تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 187 إلى الآية 188

 من الآية 187 الى الآية 188
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتــان

{يَسْألُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ* قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (187ـ188).

* * *

معاني المفردات

{السَّاعَةِ}: الوقت الذي يفنى فيه الوجود.

{مُرْسَاهَا}: إثباتها وحصولها.

{حَفِيٌّ}: مستقصٍ في السؤال.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مناسبة نزول آية {يَسْألُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ..} أن قريشاً بعثوا العاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط إلى نجران، ليتعلموا من علماء اليهود مسائل يسألونها من رسول الله، وكان في ما سألوا محمداً(ص): متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى: {يَسألُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}[1].

* * *

لا يعلم موعد القيامة إلا الله تعالى

لقد جاء الإسلام، وطرح كثيراً من المفاهيم حول كثير من القضايا المتصلة بالغيب والحياة، كما طرحتها الأديان الأخرى من قبله، وجاء محمد(ص) يقدّم نفسه للناس كرسولٍ من الله، يتلقى منه الوحي فيلقيه إليهم، وكان يوم القيامة ـ وهو ما يعبّر عنه القرآن بالساعة ـ من بين هذه المفاهيم التي تثير التساؤل، وتدفع إلى الجدل وتواجه المؤمنين بها كما تواجه المنكرين لها… ويكثر السؤال عنها، عن طبيعتها، وعن خصائصها، وعن موعدها متى هو؟ ويختلف السائلون بين من يطلب المعرفة، وبين من يقصد التحدّي أو العبث، وكانت قريش الكافرة برسول الله تعتمد التحدي لإحراج الرسول بالاقتراحات التعجيزية وبالأسئلة غير المعقولة. ومنها هذا السؤال، {يَسْألونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}، في أي شاطىء من شواطىء الزمن الممتد كالبحر الذي تتحرك فيه سفينة القيامة؟

* * *

علم الساعة عند الله تعالى

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ}، لأنها من أسرار الغيب التي لا يعلمها إلا الله، ولا يظهرها إلا هو، في ما حدّد لها من وقتٍ. {ثَقُلَتْ في السَّمواَتِ وَالأرضِ} أي ثقل وقعها في ما تمثله من مواجهة المسؤولية على مستوى قضية المصير وما تؤدّي إليه من الخوف من غضب الله وسخطه؛ وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض ـ كما في دعاء كميل ـ أو ثقل علمها عليها باعتبار النتائج الصعبة التي تحدث عند وجودها، وبهذا يلتقي ثقل علمها بثقل وجودها. {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} أي فجأة، لأننا إذا كنا نجهل موعدها، فلا بد أن تكون مفاجأةً لنا في أي وقتٍ.

{يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي عالم بها، فهم يعتقدون أن علاقتك بالله من خلال الرسالة تجعلك في موقع العالم بكل شيءٍ يتصل بالغيب، لأن الرسول يمثل في وعيهم شخصاً غير عادي، مزوّداً بقوّةٍ خفيةٍ يعلم بها كل الأمور، ويسيطر بها على كل الأشياء، ولكن الله يوحي إلى رسوله أنه لا يملك أية إمكانياتٍ ذاتيةٍ لهذه المعرفة، فهي من وسائل الغيب التي اختصّ الله بعلمها.

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أبعاد القضايا المتصلة بشخصية الرسول وإمكاناتها. {قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ}، لأني لا أملك طاقةً ذاتيةً غير عاديةٍ، فأنا مجرّد إنسانٍ أتحرك من خلال الطاقة الإنسانية الطبيعية في ما يملك الإنسان لنفسه من النفع والضرر بالوسائل التي وهبها الله له، أو من خلال إرادة الله ومشيئته في ما يوجهه إليه من نفع أو ضرر بوسائل غير عادية، كما أني لا أعلم الغيب من موقع القدرة الذاتية، فليس لدي أسرار تكوينية في وجودي تفتح لي أبواب الغيب، بل القضية هي أن أنتظر الوحي الذي ينزله الله عليّ، أو المعرفة التي يلهمني إياها، لأحصل على معرفة بعض الغيب الذي يريد الله لي أن أعلمه. {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} في الفرص المستقبلية التي قد يحتاج انتهازها إلى إعدادٍ طويل يبدأ من الحاضر، {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} في ما يحتاج الإنسان فيه إلى القيام ببعض الخطوات الوقائية التي تمنع المرض أو الفقر أو البلاء، مما يكون سببه بيده واختياره عند معرفته له وعلمه به. ولكني ـ في واقع حياتي العملية ـ أواجه كثيراً من الفرص الضائعة، أو من المشاكل الجسدية والمادية، لأني لم أملك المعرفة التي تمكّنني من تلافي ذلك كله، لأن كل ما أملكه مما يميزني عن الآخرين في مواقع الصفة البشرية هو الرسالة، التي تسمح بتلقّي الوحي الإلهي بطريقةٍ غير عادية، ثم إبلاغه بطرقٍ عاديةٍ، {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في ما أنذرهم به من عقاب الله على أساس عصيان أوامره ونواهيه، وما أبشرهم به من ثوابه على أساس طاعته في ذلك كله.

* * *

الصورة التي يرسمها القرآن لشخصية النبي

وقد نستوحي من هذه الآية الصورة القرآنية الواضحة للشخصية النبوية، بكل بساطتها ووضوحها التي أكّد الله ملامحها في أكثر من آية، بعيداً عن كل الصور الفلسفية اللاهوتية التي أحاطه بها كثيرون ممن حاولوا التعمُّق في شخصيّته، فاستغرقوا في الحديث عن الأسرار والأجواء الخفية الغيبية، وحولوا النبي إلى شخصية تملك كل القدرات غير العادية، بحيث لا يميّزه عن صفة الألوهية إلا أن الصفة للإله ذاتية بينما هي في النبي مخلوقة. وقد حاول البعض أن يجعل هذه الصورة للأئمة أو للأولياء، ونحن نتحفظ في ذلك كله، لأننا نعتقد أن ما يصوره القرآن يمثل الصورة الحقيقية للمفاهيم وللشخصيات بوجهها العام، بحيث تخضع كل التفاصيل لملامح تلك الصورة... ولو كان هناك شيءٌ من الأسرار الذاتية الخفيّة، في ما يدخل في نطاق الخط الفكري للعقيدة، لبيَّنه القرآن في ما يريد لنا اعتقاده، أو لبيَّن الصورة المخالفة أو التي توحي بالمخالفة... إننا نعتبر القرآن مقياساً لصحة الأحاديث وفسادها، لأنه الكتاب الذي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، «وكلُّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرفٌ»[2].

وقد نحتاج إلى إثارة فكرةٍ في هذا المجال، وهي أن علينا في ما لم نكلّف بعلمه أو بالاعتقاد به ـ من تفاصيل شخصية النبي أو الإمام ـ أن لا نفيض كثيراً فيه، لأنه يتحول إلى نوعٍ من الترف الفكري، وربما يقودنا إلى بعض الانحرافات أو الخلافات الجدلية التي لا ضرورة لها.

إننا نعتقد أن عظمة النبي تكمن في أنه يجسّد شخصية رسالته في شخصيته أصدق تجسيد، وبذلك يبلغ الذروة في الكمال، لأن الرسالة هي قمّة الكمال الإنساني في مستوى قدرة الإنسان على الكمال، وليس هناك شيء ـ في ما نعلم ـ خارج نطاق الخط الرسالي للحياة وللإنسان.

ـــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:8، ص:377.

(2) الكافي، ج:1، ص:69، رواية:3.