تفسير القرآن
الملك / من الآية 23 إلى الآية 30

 من الآية 23 الى الآية 30
 

الآيــات

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تشكرون* قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ* قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ منْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* قلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} (23ـ30).

* * *

معاني المفردات

{ذَرَأَكُمْ}: الذرء: الخلق. والمراد بذرئهم في الأرض: خلقهم متعلقين بها.

{زُلْفَةً}: الزلفة: القرب.

{غَوْراً}: ذهاب الماء ونضوبه في الأرض.

{مَّعِينٍ}: الماء الطاهر الجاري.

* * *

قل لهم.. كل الكلمات التي تثير الفكر نحو الله

وتبقى الآيات في السورة لتثير في داخل الإنسان بعض القضايا المألوفة لديه في وجوده الذاتي، ليفكر فيها بطريقةٍ تحليليةٍ تؤدّي به إلى الإيمان بالله من موقع الفكر الدقيق الذي يطرح السؤال في بعض الحالات ليتفاعل في النفس، وليحصل على جوابٍ ذاتيٍّ من الداخل.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} من العدم، فهل فكرتم كيف كنتم قبل أن تكونوا في هذا الوجود، وَمَنْ الذي أخرجكم من قلب العدم إلى حقيقة الوجود مبتعدين عن الأسباب المباشرة إلى ما وراءها من الأسرار المحيطة بالوسائل العادية المادية، وإلى القوّة التي هي عنصر السببية الفعالة وحيوية الحركة، وهل فكرتم في السمع الذي تسمعون به كل الأصوات، وفي البصر الذي ترون به كل المرئيات، والعقل الذي تدركون به كل الحقائق التي تتوجهون إليها من خلال المفردات المتجمعة لديكم؟ كيف ركّبت في كيانكم؟ ومن هو الذي جهزكم بها؟ هل يمكن أن يكون مثل هؤلاء الذين من حولكم أو مثل هذه الأشياء الجامدة التي تتعبدون لها، وراء ذلك كله؟ أو أن الله وحده هو الذي جعلها لكم؟!. إن الفكر السليم هو الذي يقف بكم على حقيقة الوجود في كل هذه الأجهزة الحسية والفكرية التي لولاها لما كان لوجودكم معنى، وهو الذي أعطاكم الحياة، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ} التي تمثل النعمة العظيمة التي لا تدانيها نعمةٌ أخرى في وجودكم المادي، ما يفرض عليكم الوعي العميق لذلك أن تشكروا الله بالانفتاح على معرفته والسير على خط طاعته، ولكنكم غافلون عن ذلك كله، مستغرقون في أجواء اللامبالاة {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فلستم الذين تعيشون الشكر من ناحية المبدأ، لأنكم لا تتحركون من قاعدته الروحية. وربما كان المراد بالفقرة قلة الشكر وضعفه إذا كان قد حصل منهم في بعض الحالات.

{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ} فأودعكم سطح الأرض عندما خلقكم فيها، ومهّد لكم سبلها ومكَّنكم من خيراتها، وحمّلكم مسؤولية عمرانها، ووجهكم إلى كل مواقع الخير فيها، وحذّركم من كل مواقع الشرِّ فيها، وأرادكم أن تعبدوه في وحدانيته، وأن تطيعوا رسله، وأن تجعلوا من وجودكم فيها الوسيلة التي تقترب بكم من الله، لأن مسألة التفاعل المادي بينكم وبين الأرض وما فيها وما عليها، لا بد من أن يتحوّل إلى نوعٍ من الخضوع المادي لله في الأعمال المتصلة بالروح في ما تمارسونه من الحركة الواعية المنفتحة على الله، في آفاق الحقيقة الوجودية الأخرى التي تنفتح على الوجود الآخر في يوم القيامة عندما يبعثكم الله إليه بعد موتكم، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لتواجهوا الحساب عنده وتحصلوا على نتائج المسؤولية بين يديه، في ما عملتموه من خيرٍ أو شرٍّ.

وإذا كان الله يطلب من النبيّ(ص) أن يقول لهم عن بعض حقائق الحياة التي تطلّ على بعض حقائق العقيدة، وهي توحيد الله، فإن الله يحدثنا عما كانوا يقولونه ويثيرونه من أسئلة للتشويش على الرسول، وكيف كان النبي(ص) يجيبهم عن ذلك من دون إحراجٍ أو انفعال.

* * *

ويقولون متى هذا الوعد

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في سؤالٍ للنبي وللمؤمنين معه، عندما كانوا يحدثونهم عن يوم القيامة، وعن المسؤولية التي تنتظرهم نتائجها السلبية هناك، على أساس كفرهم وشركهم... فينقلون السؤال من الموضوع في طبيعته إلى مسألة الموعد المعيّن له، ليكون الحديث عن الجانب الجزئي من المسألة وسيلةً للابتعاد عن الموضوع في ذاته، لأنّ أيّ توقيتٍ يجيب النبي به سوف يكون مدعاةً للجدل وللتكذيب، باعتبار أنه لا يرتكز على أيّة قاعدةٍ حسيّةٍ مادية في مواقعهم، بل لا بد أنه يتحرك في المستقبل المجهول لديهم، ما يفسح لهم المجال للكثير من الضوضاء حوله.

ولكن الله علَّم رسوله أن يحدّد لهم الموقف الرسالي الذي لا يريد الرسول أن يبرز فيه كما لو كان عالماً بكل شيء، مستعداً للدخول في كل التفاصيل، لأن مهمته ليست هي الحديث عن توقيت هذا الحدث أو ذاك، لأن هناك من الأمور مما استأثر الله بعلمه، فهي من غيب الله الذي لم يُظهر عليه أحداً من خلقه حتى الأنبياء، لأن ذلك ليس جزءاً من رسالاتهم، باعتبار أن القضية الموكولة إليهم هي أن يوجّه الناس إلى الاستعداد ليوم القيامة، لا إلى موعدها، وهذا ما ركزت عليه الآية التالية:

{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} فهو ممّا استأثر الله بالاطلاع عليه { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فكل دوري هو أن أنذركم عذاب الله بشكلٍ واضحٍ لتقوم الحجة عليكم، وتتحملوا المسؤولية على هذا الأساس ليحيا من حيّ عن بينةٍ ويهلك من هلك عن بينةٍ من خلال حرية الاختيار.

{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي قريباً، عندما جاءهم الوعد الحق، فواجهوا الموقف الحاسم، {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} بفعل المفاجأة التي انتصبت أمامهم، حيث كانوا يسخرون منه وينكرونه، وشعروا من خلال ملامح وجوههم الحائرة الخائفة بالخيبة والخسران.

{وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} عندما كنتم تسألون عنه وتستعجلونه وتطلبونه وتتساءلون دائماً عن سخريةٍ أو حقيقةٍ: متى هذا الوعد؟ وقد يلوح من السياق أن الملائكة هم الذين يواجهونهم بهذا القول.

* * *

من يجير الكافرين من العذاب؟!

{قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن} قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر الله أن يقول لهم ذلك: أي قل لهم يا محمد: ما الذي ينفعكم لو أن الله أهلكني والمؤمنين معي أو أن الله رحمنا، في ما نأمله من رحمته، فماذا عنكم أنتم، وكيف تواجهون الموقف أمام الله، {فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فلن يغيّر الوضع الذي نكون عليه شيئاً من وضعكم، لأنكم ستواجهون العذاب على كفركم وجحودكم من دون أن ينصركم أحدٌ من الله.

{قُلْ} لهم في تأكيد الإيمان الحق الذي تلتزمه لتثير في وعيهم الشعور بالمسؤولية {هوَ الرَّحْمَنُ} الذي رحمنا في وجودنا وفي حركتنا فيه {آمَنَّا بِهِ}َ من خلال البينات الواضحات التي دلتنا عليه وعرفتنا به، {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} واعتمدنا، لأنه المهيمن على الأمر كله، فإذا توكل عليه عبده كفاه من كل شيء، ولكن ما الذي تفعلونه وعلام تعتمدون، وإلى أين تسيرون؟ فكيف تتصورون المنطلق، وكيف تفهمون الغاية؟ لا شيء إلا التمزق الداخلي، والحيرة القاتلة والضلال المبين {فَسَتَعْلَمُونَ} غداً عندما تحين اللحظة الحاسمة {مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} نحن أو أنتم.. فحاولوا أن تفكروا من الآن، لتعرفوا كيف تحددون الموقف قبل فوات الأوان.

{قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} بحيث ذهب في الأرض فلم يعد له أثر عندكم {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي طاهر جار، هل هناك غير الله؟