المقدمة + من الآية 1 الى الآية 4
سورة التغابن
مدنية وهي ثماني عشرة آية
في أجواء السورة
وهذه سورة مدنية تتصل فيها النظرة الإنسانية بالجانب العقيدي في التصور الشامل للإيمان بالله في سعة قدرته، وشمول ملكه، وحاجة الإنسان إليه في وجوده وفي حركته، وإحاطته بكل أموره السرية والعلنية، ثم تطل السورة على اليوم الآخر، لتوجه الناس إلى الاهتمام بالمصير المحتوم الذي تحدده أعمالهم في الدنيا، من خير أو شر، ولتؤكد الحقيقة الكونية الإلهية في أن الأشياء كلها، في ما يصيب الإنسان، وفي ما تختزنه الحياة من مشاكل في داخلها، لن تحصل بعيداً عن التقدير الإلهي، لأن الله هو المهيمن على الأمر كله في ما قدره للحياة من نظامٍ وتدبير، فليتوكل المؤمنون عليه، وليسألوه الهداية من موقع إيمانهم العميق، وليطيعوه من موقع حاجتهم إليه، ومن قاعدة المصلحة التي تكمن في طاعتهم له ولرسوله، في ما تخطط لهم الرسالة في مضمون أوامر الله ونواهيه، لأن الله لم يأمر إلا بما فيه الصلاح لعباده، ولم ينه إلا عما فيه المفسدة لهم.
وإذا كانوا يلتزمون الخط الإلهي في مواقع العقيدة والعمل، فلا بد لهم من أن ينفصلوا عن كل شيءٍ يبعدهم عنه، مما يتصل بالعاطفة في ما يرتبط به الإنسان في علاقته بزوجته وولده، أو في ما يتصل بالرغبة في علاقته بماله، فقد يكون في الأزواج والأولاد أعداء له في الذات أو في الدين، وقد يكون في الاستغراق في المال والبخل به بعض الخطر على مصيره في الدنيا والآخرة.
ولذلك فلا بد من أن يبقى الإيمان بالله واليوم الآخر هو العنوان الذي يطل على كل علاقات الناس وأوضاعهم ونظراتهم في جانب التصور والعمل، بحيث يصدر كل شيء من خلال ذلك، ليعيشوا الوحدة في القاعدة التي ترتكز عليها تفاصيل حياتهم الذهنية والعملية، لأن الانطلاق فيها بعيداً عن القاعدة الواحدة يوقعهم في الازدواجية التي تجعل مواقعهم منفصلةً عن بعضها البعض، ما يؤدي إلى الضياع في متاهات الظلام.
وهكذا تكون السورة في تنوع موضوعاتها التفصيلية مرتكزةً على الفكرة التي تريد أن تؤكد الوحدة في الكيان الإنساني، على أساس أن يكون الإسلام لله هو الأساس الذي يرتكز عليه السلوك الإيماني في الفكر والعمل.
* * *
اسم السورة
وقد جاءت تسمية السورة باسم «التغابن» من خلال الآية الكريمة: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} في ما تريد الإيحاء به من أنّ يوم القيامة هو اليوم الذي يشعر فيه الناس بالغبن في ما حصلوا عليه من نتائج أعمالهم، سواء منهم المؤمنون والكافرون، لأن المؤمن كان يستطيع الاستزادة من الحسنات في ما أضاعه من الفرص الكثيرة التي تركها من دون عمل، ولأن الكافر كان يستطيع الحصول على الجنة من خلال الإيمان والعمل الصالح.
من الآية 1 إلى الآية 4
الآيات
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ* يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 1-4]
معاني المفردات
{الحمد}: قال الراغب: الحمد لله تعالى، الثناء عليه بالفضيلة، وهو أخصّ من المدح وأعمّ من الشكر[1].
تسبيح ما في السماوات والأرض لله
{يسبّح لله ما في السموات وما في الأرض} في تعبير الكون كلّه في وجوده وفي للغته الخاصّة عن تعظيم الله في خضوع كلّ الموجودات لقدسه وجلاله، {له الملك} فلا يملك أحد شيئاً إلاّ من خلاله، لأنّه المالك لكلّ شيء من موقع خلقه له، {وله الحمد} فهو الذي يمنح الأشياء كلّ مفردات الحمد فلا حمد لأحد أو لشيء إلاّ من خلال الخصائص التي يعطيها له، فله الحمد كلّه، {وهو على كلّ شيء قدير} فلا يعجز عن أيّ شيء مهما كان عظيماً، لأنّ الوجود كلّه منقاد إليه من موقع سيطرته عليه، فلا حدّ لقدرته في ما يريده منه.
وتلك هي الصورة الشاملة التصوّر الإنسانيّ لله، بحيث لا يرى هناك أيّ شيء حوله إلاّ ويرى الله مهيمناً عليه، ولا يرى عظمة لشخص أو ملكاً له إلاّ ويرى الله هو الأساس في ذلك كلّه، مما يوجب أن يصغر كلّ شيء في وعيه، وأن يتضاءل كلّ عظيم لديه أمام الله ليتحرّك في حياته من خلال هذا الموقع المطلق لله في وجدانه وفي حركته.
{هو الذي خلقكم} وهذه هي الحقيقة الوجوديّة التي تحكم وعي الوجود في حياتكم. فقد كنتم في حالة ضائعة في العدم، فأوجدكم الله بحكمته وقدرته، واطلق لكم حرية الاختيار في الالتزام بالخطّ الذي تريدونه فلم يفرض عليكم في تكوينكم الذاتي إيماناً ولا كفراً، فانطلقتم في الحياة من موقع الاختيار الجيّد لبعضكم، والاختيار السيّء لبعض آخر.
{فمنكم كافر} أساء عمليّة الاختيار فاغلق عقله وقلبه عن وحي الفطرة، وأغمض عينيه عن مشاهد العظمة في خلق الله، وابتعد عن التفكير في ما توحي به الظواهر الكونيّة التي تدلّ على الله بأبلغ تعبير وأعظم تحليل، فعاش اللامبالاة أمام كلّ علامات الاستفهام التي تتحرّك في وجدانه لتقود تفكيره إلى خطّ الإيمان بالله، فكفر به من حيث يستطيع الإيمان به.
{منكم مؤمن} اختار الإيمان بالله من خلال انفتاحه على عمق الفطرة وسعة التفكير ووعي الكون كلّه، في سرّ الإبداع فيه وفي صفاء التحليل بطبيعته، وروعة الاستنتاج من تفاصيله، فعرف الله في خلقه، فآمن به في كلّ وجوده، وخضع له في حركة حياته. {والله بما يعملون بصير} فهو المطلع على كلّ مواقع الإيمان والكفر في ما كنتم تتحرّكون به من أسبابهما، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة.
خلق السماوات والأرض بالحقّ
{خلق السموات والأرض بالحقّ} فلم يكن للباطل أيّ موقع في خلقهما، بل كان كلّ شيء فيهما منطلقاً من غاية وخاضعاً لحكمة، ومتحرّكاً في خطّة تربط الوجود كلّه برباط واحد يجعل لكلّ ظاهرة موقعاً يتصل ببعض المواقع الأخرى، لتكون كلّ واحدة مكملة للأخرى في تحقيق الهدف الكبير.
ولعلّ الإيحاء بالحقّ في خلق السماوات والأرض يشيء إلى الحقّ في خلق الإنسان وفي حركة وجوده، فلا مجال فيه للعبث ولا للباطل، مما يوحي بالمعاد الذي هو المظهر الحيّ للغاية التي خلق الإنسان من أجلها، ليواجه الإنسان في الآخرة نتائج عمله في الدنيا، لتكون لديه الجدّية في مواجهة كلّ الأشياء المحيطة به، وكلّ الأوضاع المجتمعة عنده على أساس الحقّ، في ما هي الحكمة في العمل، والغاية في مواقع الهدف.
{وصورّكم فأحسن صوركم} في ما تتمثّل به الصورة العامة للإنسان من تناسق الأعضاء، وترتيبها وتجهيزها بالأجهزة المتنوعة المتكاملة، في التحقيق النتائج العمليّة التي تنسجم مع الحكمة التي خلق الإنسان من أجلها في طاعته لربه وعبادته له، والقيام بمسؤوليته الكبرى في خلافته عن الله في إدارة شؤون الحياة، في نطاق قدراته الخاصة، فلا عذر للإنسان في التخلّي عن مسؤوليته العامة والخاصة، من خلال قدراته العقليّة والجسديّة، لأنّ الله قد أحسن تجهيزها في نطاق الصورة العامة بأحسن تجهيزها في نطاق الصورة العامة بأحسن تجهيز في أحسن صورة.
{وإليه المصير} الذي يقف الناس جميعاً في ساحته ليواجهوا نتائج قيامهم بدورهم المسؤول، أو نتائج ابتعادهم عنه، مما يفرض عليهم التدقيق في ما يأخذون به، أو في ما يدعونه من أعمال وأوضاع.
وقد حاول صاحب الميزان أن يستوحي من هذه الآيات فكرة البعث فقال ـ تعليقاً على هذه الآية ـ "وبهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث ورجوع الخلق إليه تعالى، فإنّه تعالى كان ملكاً قادراً على الإطلاق، له أن يحكم بما شاء ويتصرّف كيف أراد، وهو منزه عن كلّ نقص وشين، محمود في أفعاله، وكان الناس مختلفين بالكفر والإيمان، وهو بصير بأعمالكم، وكانت الخلقة لغاية من غير لغو وجزاف، كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخرى دائمة خالدة، فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر والإيمان، وهو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم ويشقى به كافرهم، وإلى هذه النتيجة يشير بقوله: {وإليه المصير}[2].
ونلاحظ على ذلك، أن دراسة هذه الآيات توحي إلينا بأن الغرض من تتابع الصفات، إيجاد الحالة الروحية العقيديّة التي تطلّ على الله في الشعور في صفاته، وعلى حركة الإيمان به في خط العمل، والإطلالة من خلال ذلك على مسألة البعث، كجزء من الهيكل الشامل للعقيدة لا كغاية من الحديث كلّه، لأنّ السورة لا تطرح الإيمان باليوم الآخر كمشكلة فكريّة، بل تطرحه على أساس ما يمثّله من مفردات العقيدة. والله العالم.
{يعلم ما في السموات والأرض} من موقع خلقه لكلّ الموجودات الحيّة والجامدة، الذي يفرض إحاطته الشاملة بكلّ خصائصها الوجوديّة، في ما هي البداية والنهاية وخطّ السير، وتفاصيل الأوضاع، وتلك هي الحقيقة الإيمانيّة التي لابدّ للمؤمن من أن يعيشها في وجدانه الإيماني ليشعر بالثقة، لأنّ الذي يتولّى تدبيره ورعاية وجوده، من موقع الحكمة والرحمة، يملك الإحاطة بكلّ الأشياء الخفيّة أو الظاهرة بكلّ دقائقها، فلا يغيب عنه شيء مما يحتاج إليه الإنسان في ما ينفعه، او مما يخافه في ما يضرّه، فيبادر إليه من موقع قدرته ليجلبه له، او ليدفعه عنه.
{ويعلم ما تسرّون وما تعلمون} فالإنسان مكشوف لله تعالى بسرّه وعلانيته. وهذه الحقيقة يجب أن تشكل هاجساً أساسياً ومحوريّاً للإنسان المؤمن في حركة حياته الخاصة والعامة، وفي إطار ما يتحمّله من أعباء ومسؤوليّات، فالله تعالى لا يخفى عليه من نوايانا وأفعالنا شيء، مهما كان الأمر خفيّاً ولطيفاً ودقيقاً قال تعالى: {والله عليم بذات الصدور}، وهي المنطقة التي يخفي الإنسان في داخلها أسراره الخاصّة، في ما يريد أن يقوم به من عمل مستقبليّ، او في ما تتحرّك به دوافعه في كلّ مشاريعه الخيّرة والشريرة.
فلابدّ إذن، من أن يستحضر الإنسان هذه الحقيقة في وعيه الإيمانيّ العمليّ، ليشعر بالحضور الإلهيّ الشامل في عمق وجوده، وليعيش في أجواء الرقابة الإلهيّة عليه، فتصفو بذلك نيّته، ويصلح عمله، وتستقيم خطاه في الطريق المستقيم.
**********