تفسير القرآن
القلم / من الآية 8 إلى الآية 16

 من الآية 8 الى الآية 16
 

الآيــات

{فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ* وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ* وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ* مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ* أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ* إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ* سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (8ـ16).

* * *

معاني المفردات

{تُدْهِنُ}: تَلين.

{حَلاَّفٍ}: كثير الحلف. ولازم كثرة الحلف في كل أمر بأن لا يحترم الحالف شيئاً مما يحلف أو يقسم به.

{مَّهِينٍ}: المهانة، بمعنى الحقارة.

{هَمَّازٍ}: مبالغة من الهمز، والمراد به الغيّاب والطعّان.

{مَّشَّآءِ}: السعاية والإفساد، والمراد: نقل الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.

{أَثِيمٍ}: كثير الإثم.

{عُتُلٍّ}: العتلّ: الفظّ والغليظ الطبع.

{زَنِيمٍ}: لا أصل له.

{سَنَسِمُهُ}: سنضع عليه وسماً وعلامة.

{الْخُرْطُومِ}: الأنف.

* * *

رفض تبادل التسويات

وهذا حديثٌ قرآنيٌّ عن بعض الأساليب التي كان يتّبعها المشركون مع النبي(ص) في ما كانوا يثيرونه معه من التسويات التي قد تؤدي إلى التنازل عن بعض مواقف الرسالة الفكرية والعملية لمصلحة بعض مواقفهم الوثنية على أن يقدّموا له بعض التنازلات، ليحصلوا من خلال ذلك على اعتراف ضمنيٍّ أو صريح بالخط الذي يتحركون عليه، ليهزموا مصداقيته من خلال ذلك، كما روي في السيرة عن طروحاتهم التي كانت تطلب منه أن يعبد آلهتهم سنة، ليعبدوا الله معه سنة.

{فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} الذين كذّبوا رسالتك، وحاربوك في دعوتك وفي اتباعك في ما يعرضونه عليك من سبيلٍ للتوافق، لأنهم لن يطرحوا عليك خيراً، فإنَّ طبيعة تكذيبهم تقتضي أن يكون في طرحهم الكيد للإسلام وللمسلمين.

* * *

ودّوا لو تدهن فيدهنون

{وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} فتلين لهم في موقفك لتتنازل عن بعض ما تدعو إليه، مداهنةً ومجاملةً، على حساب الدعوة، فيلينون لك، في إيقاف ضغوطهم عليك وفي التزامهم ظاهرياً ببعض ما أنت عليه، حتى تظهر أمام الناس في موقف الرسول الذي لا يخلص لرسالته، ولا يثبت في موقفه، ولا يستقيم في طريقه، بل يعمل على أن يخضع للضغوط، ويلعب على المواقف، ويجامل الآخرين على حساب الله، وحتى يحصلوا على اعتراف بهم في بعض القضايا، ولا سيَّما في مسألة التوحيد، ما يدفع المؤمنين إلى الشك والاهتزاز في موقفهم مع الرسالة والرسول، من دون أن يخسر المشركون شيئاً، لأنهم لا يملكون قاعدةً فكريةً توحي بالاحترام، بل كانوا يتحركون من موقع المصالح الذاتية في كل خطواتهم في مجال العبادة والعلاقات.

وفي ضوء ذلك، فإن المسألة تمثّل جانباً كبيراً من الخطورة، وتدفع إلى الكثير من المشاكل الصعبة التي تنعكس على حركة الرسالة، ما يفرض على الرسول وعلى الدعاة من بعده الحذر كل الحذر من كل العروض التي يطرحها الكافرون والمشركون عليهم، في ما قد يوحي بالمهادنة والتسويات والمرونة العملية، حتى لا يقعوا في المهالك التي أعدوها لهم، على صعيد الرسالة، وعلى مستوى الواقع.

* * *

صفات هؤلاء المدهنين

{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} من هؤلاء الذين يكثرون الحلف على كل شيء مما يثيرونه أمام الآخرين، أو مما يختلفون فيه معهم، من القضايا المتعلقة بالدين وبالحياة وبالأوضاع المحيطة بهم، سواء أكانت حقاً أم باطلاً، لأنهم لا يشعرون بالثقة في أنفسهم، أو بثقة الناس بهم، ولذلك فإنهم يلجأون لتأكيد الثقة إلى أسلوب الحلف، ولو على حساب المقدّسات التي يحلفون بها، كما في الحلف بالله، حيث يسيئون إلى موقع عظمته بالقسم به في قضية كاذبةٍ أو باطلة. وإذا حدّقت بهؤلاء في ما يتصفون به من صفات أخلاقيةٍ على صعيد الواقع، فسترى المهانة النفسية، والحقارة العملية التي توحي بكل سقوطٍ وانحطاطٍ..

{هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ} والهمز هو الطعن بالناس بإثارة الحديث حول عيوبهم بالعين والإشارة وبغيرهما بالحق والباطل، والنميمة هي السعاية والإفساد اللذان يؤديان إلى الفتنة بين الناس وإفساد علاقاتهم ببعضهم البعض من خلال نقل الحديث الذي يسيء إلى سلامة العلاقات، وهكذا يتمثل هؤلاء في النموذج البشري الشرير الذي لا يريد الله للنبي ولمن بعده من المسلمين الدعاة، الاستسلام إليهم، والطاعة لهم، بالطعن بالناس والسعي لإفساد علاقاتهم بنقل الأحاديث التي يسمعها من هنا وهناك، ليوغر صدور بعضهم على بعض، وليدفع بالواقع إلى المزيد من الخلافات والنزاعات، فهو حاقدٌ على المجتمع وعلى كل مظاهر الأمن والمحبة والخير فيه.

{مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} فلا يعمل الخير، ولا يسمح لأحدٍ أن يقوم به، مستخدماً كل الوسائل التي تتيح له أن يكون حاجزاً بين الناس وبينه. {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} فهو يعمل على الاعتداء على الناس في ما لا يملك حقاً فيه، كما يمتد في الإثم الذي يتمثل بالأعمال الشريرة التي يرفضها الله سبحانه، {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ} والعتلُّ هو الفظ الغليظ، وقيل: إنه الفاحش السيّىء الخلق، أو الجافي الشديد الخصومة بالباطل {زَنِيمٍ} وهو الذي لا أصل له، أو الدعيّ الملحق بقومٍ وليس منهم، والمعنيان متصادقان، وقيل: هو المعروف باللؤم، وقيل: هو الذي له علامةٌ في الشرّ يعرف بها، وإذا ذكر الشرّ سبق هو إلى الذهن. وهما يعيشان في جوّ واحدٍ. هذه هي الصفات التي كانت تتمثل في أولئك الذين كانوا يعيشون في مجتمع الدعوة الأول ممن قد تكون لهم وجاهةٌ اجتماعيةٌ، ومنزلةٌ اقتصاديةٌ، تؤهلهم أن يقدّموا طروحاتهم المشبوهة للنبيّ، ليبطلوا موقعه الروحيّ الثابت على الحق بصلابةٍ.

* * *

مصير المستكبر المتغطرس

{أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} فقد كان المال الذي يملكه، والبنون الذين كانوا عنده، يبرران له الموقف المستكبر المتغطرس الذي لا يخضع للحق، ولا ينقاد للحجة الواضحة، ويدفعانه إلى الكفر والبطر، بدلاً من أن يقوداه إلى الإيمان والشكر، لأنهما يمثلان نعمة الله عنده.

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} فينطلق الحكم على الآيات بأنها تمثل المضمون الخرافي تماماً كما هي القصص الخرافية التي ينقلها الناس عن الأمم السابقة، من دون أن يدقق في ذلك بعقله ليعرف طبيعة المضمون الفكري العميق الذي يتضمنه الوحي الإِلهي في آيات الله.

{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} وهو الأنف الذي يمثل موقع العزة في وجه الإنسان، كما يقال: شمخ فلان بأنفه، والمقصود أن الله سوف يضع على أنفه علامة العذاب والذل ليعرفه كل من يراه بصفته الحقيرة في يوم القيامة.