من الآية 15 الى الآية 18
الآيــات
{إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ* عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (15-18).
* * *
إنما أموالكم وأولادكم فتنة
{إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} يمتحن الله بها عباده، ليختبر كيف يتصرفون في أموالهم وأولادهم في مواقع طاعته، وكيف يواجهون الحالة النفسية المنجذبة إلى المال، في ما يمثله من الامتيازات التي يحقق بها الإنسان مطامحه ومطامعه، والذي يروي به شهواته وملذاته، ويكسب به الجاه العظيم والمنزلة الرفيعة لدى الناس الذين يعيشون المال كقيمةٍ ماديةٍ كبيرة في الحياة، ما يجعل الإنسان يحافظ عليه، فلا ينفقه في ما أمر الله به من موارد الإنفاق، أو يأخذه من غير حله، فلا يهمه أن يكون مصدره حراماً أو حلالاً، الأمر الذي يمثل لديه الموقف الصعب في الالتزام بالخط الشرعي في موارده ومصادره. وهكذا يختبر الله الإنسان في أولاده الذين هم زينة الحياة الدنيا، في الفرح العاطفي الذي يمتلىء به قلبه وتهتز به مشاعره عندما ينطلق إليهم في استغراقه الروحي العاطفي، وفي الشعور العميق بأنهم يمثلون امتداداً لحياته عندما تنقطع به الحياة، فيخيل إليه أنه موجود بوجودهم، فيدفعه ذلك إلى أن يعصي الله في رضاهم، وأن يقوم ببعض الأعمال التي تحقق لهم بعض المنافع والمطامع على حساب تكليفه الشرعي. وربما يسيء تربيتهم خوفاً من مشاعرهم الرافضة للخط المستقيم، فيخون أمانة الله في ذلك، في ما أراده الله منه، في توجيههم نحو الخلق السليم والدين القويم والطريقة المستقيمة في الحياة. وليس ذلك إلا من خلال انجذابه الروحي إليهم، واندفاعه العاطفي نحوهم، حتى ليبذل حياته في سبيل حياتهم، فيغفل عن واجباته، وينسى موقفه من ربه ومقام ربه منه.
ومن هنا، كان التأكيد على عنصر الفتنة في الأموال والأولاد، ليتعامل الإنسان في ذلك كما يتعامل مع كل فتنةٍ تفتنه عن الله وعن مسؤولياته في الحياة، ليؤكد وعيه المنفتح على الله، وعقله المنطلق مع العمق العميق من مصلحته الحقيقية في حسابات الدنيا والآخرة، وليوازن بين المصلحة الفانية التي قد تخفي في داخلها الكثير من الآلام والمفاسد في ما يأخذ به من شهوات الدنيا التي يحبها ويرغبها، وبين المصلحة الباقية في ما يقبل عليه من رضوان الله ورحمته في الآخرة، إذا أخذ بأسباب الرضوان والرحمة في عمله، فتعامل مع ماله وولده بما يرضي الله، وابتعد عما يسخطه، متحملاً في ذلك بعض التضحيات الذاتية، وبعض الالام العاطفية، لتتحول أمواله في الدنيا إلى حسناتٍ في الآخرة، فيبقى له منها ما يكون ذخراً له عند الله، وليكون أولاده من أولياء الله الذين يبقى له أجرهم في الآخرة ليعيشوا معه في جنة الله، لأن الله يجمع الصالحين مع ذرياتهم يوم القيامة في دار النعيم. وهكذا يتحرك الإنسان المؤمن في كل ما يملكه من حطام الدنيا، وفي ما يأخذ به من زينتها، لينظر إليه في مواقع المسؤولية التي تقربه من الطاعة، وتبعده عن المعصية، وليطلب به الأجر العظيم عند الله، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } في ما وعد به عباده من الثواب على طاعته.
* * *
فاتقوا الله ما استطعتم
{فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأن تقوى الله هي الغاية التي ينبغي للإنسان أن يبلغها في حركة المسؤولية في حياته، بحيث يشعر بالحضور الإلهي من جميع جوانبه، في مواقع المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، فتستقيم بذلك خطواته في الطريق المستقيم.
وإذا كان الله قد أمر بالتقوى بقدر الاستطاعة، فليس المقصود تحديد التقوى بهذا الحد، بحيث لا تحسن التقوى في ما وراء الاستطاعة، بل الظاهر أن المقصود بها هو بذل كل الجهد في ما تقوم به الطاقة الإنسانية في هذا السبيل، في إيحاء خفي بأن عليه تنمية طاقته فيها كلما استطاع الاستزادة منها، لأنّ التقوى تمثل القيمة العليا في ميزان القيمة عند الله. وبهذا لا يكون هناك أي تنافٍ بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] التي قد يستوحي منها البعض لزوم أن تكون التقوى بالقدر الذي يستحقه الله في موقع ألوهيته وربوبيته، مما يتجاوز حد الطاقة الإنسانية الطبيعية، لأن الظاهر منها هو التأكيد على نوعية التقوى التي تمثل جانب العمق في الالتزام، بحيث لا يكتفي الإنسان بالجانب السطحي الذي يرتبط بالصورة والشكل، بل ينفذ إلى المضمون الروحي المنفتح على الله في مواقع عظمته في داخله، بحيث يخشع قلبه أمام ذكره كما تخشع جوارحه. بينما تمثل هذه الآية استيعاب كل موارد الطاقة، ما يجعل النظر فيها إلى الكم، بينما تؤكد تلك الآية على النوع، والله العالم.
{وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ} فالسمع يفيد هنا الاستجابة الروحية والقلبية لأوامر الله ونواهيه، أي على الصعيد الداخلي، والطاعة تشكل التعبير الحي للانقياد العملي، في حين أن الإنفاق هنا يمثل بذل المال في سبيل الله.
وهذا هو المظهر الحي للتقوى. {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} قال في الكشاف: «نصب بمحذوف تقديره: ائتوا خيراً لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها وأنفع»[1]، ويحتمل أن يكون «أنفقوا» متضمناً معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام.
وقد جاء هذا التأكيد للإيحاء بأن الجهد الذي تبذلونه في الالتزام القلبي والعملي، والتضحية التي تقدمونها في بذل المال في سبيل الله، لا يمثل شيئاً من الخسارة في ما يمكن أن توحي به إليكم وساوسكم الشيطانية، لأن الثواب الذي تحصلون عليه من الله، والسمو الروحي الذي ترتفعون إليه في ذلك، يمثل الربح كل الربح، والفوز العظيم.
* * *
البخل مانع من الخير
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، الشح: البخل، وهو الصفة الذميمة التي إذا عاشت في وجدان الإنسان منعته عن كل خيرٍ، في ما يريد الله منه القيام به من بذل جهده في الطاعة، وبذل ماله في الخير، الأمر الذي يجعل التحرر منها بالسيطرة على نوازع الأنانية الذاتية التي تدفع إليها، من أفضل أسباب السعي نحو الفلاح، وذلك من خلال انفتاح الشخصية الإنسانية على مواطن الخير، ومواقع التضحية بالمال والنفس في مواقع طاعة الله تعالى.
* * *
الله شكورٌ حليم
{إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} في ما تقدمونه من المال للمحتاجين إليه من الفقراء والمساكين واليتامى والغارمين ونحوهم، {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} في ما يرزقكم في الدنيا من خزائن رزقه التي لا تنفد، حتى لا تشعروا بالخوف من الفقر إذا أنفقتم، فإن الله الذي رزقكم هذا المال يعدكم بأنه سيضاعفه لكم عندما تنفقونه في موارد رضاه، والله لا يخلف وعده {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} سيئاتكم فتحصلوا على الخير في الآخرة من خلاله، {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} يشكر لعباده أعمالهم التي يرفعونها تقرباً إليه، ويحلم عنهم إذا أساؤوا ورجعوا إليه يستغفرونه ويطلبون منه الرحمة.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الذي يطل بعلمه على آفاق الغيب وآفاق الحس، فيوحي لعباده بالرقابة الشاملة الدائمة، ويهيمن بعزته على كل مواقع العزة في الكون، {فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139]، كما يدير بحكمته الحياة كلها في خط التوازن الذي لا يختل عن ميزان الحق والثبات مقدار شعرة.
وهذه من الأسماء الحسنى التي يريد الله تعالى من عباده أن يذكروه بها، ليستقيم لهم التصور الصحيح لمقامه، ولتستقيم خطواتهم في طريق طاعته ورضوانه.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر (الخوارزمي)، الكشّاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:4، ص:116.
تفسير القرآن