سورة القلم المقدمة - الآيات 1-7
سورة القلم
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية
في أجواء السورة
وهذه السورة هي من السور المكية التي تضع في عنوانها القلم والكتابة اللذين أراد الله للإسلام أن يتحرك من خلالهما بين الناس وتوجيههم إلى الانفتاح على المعرفة المقروءة والمكتوبة، ليرتفع مستواهم الثقافي العلمي، ولينطلقوا من خلالهما إلى تعريف العالمين بالقرآن المكتوب، وبالإسلام الذي تتنوّع أغراضه وتمتدّ معارفه في شتى فروع الحياة، وحركة الإنسان فيها، لأن ذلك هو السبيل الذي يُغني تجربة الأمة في فكرها وحركتها واندفاعها نحو المستوى الأعلى في التقدّم والارتفاع.
كما تؤكد على شخصية الرسول محمد(ص) في عقله الكبير الذي احتوى الرسالة، في الوحي الذي أنزل عليه، وفي الحكمة التي اختزنها، وفي التجربة الحية المعصومة التي حركها، وفي القيادة التي أدارها وقاد الأمة إلى الصراط المستقيم في خطواتها، وفي حركة الدعوة التي خطط لها في الأسلوب والكلمة والمضمون، حتى امتدت إلى آفاق الحياة الواسعة في وقت قصير، وفي خلقه العظيم الذي جسّد الرسالة بكل أَخلاقيتها الروحية والسلوكية، حتى استطاع أن يحوّلها إلى صورةٍ حيةٍ متحركة ليعطي الناس الفكرة من موقع القدوة، كما أعطاها لهم من قاعدة الدعوة.
وهكذا وضع له البرنامج العملي في مواجهته للفئات القلقة في المجتمع التي تمثل نماذج الأخلاق الشريرة التي تسيء إلى من حولهم. ثم تطوف السورة في أجواء القيامة لتتحدث عن المتقين وهم في جنات النعيم، وعن الكافرين وهم في عذاب الله وسخطه.
وتختم السورة الخطاب الرسالي للنبي بأن يتمسّك بالقوّة أمام كل التهاويل التي يحشدها الكافرون في طريقه، وذلك من خلال الصبر على حكم ربه في ما فرضه عليه من مواقف، ثم تطرح الحديث عن يونس(ع) صاحب الحوت الذي لم يصبر على ما عاناه من الشدّة في مواجهة الكافرين له.
ثم يأتي الحديث عن كلماتهم غير المسؤولة، ونظراتهم غير الحميمة في ما يثيرونه من تهمة الجنون، في طريقة تعاملهم معه، ليوحي إليه بأنّ المسألة ليست مسألتك الشخصية لأنهم كانوا يحترمون عقلك ووعيك وصدقك وأمانتك قبل ذلك، ولكن المسألة هي مسألة الذكر الذي أنزله الله عليك، فأحرجهم بتحدياته، فأثاروا الحديث بالجنون حول شخصك ليبطلوا أثره. فتابع سيرك، لأن القضية ليست قضيتهم، بل هي قضية العالمين الذين جاء الذكر ليكون ذكراً لهم جميعاً.
* * *
اسم السورة
وسميت بالقلم تبياناً لأهميته كوسيلةٍ من وسائل تحريك المعرفة عند الناس في ما ينتجونه من قضايا المعرفة بالله وبالكون وبالإنسان وبالحياة في آفاق العلم الذي يرتفع بالحياة إلى مستواها العظيم في القرب من الله.
ــــــــــــــــــ
الآيــات
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ* فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1ـ7).
* * *
معاني المفردات
{غَيْرَ مَمْنُونٍ}: غير مقطوع.
{الْمَفْتُونُ}: المبتلى في عقله.
* * *
قيمة القلم في المعرفة والحضارة الإنسانية
{ن}: من الحروف المقطعة التي تقدم الحديث عنها في سورتي البقرة والشورى.
{وَالْقَلَمِ} الذي يكتب به الناس {وَمَا يَسْطُرُونَ} أي وما يكتبون به من الشؤون المتعلقة بحياتهم الخاصة والعامة، في ما يحتاجون إلى توثيقه وتأكيده ليبقى أساساً للثبات في التزاماتهم وعلاقاتهم وأوضاعهم المتنوعة المرتكزة على بعض القضايا المتصلة بالمستقبل، في ما يجب أن يبقى شاهداً على كل تفاصيلها ومفرداتها.
كما يحتاجه الإنسان في كل قضايا المعرفة التي يتركها السابقون للاّحقين في ما يجعلونه منطلقاً لأفكار جديدةٍ، وقاعدةً لبناء ثقافيٍّ قويٍّ، ولتجربةٍ جديدةٍ تستلهم التجارب الماضية الباقية في وعي الأجيال اللاحقة.
وهكذا كان القلم الذي ألهم الله الناس أن يستخدموه كأداةٍ للكتابة، هو الأداة التي أعطت الإنسانية ثقافتها الواسعة، ومنحتها كل إمكانات التقدم والتطوّر والارتفاع، ولولاها لبقيت المعرفة تحت رحمة الكلمة المسموعة التي تبقى في دائرةٍ ضيقةٍ في نطاق الظروف المحدودة المحيطة بالإنسان، الخاضعة لحدود الزمان والمكان.
وبذلك كان من الأهمية الكبرى بحيث يكون في المستوى الذي يقسم الله به، كما يقسم بالأمور المهمّة من خلقه، في ما أنعم الله على العباد به من نعمه الكثيرة.
* * *
نفي الجنون بنعمة الله
{مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} فقد أنعم الله عليك بالعقل الواسع الذي جعلك في مستوى الذروة من القيادة، حيث اصطفاك الله من خلاله لرسالته، لتكون الرسول الذي يتلقى الوحي بعقله ليديره في فكره، ليعرف كيف يبلّغه، وكيف يحركه، وكيف يوجه الناس إلى الآفاق الرحبة من خلاله، وكيف يجعل منه المنطلق لثقافة الحياة وحركتها في الطريق التي يفتحها نحو الغاية التي يحدّدها، وليصنع منها الكثير مما تتنوع فيه مصادرها ومواردها، ليكون العنوان الذي يمنح الإنسان المعرفة الواسعة العميقة التي تتنوع وتتحرك لتقرّبه إلى الله، ولتجعله الجدير بأن يكون خليفته في الأرض، من موقع الطاعة والدعوة والحركة والانطلاق.
ولذلك فإن الكلمات التي تتهمك بالجنون، لا تملك عمقاً، في ما هو العمق من شخصيتك، ولا تملك سطحاً في ما هو السطح من حركة حياتك، ولا تملك الأفق في ما هو الأفق من امتدادات فكرك وانطلاقات وعيك وإيمانك، فلا قيمة لها مهما أثارت من الأجواء المعقّدة أو حركت من المواقع الملتوية، لأن الله يشهد لك بكفاءة العقل فيك، وبنفي الخلل عنك.
{وَإِنَّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع، لأنه ليس محدوداً بحدٍّ معيّن، فهو الأجر على الرسالة التي أعطيتها الكثير من جهدك ، وعانيت ما عانيته في سبيلها، حتى اهتدى الناس بها في ما بلَّغته من آياتها، واستقام الطريق في ما حدّدته من مناهجها، وانفتحت المعرفة على آفاق واسعةٍ جديدةٍ في ما أطلقته من أفكارها، فامتدت مع الأجيال لتعمّق إحساسهم بالإيمان بالله، ولتدفع بعقولهم إلى بناء الحياة على قاعدة الحق والخير والعدل بين يدي الله، فكان لك أجر ذلك كله، لأنك ركّزت الأساس وأعليت البناء ولامست الأعماق بالمحبة والرحمة، ولا تزال الرسالة تجري مجرى الأنهار ما بقيت الحياة، ولا يزال أجرك يمتد معها امتداد النور مع الشروق.
وربما احتمل بعضهم بأن المقصود بالمنِّ المنفيّ هنا، ذكر المنعم إنعامه وترديده على أسماع المنعَم عليه أو على أسماع غيره، فأريد هنا بيان أن الأجر مما يستحقه الرسول بما جعله الله له، فلا منّة عليه.
ولكن قد يلاحظ على ذلك بأن المسألة عندما تكون مع غير الله، فهناك مجالٌ للحديث عن نفي المنّة في أجره، ولكن عندما تكون المسألة في ما يمنحه الله من أجر، فإن الله يملك المنّة على كل خلقه، لأنه يملكهم ويملك أعمالهم، فليس لهم من ذلك شيءٌ، بل هو تفضُّل منه ـ تعالى ـ عليهم، وربما كانت الكلمة بهذا المعنى واردة على سبيل الكناية باعتبار ما تختزنه من معنى الثقل والإِذلال، ليكون المقصود هو أن هذا الأجر الذي يمنحه الله لا يحمل أيَّ معنًى من المعاني التي قد تثقل على شعوره، بل ينساب تأثيره في إحساسه انسياب الفرح الروحي في الأعماق.
* * *
إنك لعلى خلق عظيم
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} في رحابة صدرك، ورأفة قلبك، ورحمة إحساسك، ولين كلامك، ورقة شعورك، وحرصك على من حولك، وحزنك عل كل الآلام التي تعرض لهم، وانفتاحك على كل الناس، من أصدقاء وأعداء، بالكلمة التي هي أحسن، والأسلوب الذي هو أفضل، والنصيحة التي هي أقوم، والبسمة التي هي أحلى، والعطيّة التي هي أغلى، والروح التي هي أصفى، والقلب الذي هو أنقى، والقوّة في غير قسوة، والرفق في غير ضعف، والصبر في غير خوف، والتواضع في غير ذل، والعزة في غير كبر.. وهكذا كان الرسولَ الذي تتحرك أخلاقه في عمق رسالته، وتنطلق إنسانيته في ساحة مسؤوليته، وتلتقي شخصيته بكل الآفاق الرحبة في أبعاد حركته.
وبهذا كان التجسيد الحي لكل أخلاقية الرسالة، حتى تحول إلى قرآنٍ يتحرك بين الناس، ليقدم الفكرة بالكلمة، ويعمق الكلمة بالقدوة، فكانت كلماته رسالةً، وكانت أفعاله شريعة، وكان سكوته عما يراه ويسمعه وتقريره له ديناً يدان به، وكانت عظمته في خُلُقه المنفتح على الناس هي نفسها عظمته في نفسه وفي خلقه الرساليِّ الروحيّ في خشوعه لربّه، في كلّ نبضةٍ من نبضات قلبه، وكلّ همسةٍ من همسات روحه، وكل دمعةٍ من دموع عينيه، وكل ابتهالٍ في سبحات الصلاة والدعاء من ابتهالات وجدانه.
* * *
الله أعلم بالمضلين والمهتدين
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} ما يختزنه المستقبل القريب والبعيد، من انتصار الدعوة، وسلامة الحركة واستقامة الطريق، ورجاحة العقل، وعمق الحكمة في ما تدعو له وتقوده، في مقابل سقوط المعارضة، وخلل الفكرة، وسوء التدبير، وانحراف الطريق، وسوء العاقبة في ما قاموا به أو يقومون به من أعمال، وسيظهر للناس كلهم، في ذلك كله {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي من هو المفتون المبتلى في عقله وفي سلامة موقفه، فلا فائدة للدخول معهم في جدلٍ عقيمٍ حول ذلك، لأن هذه الأمور سوف تظهر في نتائجها النهائية.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} بما يعرفه من خفايا نواياه وأعماله، وما يظهره من أوضاعه وحركاته وخططه، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} في إخلاصهم له، وفي صدقهم معه، وفي جهادهم في سبيله.. وسيعرف كل واحدٍ موقعه ومصيره في الدنيا والآخرة، لأن الجميع سوف يقفون أمام الله، ليفتح الله لكلٍّ منهم صحيفة أعماله بكل جزئياتها في صغائر الأمور وكبائرها.
تفسير القرآن