تفسير القرآن
الأعراف / من الآية 199 إلى الآية 206

 من الآية 199 الى الآية 206
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـــات

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ* وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ* وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ* وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ* إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}(199ـ206).

* * *

معاني المفردات

{بِالْعُرْفِ}: بالمعروف، وهو فعل الخير.

{يَنَزَغَنَّكَ}: النزغٌ: فسادٌ، وإغراءٌ بالشر.

{فَاسْتَعِذْ}: التجىء إلى الله.

{مَسَّهُمْ}: أصابهم.

{طَائِفٌ}: ما يدور حول الشيء ويأتيه من جميع نواحيه، وهو هنا ما يدور على الإنسان من الشيطان يريد اقتناصه.

{اجْتَبَيْتَهَا}: استخلصتها واصطفيتها.

{بَصَآئِرُ}: براهين وحجج.

{وَأَنصِتُواْ}: اسكتوا من أجل الاستماع.

{بِالْغُدُوِّ}: جمع غدوة وهي الصباح.

{وَالآصَالِ}: جمع أصيل، وهو المساء.

{وَخِيفَةً}: حالة الخوف.

* * *

القران يوجه المسلمين من خلال الرسول

وفي هذه الآيات ـ التي هي ختام السورة ـ حديثٌ مع رسول الله(ص) في حركة رسالته في نطاق دعوته، وتوجيهٌ للخطّ السليم الذي يحتوي كل سلبيات الآخرين، ويسيطر على كل نقاط الضعف الذاتي في نفسه، وانطلاقةٌ مع الله في حركة روحيةٍ خاشعةٍ، ودعاءٍ ذاكرٍ، وتسبيحٍ خائفٍ، وسجودٍ خاضعٍ، مع لفتة إيمانية للناس بأن يعيشوا مع القرآن، في استماعٍ وإنصاتٍ للفكر من أجل الوعي، وللقلب من أجل الإيمان.

* * *

دراسة الواقع الفكري والنفسي لمجال الدعوة

{خُذِ الْعَفْوَ} كخطٍّ عمليٍّ للتعامل مع الناس في أجواء الدعوة، في ما يواجهه من حالات التشنّج والتمرد، لأن المسألة لدى الرسول أو الداعية ليست مسألة مزاج يبحث عن منفذٍ للتنفيس، ولكنها مسألة دعوةٍ تفتش عن مدخل إلى فكر الآخرين للحصول على قناعاتهم، مما يخلق بعض التعقيد في مواقفهم، وبعض السلبيات الذاتية في ردود فعلهم، فلا بد من اتباع الأسلوب الذي يتحرّك بالتوازن في عرض الفكرة، وبالتسامح في مواجهة ردود الفعل، وبالتّسهيل والتيسير في إعطاء المسؤوليات... ولا يكلّفهم من أمرهم عسراً.

{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهو المعروف في القول والعمل الذي يعرفه الناس بفطرتهم ولا يستنكرونه بطبيعتهم، من خلال إدراكهم لارتباطه بمصالحهم ومنافعهم وتنمية أفكارهم وأرواحهم وأجسادهم. وهذا هو الخط الواضح الذي يشمل كل مفردات الشريعة الإسلامية في أخلاقياتها وأحكامها، في ما تدعو إليه من الارتفاع بإنسانية الإنسان إلى المدى البعيد في الآفاق الواسعة. {وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ} الذين لا يتحركون في الحياة من مواقع الوعي للمسؤولية، ولهذا فإنهم لا ينطلقون للأخذ بأسباب المعرفة، ليعرفوا من خلال قضايا الخطأ والصواب جوَّ المصلحة والمفسدة في ما يفعلون ويتركون،مما يؤدي بهم إلى أن يواجهوا الرسالات بأساليب السباب والسخرية والتشويه والتهويل، بعيداً عن أيّ منطق للحوار أو قاعدةٍ للتفكير...

فلا بدّ للداعية من دراسة كل هذا الواقع الفكري والنفسي لهؤلاء في عملية التخطيط لمواجهته بالحكمة الواعية، التي تفرض الإعراض عنهم في أكثر الحالات، لأن الخضوع لأساليب ردود الفعل يؤدي إلى أن يتحول الموقف إلى ساحة للسباب وللكلمات القاسية، ويثير العصبية في نفوسهم للباطل، ويحجب الرؤية عنهم من خلال أجواء الانفعال التي تثير الضباب في الأفكار والمشاعر، ويُبعد المواقع عن الحصول على مكاسب إيجابية في مصلحة الرسالة،بينما يؤدّي التعالي عن هذه الأساليب إلى إبعاد الساحة عن أجواء الحقد والبغضاء، ويفسح المجال لفترةٍ من الهدوء النفسي الذي يبعث على التفكير، وبالتالي إلى الحوار، عندما تهدأ الضجة، ويستعيد هؤلاء بعض عقولهم في مواقع الصراع.

* * *

الاستعاذة بالله تعالى في مواجهة الشيطان

{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} قد يثير الشيطان في داخل الإنسان بعض المشاعر السلبية، وقد يخلق حالةً من التوتر النفسي الذي يبعث على الغضب في التصرف، ويدفع إلى الممارسة الانفعالية على أساس الثأر لكرامة الذات، أو لما يخيّل إليه أنه كرامة الرسالة، وهذا هو النزغ الشيطاني في ما يوحي به معناه من الدخول في أمرٍ لأجل إفساده، أو الإغراء، أو الوسوسة... {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الذي يعيذ الإنسان من وسوسته ويبعث في روحه الشعور بالسكينة الروحية التي تحوّل الأجواء الداخلية إلى ساحة للمحبة والسلام ليعود له وضوح الرؤية للأشياء. {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يستجيب لك دعاءك في ما يعلمه من الموقف الصعب الذي تواجهه من أهل السفاهة والجهالة. وقد لا تكون الآية موجّهةً إلى الرسول في حالته الخاصة، على أساس وضع سلبيٍّ معيَّن في ما عاشه في تجربته، بل هي موجّهةٌ لكل الدعاة من خلاله في التخطيط لحركة الدعوة في حالات التحدي، لمواجهة كل الأوضاع المتشنجة.

* * *

التقوى تبطل إغواءات الشيطان

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} وهذه حقيقة إنسانية إيمانية في حركة النفس في الموقف الداخلي والخارجي، فإن التقوى لا تمنع الأفكار السلبية الانفعالية من الطواف حول المشاعر والمواقف لتفسدها ولتوجهها إلى الاتجاهات الخاطئة، لأن ذلك هو شأن الطبيعة الإنسانية التي تتأثر بكل الأوضاع المحيطة بها، في ما تتحرك به غرائزها في حركة ذاتية عفوية، ولكن دور التقوى هو أن يمنع استقرار تلك الأفكار في داخل النفس، أو تحوّيلها إلى موقفٍ عمليٍّ منحرف، ولهذا فإنها تقف أمام كل تلك الأفكار والتهاويل والمشاعر الشيطانية التي تطوف بالإنسان، لتجد زاويةً تختبىء فيها، من أجل إتمام عملية الإغواء والإضلال، فتعمل على طردها بإعادة الوعي الإنساني إلى الله، في ما يمثله ذلك من انفتاحٍ على كل آفاق الخير والصلاح، وذلك عندما يتذكر الإنسان ربّه، فتزول الغشاوة الشيطانية عن بصره وبصيرته، فيبصر درب الحق من جديد.

ذلك من انفتاحٍ على كل آفاق الخير والصلاح، وذلك عندما يتذكر الإنسان ربّه، فتزول الغشاوة الشيطانية عن بصره وبصيرته، فيبصر درب الحق من جديد.

{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}. أما المشركون الذين انطلقوا مع الشياطين في علاقة مودّة وأخوّةٍ وعبادةٍ، فإنّ إخوانهم يشجعونهم على الغيّ والضلال بما يمدونهم به من أسبابهما ولا يكفّون عن ذلك. وهذا هو الفرق بين المؤمنين الذين يرعاهم الله فينقذهم من الضلال كلما طاف بهم طائف من الشيطان، وبين المشركين الذين تتولاهم الشياطين في عملية إغواءٍ وإضلالٍ.

* * *

النبي لا يتبع إلا ما يوحى إليه

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ} مما يقترحونه عليك من معجزاتٍ وآياتٍ على سبيل التعنُّت والتعجيز، {قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} وجئت بها، إذ كان يخيل إليهم أن النبي يملك القدرات الغيبيّة التي يستطيع من خلالها أن يغير وضع العالم من حوله بطريقة المعجزة. {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} لأن النبي لا يملك قدرة المعجزة، بل هي خاضعة لقدرة الله الذي قد يشاء إيجادها في حالات معيّنة، أمّا دور النبي فهو اتباع ما يوحي به إليه الله من رسالته في عملية دعوة واتباع.

* * *

كتاب الله بصائر فكرية وروحية للإنسان

{هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. إنه الوحي الذي أنزله الله في قرآنه؛ إنّ آياته تمثّل الوسائل الفكرية والروحية التي يبصر الناس من خلالها آفاق الخير والنجاح والسعادة، وتفتح لهم سبل الهدى التي تنتهي بهم إلى النهايات الرضية عند الله، وتفيض عليهم من رحمته ما يملأ قلوبهم بالسكينة وأرواحهم بالتفاؤل والإشراق والأمل، وذلك كله عندما يعيش هؤلاء الناس فكر الإيمان وروحه وحركته وفاعليته، فيبصرون به ويهتدون بهداه، ويتقبّلون رحمة الله من خلاله.

* * *

الإنصات والاستماع لقراءة القرآن

{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} لتعيشوا مع آياته أجواء الروح وآفاق الحقّ، ولتأخذوا منه المنهج السليم لحركة الإنسان في الحياة، ولتنفتحوا فيه على كل خيرٍ وبركةٍ، ولتلتزموا بأحكامه في حلاله وحرامه، ولتحملوا مفاهيمه العامة كقاعدةٍ منفتحةٍ على الجانب المشرق من حقائق الحياة، ولتتحرك خطواتكم في الطرق المستقيمة التي يشير إليها فكره النيّر ومنهجه السليم... {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأن في ذلك كله الرحمة كل الرحمة، التي لا تتمثل في القرآن كعاطفةٍ وانفعال، بل تتحول إلى منهجٍ للفكر وللحياة. وهذا هو التوجيه الإلهي الذي يريد للمؤمنين أن يجعلوا من القرآن كتابهم الذي يقرأونه قراءة وعي، ويستمعون له استماع تأمّل، وينصتون له إنصات خشوع وتفكير، ليتحرك في كل آفاق حياتهم، فيكون فكره هو الفكر الذي يحملونه لتتميز به شخصيتهم الفكرية عن كل فكرٍ آخر، وتكون شريعته هي شريعتهم، ليرفضوا به أية شريعةٍ أخرى من صنع الإنسان، وتكون وسائله وأهدافه هي وسائلهم وأهدافهم في خطواتهم العملية في الحياة... ولا يريد لهم أن يكون كتاباً للبركة أو للحفظ أو للتفاؤل والاستخارة أو غير ذلك من الأمور التي تبتعد به عن جوّه الرسالي الذي أراده الله هدىً للناس.

* * *

ذكر الله تضرّعاً وخيفة

{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} في إحساسٍ خاشعٍ بعظمته وبقدرته، وفي إيحاءٍ روحيٍّ بالتضرع إليه في ما يرجوه الإنسان وما يخافه، وبالتذلّل له في شعورٍ عميقٍ بالخوف منه ومن عقابه، لتعيش النفس مع الله في كل نبضاتها وخفقاتها وأفكارها ومشاعرها، حتى يكون الله هو كل شيءٍ فيها. فإذا تحوّل ذلك إلى ذكر، فإنه يكون ذكراً خافتاً من خشية الله. {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} في ما يشبه الهمس الذي يعبّر عن النبضة والخفقة والإحساس والإيحاء، كما لو كان حديث النفس الذي قد يقترب من حركة الكلمة في الشفاه، ولكنه يبتعد عن الصوت القويّ في الحناجر {بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ} ليكون ذكر الله هو البداية التي يبدأ الإنسان بها يومه، وليكون النهاية التي يختم بها ذلك اليوم، فذلك هو الذي يجدد لك اليقظة الروحية الإيمانية في روحك وفكرك وضميرك، {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ} الذين يعيشون الغفلة، فلا يشعرون بشيء من حولهم، وينسون الله في كل ما يحيط بهم.

* * *

حال الملائكة مع الله تعالى

{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} في ما يبتهلون إليه في الدعاء، وفي الذكر والصلاة، وفي كل أساليب الخضوع والخشوع، {وَيُسَبِّحُونَهُ} في إحساسٍ منهم بالعظمة الإلهية. {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} في تعبيرٍ عن العبودية الخالصة بكل معانيها وبكل أحاسيسها، في ما يمثّله السجود من الاستسلام الكلي لله، ومن الانسحاق أمامه، في روحية الإيمان وصفاء الروح.