تفسير القرآن
القلم / من الآية 17 إلى الآية 33

 من الآية 17 الى الآية 33

الآيــات

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلاَ يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ* فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ* أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ* فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ* أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ* وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ* فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ* قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ* قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ* عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ* كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (17ـ33).

* * *

معاني المفردات

{لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}: ليقطعُنَّ ثمار الجنة في بدايات الصباح.

{كَالصَّرِيمِ}: البلاء، والمراد الشجر المقطوع ثمره.

{صَارِمِينَ}: عازمين على الصرم والقطع.

{حَرْدٍ}: منع.

* * *

من النماذج القلقة في خط الانحراف

وهذا نموذجٌ آخر من نماذج الناس الذين يستغرقون في المال الذي يملكونه، فيُنسيهم ذلك المعاني الإنسانية والمنطلقات الروحية التي تربط الإنسان بالجانب الخيّر من الحياة، ويدفعهم إلى المزيد من الطغيان المادي والبخل الذاتي، وإلى الأمل الكبير بالامتداد في ما هم عليه. ولكن الله يفاجئهم بالصدمة الكبيرة التي تقضي على كل الأمل من خلال القضاء على كل ما لديهم من مال، فتدفعهم الصدمة إلى التفكير بطريقةٍ أخرى بعد فوات الأوان.

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أي هؤلاء الذين وصفهم الله بالصفات الشريرة التي كانت تطبع كل شخصياتهم المنحرفة، فقد كان المال الذي أعطاهم الله إيّاه اختباراً لهم، كيف يتعاملون معه، وهل أن المال يلغي إنسانيتهم بزخارفه وإيحاءاته المغرية، أو أن الإنسانية المنطلقة من موقع القيم الروحية المنفتحة على الله من جهةٍ وعلى الإنسان المحروم من جهة أخرى، هي التي تنتصر على إغراءات المال وتهاويله. وقد سقطوا في هذا الاختبار، فتغلّب عنصر المال لديهم على عنصر الإنسان في داخلهم، كما سقط غيرهم في ذلك، {كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} التي كانوا يملكونها ويعتزون بها ويعتبرونها الأساس في إغناء حاجاتهم الحياتية وفي تلبية أوضاعهم الاجتماعية، ولذلك كانوا يتعهدونها بكل الوسائل التي تتوفر لديهم في المحافظة عليها من كل سوءٍ، كما كانوا يبادرون إلى قطف ثمارها عند نضوجها بحيث لا يفوتهم شيءٌ منها، ولا يسمحون لأيّ شخص من الانتفاع بها، وهكذا رأيناهم في هذه الصورة القرآنية {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي ليقطعُنَّ ثمارها في بدايات الصباح قبل أن يراهم أحد.

{وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} في ما قد يحدث من بعض الطوارىء التي تمنعهم من ذلك، كما يفعل بعض الناس عندما يتحدثون عن أيّ عمل يريدون القيام به في المستقبل، فيقولون سنفعل ذلك إن شاء الله، أو إِلاَّ أن يشاء الله خلافه، وربما كان المعنى أنهم لم يعتبروا في اتفاقهم نصيباً للفقراء والمساكين ليعزلوه لهم ليكون استثناءً من حصتهم. وهكذا عاشوا التمنيات الصباحية في ليلهم الأسود في ثقةٍ كبيرة بأنهم سوف يبلغون ما يريدونه، فيقطفون ثمار هذه الجنة ليحصلوا منها على المال الوفير.

{فَطَافَ عَلَيْهَا} أي على الجنة {طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} في ما يرسله الله إلى بعض عباده من البلاء المتنوّع الذي يطوف بأرزاقهم وأجسادهم، من رياحٍ عاصفةٍ وأمراضٍ فاتكةٍ، وأوضاع قاسيةٍ، ونيرانٍ محرقةٍ {وَهُمْ نَآئِمُونَ}.

{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي كالشجر المقطوع ثمره، أو كالليل الأسود ـ في المعنى الآخر للصريم ـ لما اسودّت بإحراق النار التي أرسلها الله عليها، أو كالقطعة من الرمل التي لا نبات فيها ولا فائدة. والمهم في كل هذه المعاني أن الجنة لم تعد لها أيّة نتيجة ماديةٍ على مستوى آمالهم الكبيرة.

{فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ} تبعاً للاتفاق بينهم ليجتمعوا للذهاب إلى الجنة في بداية الصباح {أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} إن كنتم قاصدين لقطع الأثمار من الأشجار. وهكذا ستجابوا للنداء {فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} في حديث خافت يحذرون فيه أن يسمعهم أحد، وهم يتآمرون ويتواصون فيما بينهم.

{أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} من هؤلاء المساكين الذين يتجمعون حول البساتين في مواعيد قطف الثمار، ليحصلوا على شيءٍ منها من خلال ضغط طلباتهم الملحّة التي قد تحرج أصحابها فيبادرون إلى الاستجابة لهم.

* * *

انكشاف الحق

{وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} في اتفاقهم على منع المساكين، في حالةٍ نفسيةٍ حاقدةٍ وقرارٍ حاسمٍ على إتمام المهمّة المقرّرة من دون أيّ عائقٍ طارىء، في ما يخيّل إليهم من القدرة المطلقة التي يملكونها في هذا المجال، وهنا كانت المفاجأة التي أسقطت كل آمالهم وأحبطت كل مشاريعهم.

{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ} فكيف حدث هذا، وما هو السبب، ومن هو الجاني؟ إن الجوّ لا يوحي بأيّ جواب، ما يجعلنا نعيش في حالةٍ من الضياع في طبيعة المسألة في ظروفها وأسبابها الخفيّة. ومرّت عليهم سحابة ثقيلة من الألم والشعور بالخيبة والحرمان: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} فقد فقدنا كل شيء، ولم يعد لدينا ما نؤمّله من المال الذي نقضي به حاجاتنا، ونحصل به على رغباتنا، فكيف نتصرف وماذا نفعل أمام هذا الجو الذي يوحي باليأس؟!

{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} وهو الذي يملك الحدّ الوسط أي المعتدل في تفكيره، لأنه يرصد الأمور بعقلٍ متوازن، يدرس الواقع من خلال أسبابه المادية وعناصره الروحية الغيبية المتصلة بالله بما يبتلي به بعض عباده، بالطريقة الغيبية التي لا تخطر على بال أحد، لأنه الذي قد يسلب الإنسان رزقه من حيث لا يحتسب، كما قد يرزقه من حيث لا يحتسب.

وقد كان هذا الإنسان يتحدث إليهم بالانفتاح على الله والإيمان به، والحذر من عقابه في انحرافهم عن طريقه المستقيم، وكانوا لا يسمعون له، فلما رآهم وهم مستغرقون في دراسة الحسابات المادية من خلال الأجواء المحيطة بهم، وغارقون في المشاعر النفسية السلبية المسحوقة تحت وطأة الحرمان، التفت إليهم وقال لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} في التفاتكم إلى عظمة الله في قدرته، ما يفرض على كل عباده ـ وأنتم منهم ـ أن يسبّحوه ويخضعوا له ويطيعوه، في التزام أمره ونهيه، وفي الإيمان بغيبه، في ما يمكن أن يفعله في دائرة حكمته، ليتركوا الأمور كلها معلقةً بمشيئة الله، وخاضعةً في وعيهم الإيماني لإرادته التي لا يعجزها شيءٌ مهما كان عظيماً.

ورجعوا إلى أنفسهم، وانكشفت عن عقولهم أغشية الغرور والكبرياء التي كانت تحجبهم عن رؤية النور المشرق من وحي الله، في ما جاءت به رسله من توحيده، ونفي الشركاء عنه، وسعة قدرته في تدبير شؤون خلقه.

* * *

تلمّس الهداية

{قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ} العظيم في لطفه، والعظيم في عقابه {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فقد ظلمنا أنفسنا بالشرك الذي ضللنا في غياهبه، وبالاستغراق في أوضاعنا المادية حتى لم نعد نبصر إشراقة الروح في عقولنا، وظلمنا الحياة من حولنا عندما تحركنا في ساحاتها بالشرّ والفساد والأنانية والكبرياء، وظلمنا الناس الفقراء الذين يعيشون في حياتنا، بالامتناع عن مساعدتهم ممّا رزقنا الله من النعم الوفيرة التي أرادنا أن نمنحهم منها في ما جعله من حقٍّ للسائل والمحروم.

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} يَلُومُ كلُّ واحدٍ منهم صاحبه على ما قاموا به من ظلمٍ وانحرافٍ عن الخط المستقيم، {قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} في ما سوّلت لنا شياطين الشرّ في أنفسنا من الطغيان الذاتي على مقام ربنا، وعلى الناس من حولنا، فلم نستطع أن ندرك جيداً حجمنا الطبيعي في عبوديتنا لله التي تفرض علينا أن نتعرف حدود قدرتنا وطبيعة حاجتنا المطلقة إليه، كما نتعرف حدود مسؤوليتنا في أنفسنا، وفي ما نملك من مالٍ وجاهٍ ونحوه، وكيف يجب أن نجعل كل حياتنا مظهراً متحركاً لعبوديتنا لله.

إنه النداء بالويل الذي يحس به الإنسان وهو يرى نفسه على حافة الهاوية التي تقوده إلى الهلاك، وتتصاعد الحسرة في نفوسهم، ثم تبدأ الرغبة في آفاقها الروحية لترتفع إلى الله الذي أدركوه في مواقع رحمته في ما شعروا به من آفاق عظمته، وبدأت الأمنيات الروحية خلافاً لتلك الأمنيات المادية، في حركةٍ ابتهاليةٍ خاشعةٍ تهزم اليأس في نفوسهم.

{عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ} وهو قادر على كل شيء، الرحيم بعباده الراغبين إليه الراجعين إليه بعد طول هروب منه، وانحراف عن خط هداه، فإن الذي أعطانا الجنة ثم أخذها منا بعد أن كفرنا، قادرٌ على أن يبدلنا خيراً منها بعد أن شكرنا وآمنا به {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}، ولا نرغب في سواه، لأنه وحده المدبّر لأمور عباده، المهيمن على الأمر كله.

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ} الذي يمكن أن يحدث لكل الناس الذين يأخذهم الغرور بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، فيأخذهم الله أخذ عزيزٍ مقتدر، فيحرمهم ويعاقبهم من حيث لا يشعرون {وَلَعَذَابُ الآخرةِ أَكْبَرُ} لأنه العذاب الذي لا مجال فيه للخلاص، لأنه لا مجال فيه للتوبة والعودة إلى الله من جديد، كما هو الحال في عذاب الآخرة، {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ما يجب أن يفكروا فيه، لينتهوا إلى النتيجة المثلى، في حياتهم في الدنيا والآخرة.