تفسير القرآن
التغابن / الآية 14

الآية 14
 

الآيــة

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَولادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (14).

* * *

معاني المفردات

{تَعْفُواْ}: عفا: قال الراغب: عفوتُ عنه قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه[1].

{وَتَصْفَحُواْ}: الصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال الله تعالى: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}[2] [البقرة: 109].

{وَتَغْفِرُواْ}: الغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسّه العذاب.

* * *

الحذر من الخلفيات العدوانية لبعض الأزواج والأولاد

إن للعاطفة دورها الكبير في حياة الإنسان الشعورية، بحيث تقوده إلى الاستغراق العاطفي في الناس الذين يتصلون به بصلة القربى النسبية، أو العلاقة الزوجية المنطلقة في الجانب الغريزي، والعنصر العاطفي الحميم في ذاته، فيغفل عن الخلفيات العدوانية التي قد تكون كامنةً في داخل هؤلاء، لا سيما الأزواج والأولاد. وهذا هو ما تريد الآية أن تثيره في وعي الإنسان المؤمن كوسيلةٍ من وسائل الحذر الواقعي في مواجهته لهذه المسائل.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الذين يريد الله لهم أن يكونوا الواعين الحذرين المنفتحين على حقائق الواقع في العمق لا في السطح، في ما يتصل بالعلاقات الخاصة التي تحيط بالجانب العاطفي في حياتهم.

{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} كما يحذر الإنسان من عدوه في تعامله معه، ولا تستسلموا لهم استسلاماً عاطفياً لتوافقوا على ما يطلبونه منكم في شؤون الدين والدنيا، فقد يختفي في داخل كل واحد منهم عدوٌّ خفيٌّ يريد أن يورّطكم في غير مصلحتكم ويدفعكم إلى البعد عن الله، في ما هي المسؤولية الشرعية في الدعوة إلى دينه، وفي الالتزام به، وفي الجهاد في سبيله، فيزين لكم القعود والانحراف، والدعوة إلى سبيل الشيطان للحصول على متاع الدنيا من أهلها الذين يملكون الجاه والمال والسلطان، فتدخلون جهنم بسبب ذلك من خلال ما تحصلون عليه من غضب الله وسخطه. وربما كانت دعوتهم إلى بعض الأوضاع والخطط المتصلة بمصالحهم الذاتية في شؤون الأوضاع الاقتصادية أو السياسية أو نحوها مما لا مصلحة لكم فيه، أو مما تقعون فيه في مضرّةٍ كبيرةٍ، كما يحدث في الاقتراحات التي تدعو إلى إنفاق المال في غير محله، أو في الموارد المحرمة منه، أو البخل به عمن يستحقونه، أو في موارده الواجبة، أو في غير ذلك، وكمعاداة من تَحْسُن موالاته، أو موالاة من يريد الله معاداته، وكالدخول في بعض المحاور السياسية الضالة أو الكافرة مما لا يجوز للمؤمن الدخول فيه، وكتأييد بعض المواقف التي يجب رفضها أو رفض المواقف التي يجب تأييدها، ونحو ذلك من الأمور التي قد يطلب الأزواج والأولاد القيام بها لقصر نظر ذاتي، أو لشهوة حسيةٍ، أو لطمعٍ ماديٍ، أو نحو ذلك.

وهكذا في الأمور العاطفية وغيرها، فكونوا على حذر من ذلك كله، حيث تناقشون كل القضايا المطروحة عليكم أو الطلبات المقدمة منهم لتدرسوا فيها جانب المصلحة أو جانب المفسدة، ليكون قبولكم عن تأملٍ ودراسة عميقة، وليكون رفضكم عن وعي وتدبرٍ.

وإذا كانت الآية تتحدث عن الأولاد والأزواج، فإنها لا تتحدث عن خصوصيتهم، بل تتحدث عن النموذج الذي يرتبط بالإنسان المؤمن ارتباطاً عاطفياً، في ما يمكن أن يقوده إليه من الضلال من هذا الموقع العاطفي.

{وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقد جاءت هذه الكلمات لتثير في نفس الإنسان هذه المعاني التي تلتقي بالابتعاد عن كل النوازع النفسية السلبية أو كل الأعمال القاسية ضدهم في حال اكتشاف عداوتهم، لأن طبيعة الصلة القريبة قد تجعل من هذه المواقف الداخلية أو الخارجية مشكلةً صعبةً، تربك حياة الإنسان، وتعقِّد علاقاته، وترهق عاطفته، الأمر الذي أراد الله من خلاله أن يخفف عن الإنسان تأثيرات الموقف عليه في التزامه بموقف العداوة العملي الذي توحي به الآية، في ما يمكن أن يستوحيه الإنسان من مسؤولية الموقف، فكان هذا التوجيه التسامحي لوناً من ألوان التأكيد بأن اعتبار هؤلاء أعداءً لا يعني ضرورة مواجهتهم بالشدة وبالأخذ بالذنب، كما يواجه الإنسان عدوه، بل كل ما يعنيه هو الوقوف موقف الحذر الذي يتخذه الإنسان من عدوه، في عدم الاستسلام له، وعدم الاسترخاء أمامه.

وإذا غفر الإنسان لقريبه، فإن الله قد يغفر له إذا أصلح أمره، ولم يمتد به الانحراف بعيداً.

وربما كان الإيحاء بالمغفرة والرحمة الإلهية لمن عفا وغفر للمذنبين معه، بمعنى أن الله يجزي الذين يمارسون العفو عمن أساء إليهم بعفوه عنهم.

وربما كان ذلك على أساس تخفيف وقع استحباب المغفرة والصفح والعفو عن هؤلاء الذين ظهرت عداوتهم في أكثر من موقعٍ، وذلك بالإيحاء بأن هذه هي صفات الله، والتي تمثل القيمة العليا في أخلاق الإنسان العملية.

وقد جاء في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ـ محمد بن علي الباقر(ع) ـ في قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} وذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن لا تذهب عنا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيءٍ أبداً.

فلما جمع الله بينه وبينهم، أمر الله أن يتوقّى بحسن وصله لهم فقال: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[3].

ــــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:351.

(2) (م.ن)، ص:290.

(3) تفسير الميزان، ج:19، ص:323.