجدون فيه إلاّ العقل الواسع، والأفق العميق للفكر، المنفتح الروح؟؟؟ وهل يرون فيه شيئاً مما تثيره الكلمات اللامسؤولة التي يطلقها المشركون ضده؟ إن الفكر الحرّ سيقودهم إلى النتيجة الحاسمة {مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }، فليس هناك أي مظهر لذلك من قريبٍ أو من بعيد، بل هناك ما هو مضاد له في ما يتمثل في دعوته من وعيٍ للمسؤولية، وتوعيةٍ للإنسان في قضايا المصير في ما ينتظره من عذاب أخروي من جرّاء الانحراف {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وهل يلتقي هذا الخط الفكري الذي يمنع الإنسان ويحذره من الوقوع في الهلاك والعذاب، بتلك الكلمات اللامسؤولة التي تتهمه بالجنون؟! إن القضية لا تحتاج إلا إلى فكرٍ ينظر إلى الأشياء بعمقٍ وصفاءٍ.

* * *

ملكوت الله تعالى مظهر لعظمته

{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ} ويتأملوا في هذا العالم الواسع المترامي، في ما تمثله السموات والأرض من عوالم متنوعة في مظاهرها وخصائصها. {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ}، في ما خلقه الله من الموجودات التي تحتويها هذه العوالم، والتي تتمثل فيها أسرار العظمة ومظاهر الإبداع... لينطلقوا من هذا النظر القائم على التفكير إلى الشعور بالمسؤولية في ما يستوحونه من إيمانٍ بالله وبشرائعه، وليعيشوا الحياة من خلال ذلك، فيفكروا بالحساب على أساس الثواب والعقاب. {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} فيدفعهم ذلك إلى الإحساس بالخوف من ضياع الفرصة من أيديهم، فقد لا يستطيعون إصلاح ما فسد إذا لم يبادروا اليوم قبل الغد، لا سيما أن عناصر الإيمان متوفرة لهم. فإذا لم يؤمنوا بها فبِمَ يؤمنون؟ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} إذ ليس هناك أيّة قاعدةٍ للإيمان بأيّ شيءٍ آخر...

* * *

من يضلل الله فلا هادي له

{مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لأن للهدى أسبابه الطبيعيّة التي تحتمه كنتيجة، فإذا لم يأخذ الإنسان بهذه الأسباب التي هيّأها الله له، كان الضلال هو نتيجة حتمية للعوامل التي أودعها الله في خصائص الأشياء، ذلك أن الله لا يتدخل ـ بطريقة قسرية ـ في هدايتهم، بل يتركهم لمصيرهم الذي اختاروه لأنفسهم. {وَيَذَرهُمْ فِي طُغْيَانِهِم} المتمثل في كفرهم وتمرّدهم {يَعْمَهُونَ}، أي يترددون ويتحيرون ويعيشون في أجواء الضياع في متاهات الضلال.