من الآية 5 الى الآية 10
الآيــات
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ* زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(5ـ10).
* * *
نبأ الذين خلوا من الكفار
وهذا حديث عن الذين تمردوا على الرسل، فكذبوهم من خلال بعض المفاهيم الخاطئة التي كانت تحكم تفكيرهم، فتدفعهم إلى الكفر بالله واليوم الآخر، ليعتبر الناس بهم، فيبتعدوا عن الخضوع لأفكارهم، ليأخذوا بخط الاستقامة في خط الإيمان بالله ورسوله، ليصلوا إلى الفوز العظيم.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} في ما أنزل الله بهم من العذاب في الدنيا، وهم قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم ممن أهلكهم الله بسوء عملهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة عندما يواجهون الموقف الحقّ بين يدي الله في يوم القيامة.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الواضحة التي لا مجال للشك فيها من قريبٍ أو من بعيد، ولكنهم أثاروا حولها الكثير من الكلمات العابثة اللامسؤولة، من أجل إثارة الشك حولها بالابتعاد عن التفكير في مضمونها الفكري، والاتجاه إلى التركيز على شخصية النبي في ما يتصل بقضية بشريته {فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}، فلا يمكن للنبي أن يكون بشراً ولا ينبغي لنا أن نخضع للبشر، لأن مواقعنا لا تسمح بذلك، لا سيما إذا كان هذا البشر من الطبقة الدنيا في المجتمع. فلو كان النبي ملكاً من الملائكة لكان للمسألة شيء من الجدية والقبول. {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ} عن الرسول والرسالة، على أساس هذا المنطق الذي لا أساس له من المعقولية، لأن قضية الرسالة إذا كانت معقولةً في ذاتها، فما المانع من أن يكون الرسول بشراً، بل ربما كانت المسألة المطروحة أن يكون كذلك حتى يمكن له أن يمثل الخط الواقعي في القدوة، عندما يريد من الناس الاقتداء به، على أساس التساوي في القدرات البشرية العامة، في ما يمكن للإنسان أن يتحمله من تكاليف وأوضاع. ولكن مشكلة هؤلاء أنهم لا يفكرون من موقع المسؤولية الفكرية، بل ينطلقون ـ في مواقفهم ـ من موقع الاستكبار الذاتي الذي يعيش أصحابه حالة الانتفاخ الداخلي، فيخيل إليهم أنهم يمثلون موقع الأهمية الكبرى في رفضهم الخضوع لله ولرسوله. ولكن الله يرد عليهم هذا الوهم الكبير، ليعرِّفهم بأنهم لا يمثلون شيئاً في ميزان القيم، فإن الله لا يحتاج إلى إيمانهم، بل إنهم يحتاجون إلى الإيمان للوصول إلى النتائج الصالحة في حياتهم الخاصة من خلال ما يحققه الإيمان لهم من طمأنينة الروح، وصفاء النفس، ووحدة الشخصية، ووضوح الهدف، وقوة الموقف من خلال الارتباط بقوة الله. ولهذا، فإن مسألة الكفر لا تضر الله شيئاً {وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} عن إيمانهم وعن وجودهم، ولهذا فلن يضره أن يعذبهم ويهلكهم ويلقيهم في نار جهنم، {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فلا حاجة به لأحدٍ من خلقه، وهو المحمود في فعله مهما فعل بهم.
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} فقد اعتبروا الحياة الدنيا نهاية المطاف، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما نحن بمبعوثين، لأنهم لم يسمحوا لأنفسهم أن يدرسوا المعنى العبثي في وجودهم إذا لم تكن هناك عنايةٌ حكيمةٌ ينتهي إليها أمر الوجود.
{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} فهذه هي الحقيقة التي أوحى بها الله إليّ في ما يعلمه من حدود خلقه في مسألة البداية والنهاية، مما لا بد من أن يؤمنوا بها انطلاقاً من أن العقل لا يرفض ذلك، ومن أن الوحي يؤكد ذلك. وإذا كانوا قد قالوها نفياً بطريق الجزم الذي لا أساس له لأنهم لا يملكون عليه دليلاً، لأن أقصى ما عندهم أن يثيروا الشك فيه إذا لم يكن لهم دليل قاطع على الإثبات، فإن عليك يا محمد أن تؤكد المسألة إيجاباً بطريق القطع، لأنك تملك من الأدلة القاطعة ما يمنحك الجزم بذلك في نفسك ومع كل الذين يحتاجون إلى المعرفة من الناس. ولا تقتصر على تقرير الموضوع في طبيعته الذاتية، بل ركز المسألة في نطاق الإيحاء بالمسؤولية المستقبلية في وجودهم الأخروي، في ما قدموه من عمل الشر. {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} في ما أحصاه الله من صغير الأعمال وكبيرها، لتواجهوا المسؤولية بشكل دقيق. {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، لأن الذي خلق الخلق كله، لا يعجزه إحصاء أعمالهم بعلمه الذي لا يغيب عنه شيء من شؤون خلقه.
{فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} لأن طبيعة المعطيات التي بين أيديكم من البينات الواضحة، تفرض عليكم هذا الإيمان، وتؤكد لكم طبيعة هذا الإشراق الداخلي للحقيقة الإيمانية في العقيدة والشريعة ومنهج الحياة، في هذا القرآن الذي أنزلناه ليكون النور الروحي الذي يشرق في عقولكم، ويمتد في قلوبكم، ويتحرك في وجدانكم الشعوري، فإنكم إذا تأملتموه وتدبرتم آياته، ووعيتم مفاهيمه، عرفتم أنه كلام الله الذي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]. ولكن مشكلتكم أنكم تغلقون على أنفسكم نوافذ المعرفة الحقة، بالابتعاد عن الانفتاح على الحقيقة من موقع التأمل، ولن تنفعكم كل هذه الاستعراضات الاستكبارية وكل التبريرات الاعتذارية، لأن الله مطلع على ذلك كله، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بكل ما توحي به الخبرة من معنى المسؤولية في الجزاء على كل الأعمال الشريرة في تاريخكم العملي.
* * *
ذلك يوم التغابن
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} الذي يجمع فيه الناس ليوم الفصل، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} الذي يفكر فيه كل فرد بأن الفرصة التي منحها الله له في الدنيا، في ما أعطاه من عمر وهيّأه له من إمكاناتٍ، كانت تحمل في داخلها الكثير مما كان يمكنه الحصول على نتائجه في الآخرة، بالمستوى الذي يعتبر فيه نفسه مغبوناً، إذا قارنها بالنتائج الحاضرة التي حصل عليها الآن، سواء أكانت نتائج إيجابية لأنه كان قادراً على أن يحصل على الأفضل منها، أم كانت نتائج سلبية لأنه كان متمكناً من الحصول على النتائج الإيجابية بدرجاتها المتفاوتة، فتكون المسألة أن الجميع لم يقدّروا الفرصة التي فاتت حق قدرها، تماماً كمن باع سلعته بأقل من ثمنها، حيث يعتبر مغبوناً. وفسره البعض بأن اعتبر التغابن بين أهل الضلال: متبوعيهم وتابعيهم، فالمتبوعون وهم المستكبرون يغبنون تابعيهم وهم الضعفاء، حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا وترك الآخرة، فيضلون، والتابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره ومغبون من غيره.
ولعل الأساس في هذا الوجه هو ملاحظة صيغة التفاعل في كلمة التغابن، ولكن الظاهر أنها لم ترد بهذا المعنى، لأن الظاهر أنّ المخاطب به كل فردٍ ممن يجمعهم الله، حيث يواجه الناس مواقعهم في يوم القيامة، فيحس كل إنسان بأنه مغبون في ما حصل عليه، لأن من الممكن أن يكون حظه أكبر. وقد نستطيع تطبيق الصيغة على التفاعل، وذلك بنحو التجريد، بأن يجرد الإنسان من نفسه شخصاً غابناً في ما توحي به نوازعه من أعمال، وشخصاً مغبوناً في ما يخضع له من مؤثرات ويتحرك فيه من خطواتٍ. وهذا مما يكثر الاستعمال فيه، في مواجهة الإنسان لنفسه، وجهاده لها، مع أنه لا مجال للتفكيك بين الإنسان ونفسه، إلا بنحو التجريد الذي يجعل في داخله نفساً أمارة بالسوء، ونفساً ناهية عنه، والله العالم.
{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} على أساس القاعدة الشرعية القرآنية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيِّئَاتِ} [هود:114]، فيرفع الله عن الإنسان سيئاته ببركة حسناته، {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} وهو الجزاء الكبير على استقامته في خط الإيمان والعمل الصالح. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يمثّل العنوان الكبير للنتيجة الطيبة التي يحصل عليها المؤمنون الصالحون، في مواجهة الخسارة التي تحصل للكافرين، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} لأنهم تنكروا للحق، وابتعدوا عن الله بعد أن قامت عليهم الحجة من كل جانب.
تفسير القرآن