تفسير القرآن
الملك / من الآية 15 إلى الآية 22

 من الآية 15 الى الآية 22
 

الآيــات

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ* أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاَْرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ* وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ* أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ* أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ* أَمّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ* أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (15ـ22).

* * *

معاني المفردات

{ذَلُولاً}: مطواعة.

{مَنَاكِبِهَا}: جمع منكب، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف، واستعير لسطح الأرض كما استعير الظهر لها.

{وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}: يرجع إليه نشر الأموات بإخراجهم من الأرض وإحيائهم للحساب.

{تَمُورُ}: الموْر: التردّد والاضطراب.

{حَاصِباً}: الريح التي تأتي بالحصى والحجارة.

{نكِيرِ}: النكير: العقوبة، وتغيير النعمة أو الإنكار.

{صَافَّاتٍ}: باسطات الجناح.

{لَّجُّواْ}: تمادوا في الابتعاد عن الحق.

{عُتُوٍّ}: العتو: عدم الخضوع للحق.

{مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ}: لا يرى ما في الطريق.

* * *

جولة كونية في خط الإيمان بالله

وهذه جولةٌ في رحاب الأرض وفي آفاق الفضاء في مفردات النعم وفي مواقع العناية الإِلهية بالإنسان، وفي امتداد القدرة التي ترعاه من خلال الهيمنة على كل شيء، لتذكير الإنسان بأنّ الله وحده هو الذي جعل الأرض مستقرّاً له كما يجب أن يكون الاستقرار، وأنه وحده الذي يملك له الأمن والحماية من كل شيء، دون غيره.

* * *

جعل الله الأرض ذلولاً

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً} كما هو الحيوان الذلول الذي لا يجمح ولا يضطرب بل يستكين لراكبه، فالأرض منقادةٌ مطواعةٌ بفضل ما هيّأه فيها من وسائل المعاش التي تشمل جميع الضرورات والشروط التي تمنح الإنسان الإمكانات الكفيلة بتأمين الراحة والحصول على كل حاجاته، والوصول إلى طموحاته المادية والمعنوية، {فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا} أي في ظهورها، لتبلغوا غاياتكم، {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} الذي وزعه في مواقعها بمختلف أَشكاله وألوانه من الحيوان والنبات، وتحركوا فيها كما يحلو لكم مستمتعين بنعم الله عليكم حتى تنتهي بكم الحياة إلى أجلها المحدّد لكم، في ما أعطاكم الله من عمر محدود.

* * *

إلى الله النشور

{وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} حيث تبدأون حياةً جديدةً تنشرون فيها من القبور بعد موتكم، وتواجهون الحساب، وتعرفون ـ على هذا الأساس ـ أن وجودكم في الأرض يتحرك من بداية الوجود التي تنطلق من إرادة الله في خلقكم وتدبيره لحياتكم، إلى النهاية التي تنفتح على العالم الآخر الذي تواجهون فيه نتائج المسؤولية.

{أأمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ} فيزلزلها بكم، {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} تماماً كما هو الموج في تردده أو اضطرابه بين المجيء والذهاب، ولعل المراد بمن في السماء الملائكة الموكلون ـ من قبل الله ـ بشؤون الأرض.

{أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} فيرمي عليكم الحصى والحجارة كما حدث لقوم لوط، {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} في ما يوجهه الله إليكم من الإنذار على كفركم وتمرّدكم على أوامره ونواهيه، لتفكروا كيف يتحرك غضب الله وسخطه في سلوككم المنحرف، بعد ما تستقبلونه من عذابه.

* * *

تذكيرٌ بمصير المكذّبين من قبل

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم السابقة التي تسيرون الآن على خطّها في الكفر والضلال، غير عابئين بالنتائج الخاسرة على صعيد مستقبلكم، {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} فهل رأيتم كيف كانت العقوبة الشديدة التي شكَّلت المظهر الحيّ لإِنكار الله عليهم ما فعلوه، وذلك بإهلاكهم واستئصالهم بمختلف الوسائل، فكيف تشعرون بالأمن على أنفسكم في أوضاعكم الضالة المستكبرة كلها؟!

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} عندما تبسط أجنحتها في الفضاء حال الطيران {وَيَقْبِضْنَ} أجنحتهن، فلا يسقطن بل يبقين في حالة تماسك، {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} بما أودع في خلقهن وفي الهواء الذي يتحركن معه من قوانين تكفل لهن التحرك بكل أمنٍ وحرّية من دون حاجةٍ إلى أي شيء يتعلقن به حتى لا يسقطن، تماماً كما هي بقية الأشياء من الظواهر الكونية المعلقة في السماء من دون عمدٍ، ومن المخلوقات الحية في حركتها، ومن الأرض كيف يمسكها من أن تزول، ليدرس الإنسان المسألة في نطاقها الظاهري الذي يتعلق به البصر في نظراته البسيطة، ليدفعه ذلك إلى التفكير بالأسرار الإلهية التي أودعها الله في القوانين الطبيعية في الوجود، ليكتشف ذلك من خلال بحثه وتدقيقه، ليعرف بذلك عظمة الله، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} فلا يغيب عنه شيءٌ من خلقه.

وقد جاء في الكشاف: «فإن قلت: لِمَ قيل: ويقبضن، ولم يقل: وقابضاتٍ؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها، وأمّا القبض فطارىءٌ على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافّاتٍ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارةٍ، كما يكون من السابح»[1] وهو توجيه طريف.

* * *

هل يملك الهيمنة على الكون إلا الله؟!

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ} لتستعينوا به على الله إذا أراد الله أن يعذّبكم بذنوبكم لينقذكم من عذاب الله، فأين هو وكيف هو؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} بفعل ما يعيشونه من العقلية الخياليّة المستغرقة في ذاتها وفي أوضاعها المحيطة بها، بعيداً عن كل النتائج السلبية القاسية التي تنتظرهم في بعض ما يأخذون به أو يدعونه.

وتلك هي مشكلة هذه النماذج البشرية البعيدة عن التطلع إلى الآفاق الواسعة التي يتسع لها الحاضر، ويختزنها المستقبل في الأمور التي يتبعونها تقليداً من دون أن يفكروا فيها وفي الأشخاص الذين يقلدونهم، أو يمارسونها انفعالاً وعاطفةً من دون أن يدققوا في العمق الكامن في داخلها، وليسوا مستعدين في الوقت نفسه أن يستمعوا للناس الذين يذكّرونهم بالحقائق الأصيلة الواضحة على صعيد الواقع، ليدخلوا معهم في حوارٍ حول ما هو الحق والباطل في المسألة، لأنهم غارقون في الغرور الداخلي الذي يعمي أبصارهم، ويغلق عقولهم عن الجانب الآخر من الموضوع.

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} فهل تستطيعون أن تشيروا إلى أيّ شخص، أو أيِّ مخلوقٍ من هؤلاء الذين تعتبرونهم آلهةً، أو تعبدونهم ليقربوكم إلى الله زلفى، لينزل عليكم المطر إذا حجب الله عنكم المطر أو ليعطي النبات حيويته ونموّه وثمره إذا أوقف الله ذلك عنه، أو نحو ذلك؟!

إنكم تعلمون أن الله وحده هو الذي يملك الرزق عطاءً ومنعاً، ولا يملكه أحدٌ غيره، لأنه المهيمن على الأمر كله، ولكنكم ـ باختصار ـ لا تفكرون، وإذا فعلتم، فليس في الاتجاه الصحيح، لأنكم لستم في طريق الوعي للمسؤولية في حاضر الحياة ومستقبلها، {بَل لَّجُّواْ في عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} فلم يستمعوا إلى كلمة الحق، ولم يخضعوا لها، بل تمادوا في الكفر والضلال والنفور من كل داعيةٍ للحق.

* * *

مَثَلُ الكفار والمؤمنين

{أفمَن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى} وهذا هو الاستفهام الذي لا يراد منه معرفة مضمونه، لوضوح الجواب فيه، ولكن أريد منه الإنكار على هؤلاء الذين يختارون في حياتهم ما لا يجوز للإنسان أن يختاره، لأنه مرفوضٌ من خلال دراسة طبيعة الأشياء في ذاتها.. فهل يمكن أن يكون الإنسان السائر في الطريق المملوءة بالمرتفعات والمنخفضات والمزالق والمهالك، وهو مكبٌ على وجهه لا يرى ما حوله وما أمامه، كمن يمشي بشكلٍ طبيعيّ وهو مستقيم في خطّه سويٌ في وضعه، {أفمن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم}، بحيث يرى كل ما يحيط به، وما يبـرز أمامه مما يمكن أن يواجهه من عثرات الطريق، ويتعرف إلى كل السبل التي توصله إلى الغاية التي يريدها، هل يكون هذا كذاك، وهل يمكن أن يكون الأول أقرب إلى الهدى من الثاني؟

إن هذا هو مثل الكفار والمؤمنين، فإن الكفار يعيشون العمى العقلي والروحي والعملي في حياتهم، لأنهم غير مستعدين للسماع وللتفكير وللحوار، ما يجعلهم يتخبطون في طريق الوصول إلى النجاة، فيهلكون من حيث يريدون النجاة، ويتراجعون من حيث يريدون التقدم، أمّا المؤمنون، فهم المنفتحون على الحق، في عقولهم ومشاعرهم وخطواتهم، فلا يسيرون في طريق إلا إذا عرفوا بدايته ونهايته، وخطّ السير فيه، ولا يلتزمون بقيادة شخصٍ، إلا إذا درسوا أفكاره وأوضاعه وسلامة خطه وصدق موقفه، ولا يلتزمون بفكرةٍ إلا إذا درسوها وتأملوها ودخلوا في الحوار حولها، ليحدِّدوا الحق والباطل فيها، فهم على نورٍ من ربهم، وعلى هدًى من أمرهم، وهم المستقيمون على الطريق.